تطوّر قطاع النفط والغاز المصري خلال السنوات القليلة الماضية بسرعة اكتشافاً وتسويقاً، وتمّ ربطه باتفاقات عدّة مع دول في حوض البحر الأبيض المتوسط من بينها إسرائيل، وتخطط مصر اقتصادياً للاستغناء عن استيراد مشتقات الطاقة ورفع نِسَب النمو الاقتصادي لتوازي أو تظل متفوقة على نسبة الزيادة السكانية، ولأن تكون مركزاً إقليمياً ودولياً لتجارة الطاقة في البحر المتوسط، ومنافسة تركيا وباقي الدول على المكانة والدور على مستوى المنطقة. ولذلك ترى القاهرة في قطاع الطاقة عامّة وحقل «ظُهْر» الغازي خاصّة بارقة أمل للخروج من شرنقة الاستدانة والعجز المالي. من بين أسباب اتفاقها مع إسرائيل على صفقة الغاز، مقاضاة الأخيرة لها وتغريمها في نيسان 2017 مبلغ ملياري دولار لصالح شركة الكهرباء الإسرائيلية، على خلفية التوقف عن إمداد الشركة بالغاز أوائل عام 2012، بسبب تفجير الأنابيب في سيناء عشرات المرات. لذا ارتأت مصر أنّ تساير إسرائيل بعقد اتفاقية استيراد غاز منها لمدة 10 سنوات بقيمة 15 مليار دولار، لتسييله في محطاتها في دمياط وإدكو على البحر الأبيض المتوسط، مقابل تنازل إسرائيل عن حكم التعويض. وبحكم العلاقة السياسية الوطيدة بين نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي والكيان الغاصب، انضمت إسرائيل إلى رؤية مصر بشأن تجارة الطاقة في المنطقة التي تبلورت بشكل منتدى لتجارة الغاز.
على هذه الخلفية الاقتصادية، أعلنت القاهرة في 14 كانون الثاني الماضي، إنشاء «منتدى غاز شرق المتوسط» مقرّه القاهرة، وهو سوق غاز إقليمي يهدف «لخدمة مصالح الأعضاء من خلال تأمين العرض والطلب»، وهو يضم 7 دول هي: إسرائيل والأردن واليونان وقبرص والسلطة الفلسطينية ومصر وإيطاليا، وهو ما يشعل المنافسة مع تركيا وروسيا، وباقي دول حوض المتوسط، لا سيما أن قبرص اليونانية ـ العضو في المنتدى ـ تواجه ممانعة تركيا العمل في مياهها الإقليمية. كما يتزامن إطلاق المنتدى مع المراحل الختامية من مشروعي روسيا لإمدادات الغاز: «السيل الشمال» باتجاه ألمانيا و«السيل الجنوبي» باتجاه تركيا، ومنهما إلى المستهلك الأوروبي.
ستسعى الصين وروسيا وإيران إلى إفشال احتكار الطاقة في المتوسط بيد مصر


من جهته، يسعى لبنان إلى استئناف ضخ الغاز المصري الذي توقف أيضاً إثر عمليات التفجير في سيناء، والذي وقّع عقده مع القاهرة عام 2009، ريثما تبدأ عمليات التنقيب واستخراج النفط والغاز التي سوف تحلّ تدريجياً محل مستورداته من النفط والغاز، وفي مرحلة تالية الإفادة من عائدات البيع. في هذا السياق، يمكن لنا تلمّس جهود الدول الإقليمية والدولية المنافسة للولايات المتحدة وتوجهاتها في المنطقة، فـ «منتدى غاز شرق المتوسط» هو تحالف تجاريّ بين دول يهدف ـ فيما يهدف إليه ـ لخدمة رؤية واشنطن في محاولة تخفيف اعتماد أوروبا على روسيا في إمدادها بالنفط والغاز، فيما ستسعى الصين وروسيا وإيران وباقي دول الحوض المتضررة من هذا التحالف إلى إفشال احتكار الطاقة في المتوسط بيد مصر، وذلك يحتاج إلى تسخير هذه الدول قدراتها واستثمار شركاتها النفطية بمليارات الدولارات في هذا القطاع، وستجد في لبنان وسوريا، وهما خارج المنتدى، منصّة مواجهة بوجود فرصة للتعاون معهما في هذا القطاع وامتداداً إلى التواجد السياسي، فسوريا لديها كميات جيدة من النفط والغاز بمحاذاة شواطئها الجنوبية قبالة بانياس وطرطوس وكميات كبيرة في عمقها البري الشمالي الشرقي، فيما لبنان يحتاج إلى ظهير سياسي لمواجهة الضغوط الأميركية والإسرائيلية لإتمام خطوات استخراج ثرواته.
لقد عبّر الرئيس التنفيذي لأكبر شركات النفط الروسية «روس نفط» إيغور سيتشين، بأنّ عقد تأهيل وتوسعة محطة تخزين منتجات نفطية في طرابلس شمال لبنان لمدة عشرين سنة، وهو عقد بسيط مقارنة باهتمامات الشركة ومشاريعها، له بعدٌ يتعلق «بالتوجهات الاستراتيجية لتطوير الشركة» و«بتعزيز وجودها في المنطقة»، و«بتطوير التجارة الدولية للشركة»، وأنّه يتطلع إلى «توسيع التعاون مع لبنان وتنفيذ عدد من المشاريع المحتملة الأخرى في قطاع النفط والغاز في هذا البلد» (وكالة أنترفاكس الروسية في 24/1/2019). ونظرة عامّة على أعمال الشركة في المنطقة، تعطينا فكرة عن ضخامة نشاطاتها، وهي بالأصل نشاطات مخطّطة وموجّهة، لذلك، يعتبر الكاتب الأميركي سايمون هاندرسون من معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، أنّه «على الرغم من أن مشاركة موسكو في أنشطة الطاقة البحرية السورية تأتي ظاهرياً ضمن إطارات فنية وتجارية، إلا أنّه لن يُنظر إليها على أنها حسنة النيّة. وسوف تلبّي هذه الأنشطة مصلحة أصيلة لروسيا» (سايمون هندرسون، معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، «اتفاق الغاز البحري بين روسيا وسوريا يضيف عاملاً جديداً إلى محادثات السلام» في 27/12/2013).

الكباش حول لبنان
من المتوقّع أنّ يشتدّ الكباش حول لبنان في القطاع الغازي والنفطي بين الدول الكبرى، كلّما تقدّم في إنجاز برنامجه الزمني لاستخراج النفط، وسيبدو كَحَمَلٍ ضعيف وُلِد للتّو وسط جماعة أسود، باعتبار أنّ سوريا قد سلكت ضمن النفوذ الروسي بعد موافقة الرئيس السوري بشار الأسد في كانون الأول 2013، منح روسيا امتياز التنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية السورية لمدة 25 عاماً، وبتمويل روسي (وكالة الصحافة الفرنسية في 26/12/2013)، فيما لبنان تبني فيه الولايات المتحدة أحد أكبر سفاراتها في الشرق الأوسط، ويجتهد دبلوماسيوها في الضغط على الدولة اللبنانية للتنازل عن امتيازات وحقوق لها في الحدود البحرية والمتضمنة حقولاً غازيّة، لصالح إسرائيل، كما وتحتكر أميركا تسليح الجيش اللبناني بالمعدّات الأميركية والغربية حصراً وتجبر بيروت على رفض أي تسليح روسي أو إيراني، فهي بالتأكيد لن تتغاضى عن القطاع النفطي والغازي اللبناني الذي سيرفع القدرة المالية والاقتصادية للبنان، ربطاً بإجراءاتها لمنع تمويل حزب الله والاستفادة من الوفرة المالية لهذا القطاع، وربطاً أيضاً بمحاصرة روسيا، بحسب هندرسون، لأنّ «اكتشافات الغاز الطبيعي في شرقي البحر الأبيض المتوسط، والتي تعدّ كبيرة من المنظور الإقليمي رغم كونها صغيرة من المنظور الدولي، لا تزال قادرة على تقويض الوضع المهيمن لروسيا كمورد للغاز الطبيعي إلى غرب أوروبا». تنشأ من هذا الواقع مسألتان: الأولى، لها علاقة بالأمن القومي المصري والعربي أيضاً (الأردن والسلطة الفلسطينية) الذي سوف يحرص على عدم تضرّر منتدى تجارة الغاز وأعضائه ومن بينهم إسرائيل، على خلفية مشاكلها مع لبنان، وقد صدرت دراسة لمعهد أبحاث الأمن القومي الصهيوني التابع لجامعة تل أبيب، تفيد بأن ربط مصالح العرب التجارية مع إسرائيل يحقّق للأخيرة تعاوناً كبيراً مع هذه الدول، وذكرت بالاسم أنّ حماس وحزب الله قد يستهدفان هذه المصالح وحرّضت الدول العربية عليهما لأنّهما يهددان إمدادات الغاز لمصر والأردن وفلسطين المحتلة (موقع عربي 21، «دراسة إسرائيلية حول مكاسب صفقتي الغاز مع مصر والأردن» في 13/3/2018)، ومعلوم أنّ حزب الله هدّد في شباط 2018 على لسان أمينه العام سماحة السيد حسن نصر الله بقصف منصّات الغاز الإسرائيلية في البحر إن اعتدت إسرائيل على الحقول البحرية الغازية اللبنانية.

يجتهد دبلوماسيو واشنطن في الضغط على الدولة اللبنانية للتنازل عن حقوق لها في حقول غازيّة لصالح إسرائيل


والثانية، أنّ لبنان قد ينجرّ إلى بيئة قد يجد نفسه فيها متحيّراً في طريقة تعامله مع الواقع الجديد، فهو من جهة يهمّه الانضمام إلى منتدى يؤمن له أسواقاً لبيع إنتاجه، لكن ذلك قد يكون متعذّراً بوجود عضو فيه يناوئه وهو إسرائيل، على خلفية النزاع الحدودي البري والبحري وتبييته الفرصة للانتقام من لبنان وحزب الله بسبب تجرّؤه على التصدي لإسرائيل واحتلالها أراضيه ومن ثمّ إخراجها ذليلة عام 2000. وإن حصل أن انضم ـ بفعل الظروف والضغوط عليه ـ إلى المنتدى، فذلك سيكون مدعاة تفجير داخلي لبنيته الاجتماعية وسلمه الأهلي. ومن جهة أخرى، وجود مصلحة للبنان في أن يكون شريك «المجال الحيوي» مع سوريا حيث حدوده ومتنفّسه البري، وبالتالي المواءمة مع خيارات الدول التي ترعى سوريا ومحور الممانعة والمقاومة، وظهيره العالمي روسيا والصين.
* كاتب لبناني