لندن | بعد تحفّظها طويلاً على حراك «السترات الصفر» المستمر منذ 13 أسبوعاً، تحركت أخيراً بعض اتحادات العمّال الفرنسيّة وقررت بعد طول سبات الدخول طرفاً في المواجهة مع الحكومة الفرنسيّة من خلال إضراب مقرر له أن يبدأ اليوم الثلاثاء تحت لافتة مطالب مطابقة لتلك التي تظاهر من أجلها الفرنسيون وسقط من أجلها أكثر من 1700 جريح تعرّضوا لقمع قاس من قبل قوات النظام. ومن غير المعروف بعد فيما إذا كانت بقيّة الاتحادات والنقابات ستنخرط في هذا الإضراب، وبالتالي تحويله إلى إضراب عام شامل. متظاهرو «السترات الصفر» الذين أثاروا إعجاب العالم بشجاعتهم وثباتهم يأتي معظمهم من طبقة "البريكاريا" الجديدة من العاملين بالوظائف المتّسمة ببساطتها التقنيّة وضعف بدلاتها الماليّة وانعدام الأمان الوظيفي فيها، كما في مطاعم الوجبات السريعة وسلاسل المقاهي ومراكز خدمة العملاء ومهمات التوصيل وتجارة التجزئة وتوضيب طلبات الشراء في مستودعات الشركات الكبرى، إلى جانب الكثيرين من البروليتاريا الذين فقدوا أعمالهم إثر الأزمة الماليّة العالميّة ــــ ولم يستعيدوها قط ــــ وكذلك الطلبة الذين يضطرون للعمل في وظائف وضيعة لتغطية تكاليف تعليمهم الجامعي، فكأنهم في مجموعهم طبقة جديدة من عمال مؤقتين ــــ يختلفون عن طبقة البروليتاريا التقليديّة ــــ يستعان بهم عند وجود حاجة إليهم، بينما يرسلون إلى الطريق دون أيّ حقوق أو ضمانات عندما تنتفي تلك الحاجة في إطار نموذج عمل جديد دون عقود أو وفق عقود قصيرة الأجل أو حتى عقود صفريّة ــــ أي عند الطلب ــــ وهو نموذج تغطيه معظم حكومات الغرب بوصفه يخدم مصالح الأعمال في الظروف الاقتصادية الصعبة، وفي الوقت ذاته يقلّل من أرقام البطالة الرسميّة. هؤلاء "البريكاريون"، رغم افتقادهم قيادة محرّكة مركزيّة، وانعدام صلتهم بأيّ من الأحزاب المعروفة في البلاد، أظهروا صلابة وعناداً وتوحداً في مواجهة عنف الدولة الفرنسيّة الجسدي والمعنوي إلى مستوى أثار قلق ماكرون ونظامه ودفعهما للبحث عن مخارج، قبل أن تتطور الأمور باتجاه ثورة تامة تطيح المنظومة النيوليبراليّة الحاكمة في فرنسا بمجملها، ولا سيّما أن خدعة "الحوار الوطني" والتراجعات التكتيكية عن الضرائب الجديدة، بل والعنف الشديد، فشلت جميعها في إجهاض الحراك.
لكن "البريكاريا" التي تفتقر بحكم طبيعة حراكها إلى الخبرة التاريخيّة، ولا يتوفرّ لديها حزب ثوري يمكن أن يطوّر الإطار النظري لتوجيه حراكها، وتمتاز بفقدانها المستحقّ للثقة باليسار الغربيّ المتعجرف ــــ أمثال "سيريزا" الذي يدير اليونان لمصلحة رأس المال المعولم و"بوديموس" الإسباني الذي اعترف بمنتحل صفة تريد الاستخبارات الأميركية تنصيبه رئيساً رغم أنف الشعب الفنزويلي، بينما يقمع السياسيون الكاتالونيون بالقوّة لمصلحة الحكم الملكيّ ــــ كما اعتزالها للعمليّة البرلمانيّة كما هي في الغرب بوصفها ديكورات لديموقراطيّة زائفة تخدم النخب والبورجوازيات دون المهمشين. البريكاريا تكاد تكون مقبلة على ارتكاب خطأ البروليتاريا الفادح في نضالات القرن العشرين بقبولها التشبيك مع اتحادات العمّال التي لم تتخلّف يوماً عن التآمر مع النخب الحاكمة لتدجين الطبقة العاملة وتفريغ شحنتها الثوريّة. تشبيك سيؤدي في نهايته إلى حرف مسار «السترات الصفر» المشرع حتى الآن نحو تحقيق انتصار نوعيّ على ماكرون رمز النخبة الفرنسيّة المهيمنة. الفرنسيون من الجيل السابق يعلمون تماماً دور تلك الاتحادات في خسارة إنجاز ثورة طلاب الـ 1968 التاريخيّة.

إضراب غلاسكو
قبل أيّام قليلة، احتفل اليسار الاسكتلندي بمرور مئة عام على إضراب غلاسكو 1919، وفيه نموذج كلاسيكيّ للدّور الذي يناط باتحادات العمّال كدرع تقي الطبقة الحاكمة من غضب عمالها. وتلك حكاية تروى، إذ إن كثيرين حول العالم لا يعرفون شيئاً عن ذلك الإضراب. كان تصاعد الصراع الطبقي في بريطانيا إلى مستويات غير مسبوقة بعدما دفعت الطبقة العاملة أثمان الحرب العبثية بين بورجوازيّات أوروبا (فيما يعرف شعبياً بالحرب العالميّة الأولى) وانتهت فئات واسعة من الاسكتلنديين الفقراء تحديداً بلا وظائف أو بلا معيل، بينما يعمل المحظوظون منهم عدد ساعات لانهائيّ مقابل رواتب تضاءلت قيمتها في وظائف بلا حقوق أو امتيازات. وقد ألهمت الموجة الثوريّة التي اجتاحت أوروبا بعد الثورة الروسيّة 1917 وتسببت في هزّ الطبقات الحاكمة عبر القارّة، طبقة البروليتاريا في غلاسكو حينها لإطلاق إضرابها في 27 يناير 1919 للمطالبة بتحسين ظروف الاستخدام وقصر العمل على 40 ساعة أسبوعيّاً، لينطلق عشرات الآلاف من عمال المدينة مضربين ومتظاهرين في الشوارع، فأصابوا غلاسكو بالشلل. لندن، وموظفوها المحليّون في الإقليم الاسكتلندي اعتبروا أن هذه الإضرابات ليست مطلبيّة، وإنما مسيّسة من قبل اليسار، وشجعوا أرباب العمل على التعنّت. لكن اللافت أن اتحادات العمّال وقتها نأت بنفسها عن هذا الحراك العمّالي الواسع النطاق، ورددت اتهامات الحكومة البريطانيّة عن لاقانونيّة الإضراب. بعد أربعة أيّام من المناوشات مع الشرطة، تجمّع ما يقارب الستون ألفاً أمام مقر بلديّة المدينة في جورج سكوير، مطالبين اللورد بروفوست ــــ رئيسها ــــ بالردّ على مطالبهم بوصفه ممثل الحكومة في المدينة. استجابة الحكومة كانت بأن أطلقت عليهم قوات البوليس لمحاولة تفريقهم ليقع الآلاف جرحى في ما عرف بـ«الجمعة الدامية». لكن العمّال مع ذلك قاوموا، ولم ينته اليوم إلا والراية الحمراء تعلو خافقة في قلب الميدان الشهير. أصيبت الحكومة البريطانيّة وقتها بالهلع من إمكان تطوّر إضراب غلاسكو إلى "ثورة بلشفيّة" أخرى تمتد إلى كل اسكتلندا، وربما بقيّة المملكة، ولا سيّما أن الطبقة العاملة البريطانية بمجموعها كانت تعيش الأحوال البائسة ذاتها. وهكذا أُصدرت الأوامر للجيش بالزحف بالدّبابات على المدينة وإنهاء الحالة الثوريّة مهما تطلّب الأمر. وبينما كانت القوات تسيطر على المدينة بسهولة تامّة لانعدام أدوات المواجهة الفاعلة، كان من الواضح أن العمّال لن يسلّموا بسهولة وأن مذبحة شاملة قد تحدث في المدينة وتشعل غضب العمّال في كل اسكتلندا التي كانت لتلتهب وتحيي في قلوب المواطنين آمال الاستقلال عن حكم الإمبراطوريّة. لم تجد السلطات لينقذها من هذه الورطة سوى قيادات اتحادات العمّال التي تحركت بفعاليّة، مستفيدة من حماية القوات المسلحة للتأثير على المضربين المتفرقين وحثّهم على تجنب الخسارة الباهظة في الأرواح، مقابل منحهم تنازلاً من الحكومة بإمرار تشريع يقصر أسبوع العمل الى 47 ساعة. وهكذا كان. نقلت المصادر وقتها عن أندرو بونار لو، وهو أحد قادة حزب المحافظين البريطاني الحاكم قوله: "اتحادات العمّال كانت خط دفاعنا الأخير قبل الفوضى الشاملة. بدونها كانت حالتنا بالفعل ميؤوساً منها".
"البريكاريا" الفرنسيّة يجب أن تتخطى خدعة اتحادات العمّال، وإلا ستنتهي كما رفاقهم عمال غلاسكو قبل مئة عام: قبول بشروط عبوديّة محسّنة لا أكثر.