فاللجوء إلى حماية السلطة السورية يعني السير ضمن شروطها، وهي لم تُظهر حتى الآن أيّ نية بقبول حلّ سياسي توافقي مناسب للأكراد. فما تريده دمشق هو أن يكون للأكراد إدارة موسّعة وأن تعمل قوات سورية الديمقراطية تحت إمرة الجيش الرسمي، بينما يطمح الجانب الكردي بتعديل دستور 2012، والحصول على إدارة ذاتية، مع الاعتراف بالأكراد كقومية ثانية، وبحقوقهم الثقافية، وتخصيص موازنة مالية للمنطقة التي تشكل ثلث مساحة سورية، وتضم 90 في المئة من الاحتياطي النفطي، ونصف الغاز السوري، وغالبية الإنتاج الزراعي من القطن والحبوب.
اللجوء إلى حماية السلطة السورية يعني السير ضمن شروطها
جاء الردّ التركي بالتمترس وراء خط الثلاثين كيلومتراً للمنطقة الآمنة، بسبب وعيه للصراع بين الرئيس ترامب والدولة العميقة، وعدم الوضوح الروسي حول الشمال السوري وشرق الفرات، إضافة إلى أنّ وعي تركيا العميق لما يعنيه تسليم الورقة الكردية لدمشق دفعَها للتمسك بقوة بالمنطقة الآمنة، حيث جاء الردّ الروسي سريعاً بطرح اتفاقية أضنة على بساط التفاوض. واتفاقية أضنة تنصّ على مبدأ المعاملة بالمثل، بامتناع الطرفَين عن القيام بأيّ أعمال تهدّد أمن الطرف الآخر، إضافة إلى أن الملحق رقم 4 في الاتفاقية ينصّ على أن إخفاق الجانب السوري في اتخاذ التدابير والواجبات الأمنية، المنصوص عليها في هذا الاتفاق، يعطي تركيا الحقّ في اتخاذ جميع الإجراءات الأمنية اللازمة داخل الأراضي السورية حتى عمق 5 كم. فإن طرح هذه الاتفاقية حالياً يعطي الحق لدمشق بالمثل. كما أن الاتفاقية نتجت عن إرهاب كردي يهدّد الأمن القومي التركي، فالأمن القومي السوري مهدّد حالياً بسبب إرهاب مدعوم من تركيا، ما يعكس الآية، وهو ما تحاول روسيا والحكومة السورية فعله لجعل اتفاق أضنة متوازناً من الطرفين، حيث تضمن تركيا عدم دعم الجهاديين مقابل ضمان دمشق عدم دعم الأكراد. ما يعني أن التسوية المفترضة بالنسبة لشرق الفرات أدخلت إدلب في معادلتها وهو ما استشعرته «جبهة النصرة» (هيئة تحرير الشام) بأن إدلب عائدة إلى الدولة السورية لذلك قامت بالهجوم للاستيلاء على كامل المحافظة، استباقياً، لمنع أي تفاوض على حسابها. وفي ظلّ صمت إيراني مطلق حول ما يجري في الشمال والشرق ينتقل الصراع الصفوي العثماني من صراع ديني عقائدي إلى صراع قومي، وتنتقل معاهدة قصر شيرين إلى اتفاقيات آستانا.
وعي تركيا العميق لما يعنيه تسليم الورقة الكردية لدمشق دفعَها للتمسك بقوة بالمنطقة الآمنة
فالأكراد الذين لم يتعلّموا من دروس التاريخ جيداً، وآخرها الاستفتاء على الانفصال عن العراق والاستقواء بأعداء العرب، سيعودون حالياً، مع صدور قرار الكونغرس غير الملزم للرئيس الأميركي دونالد ترامب بمعارضة الانسحاب الأميركي من سوريا، لتكرار الرهان على حلفاء غير مضمونين مع علمهم التام بأن أي حركة انفصالية مرفوضة منذ اتفاقية «سايكس ــ بيكو» ومعاهدة لوزان، وتعاميهم عن العمق التاريخي للدولة الأمة التي قضوا تاريخهم تحت ظلها، بسبب طغيان الفكر العروبي على الأقليات المنضوية تحت ظل الجامعة العربية. وإذا كانت معاهدة واستفاليا المتزامنة مع معاهدة قصر شيرين نجحت في إرساء مفهوم الدولة الأمة في حين لم تفلح الجامعة العربية في إيجاد صيغة جامعة تحت هذا المفهوم، ولما كانت مثل تلك الصيغ تحتاج إلى أحداث عنيفة لتنتجها فهذا هو الوقت المناسب لإنتاج صيغة «الأمّة هي الحلّ» عوضاً عن «الإسلام هو الحلّ»، وذلك يكون بتضافر جهود العقلاء من العروبيين والأقلويين لإنتاج صيغة جامعة يتمترس الجميع وراءها استعداداً للاستحقاقات القادمة وتكون من إنتاج محلي وبمفاهيم وشروط مقبولة للجميع.
أثبت التاريخ أن المصطلحات والمفاهيم التي أنتجت الواقع الحالي كانت نتاج أفكار وتجارب خارجية طبقت بشخصانية مطلقة ولمصالح إقليمية ضيقة، لذلك فمن المفترض إيجاد حامل جامع لصيغة «الأمّة هي الحلّ» تكون نقطة البداية لعقد اجتماعي سياسي يرسي قواعد الدولة الأمة بما يكفل حقوق المواطنة بعيداً عن الأكثريات والأقليات للجميع.
* كاتب سوري ـــــ «مركز المشرق للدراسات الاستباقية»