لندن | مع بداية كانون الثاني/ يناير هذا العام، تسلّم الرئيس البرازيلي المنتخب، جايير بولسنارو، الضابط السابق في الجيش والمحسوب على اليمين المتشدد، مهمات منصبه بعدما كان قد فاز بفارق مريح على منافسه فيرناندو حداد، مرشح حزب «العمّال»، في الانتخابات التي جرت في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، في ما عدّه مراقبون خسارة ذات أبعاد تاريخية ليس لليسار في البرازيل، أكبر دول أميركا الجنوبية، فحسب، بل للطبقات العاملة وللمجموعات الملونة والسكان الأصليين عبر أميركا اللاتينية كلّها.ربما لم يزل الوقت مبكراً بعض الشيء للقبول بأن صعود بولسنارو هزيمة تاريخية الأبعاد، ولم يكن مجرد خسارة سياسية مرحلية أفرزتها ظروف محلية في بلد نجح خلال ثلاثين عاماً، على رغم كلّ المصاعب والتنازع الطبقي، في الاحتفاظ بنظام تبادل ديمقراطي للسلطة، عبر ثماني دورات انتخابية فاز حزب «العمّال» اليساري بأربع منها محتفظاً بالسلطة طوال ثلاثة عشر عاماً (2003 -2016)، قبل أن تطيحه منها أزمة سياسية عميقة انتهت بعزل ديلما روسيف من الرئاسة، وإلقاء لولا دا سيلفا، زعيم الحزب، في السجن بتهم فساد جدلية الطابع. لكن الإشارات الأولية لا تدفع إلى الاطمئنان كثيراً؛ إذ إن أولى قرارات الرئيس الجديد كانت التضييق على البعثة الطبية الكوبية التي ـــ لسنوات طويلة ـــ وفّرت الكوادر اللازمة لتشغيل نظام الصحة الوطني الموجّه لخدمة فقراء البلاد ومهمشيها، بعدما عجزت السلطات البرازيلية عن توفير كوادر محلية له، وهو الأمر الذي اضطرت معه الحكومة الكوبية إلى سحب البعثة وتعليق التعاون مع النظام الجديد(1)، وليلحقها بعد أيام بالتآمر لتسليم روائي ومناضل شيوعي إيطالي(2) متوارٍ عن الأنظار منذ عقود للسلطات اليمينية في إيطاليا، كبطاقة تعارف مع مخترعي الفاشية في العالم، والذين لم يكونوا على موعد مع مثل تلك الهدية المفاجئة. لكن أخطر الإشارات على الإطلاق هي في هامش الارتياح الذي منحه وصول بولسنارو للسلطات الأميركية، على نحو سمح لها بتصعيد المواجهة مع النظام البوليفاري في فنزويلا إلى مستوى الانقلاب العلني. أمر لم تكن لتقدم عليه واشنطن بهذه الصلافة لو بقي حزب «العمّال» البرازيلي في السلطة.
بالطبع، ليس بولسنارو فاشياً بالمعنى التقني للكلمة. فغالبية الـ55% من الناخبين البرازيليين التي صوّتت له ليس لديها أي إدراك لمعنى الفاشية، بما فيها ملايين الأميين، بينما النخبة البرجوازية أشبه ما تكون بمثيلتها الأميركية، حيث الأيديولوجيات شديدة التسطيح ولا صوت يعلو فوق المصالح. في المقابل، بقيت قطاعات واسعة من الطبقة العاملة وفية لحزب «العمّال»، ولا سيما في نصف البلاد الشمالي، حيث صوّت 70% من الناخبين لحداد في مواجهته الخاسرة مع بولسنارو(3). توازن القوى هذا بين الطبقتين، وعجز اليسار عن حسم الأزمة السياسية الأخيرة، كان لا بدّ وأن ينتهي ـــ وفق ماركس(4) ـــ بشخصية عسكرية المزاج إلى إنشاء نظام «بونابرتي» الطابع، يحمي مصالح البرجوازية، ويقرّ الأمن والنظام، تماماً كما أفرز عدم الحسم بين البرجوازية والبروليتاريا في فرنسا بعد ثورة 1848 نظام نابليون الثالث، الذي كان نوعاً من دولة أمن وعسكر مغطاة بالكاد بطبقة خفيفة من «ورنيش» ديمقراطية برلمانية. وهو ما حصل بحرفتيه في الحالة البرازيلية المعاصرة.
فبولسنارو، العسكري السابق، كان واضحاً في إعلان عزمه على القضاء على الجريمة المتفشية في البرازيل، وهو بذلك كسب أصوات العمّال البرازيليين الفقراء الذين يعيشون في مدن الصفيح على هوامش الميتروبوليات الكبرى (ساو باولو، ريو دي جانيرو،...)، وجلّهم مهاجرون أمّيون من الأرياف تعشّش في مناطقهم العصابات والمافيات. وهو لم يُخفِ توجهه نحو إجراء تعديلات جذرية في بنية النظام السياسي البرازيلي، تعيد توزيع القوى بين سلطاته المختلفة، بما في ذلك منح صلاحيات موسعة لمنصب الرئيس. كذلك فإنه من المحتم أن ينفّذ في الجانب الاقتصادي صدمة نيوليبرالية قاسية تعتمد تقليص القطاع العام إلى الحد الأدنى، وبيع شركات البلاد الكبرى (البترول والكهرباء والبريد والبنوك الحكومية) للقطاع للخاص، ولا سيّما أنه تعهد بإنهاء العجز في الموازنة البرازيلية العامة خلال عام واحد فقط(5)، وهو أمر لم يحدث قطّ في تاريخ البلاد منذ وصول طلائع الغزاة البرتغاليين، في حين أن انبطاح بولسنارو أميركياً في السياسة الخارجية سيكون أداته الأفعل لتمكين مشاريعه كلّها من التحقق في وجه أي معارضة داخلية، بغضّ النظر عن ألوان مصدرها، وبما فيها الجيش البرازيلي نفسه. لقد كان ماركس محقاً هذه المرة أيضاً.
التساؤل الذي يطرح نفسه هنا دائماً: كيف صار بولسنارو ممكناً وهو الذي يأتي من خارج سياق الأحزاب الكبرى، ولماذا فشل اليسار الذي استفرد بالسلطة 13 عاماً (ولا يزال يتمتع بتأييد نصف الناخبين تقريباً) في حسم تموضع البلاد نحو العدالة الاجتماعية والاستقلال عن التبعية؟ البرازيل، كما فنزويلا والعديد من دول أميركا اللاتينية، تعاني من انقسام طبقي ــ عرقي الطابع(6) (البرازيل كانت آخر دولة قبل السعودية تلغي نظام الرق الرسمي). فبينما البرجوازية (ومعظم الطبقة الوسطى) تنحدر من أصول أوروبية، فإن الطبقة العاملة بأكملها تنحدر من السكان الأصليين والأبناء العبيد الأفارقة والهنود وغيرهم من المهاجرين، وليست هناك منافذ أمام الأفراد لعبور الطبقات. إذ لا يوجد في البلاد مثلاً فئة برجوازية ــ قليلة العدد ــ بشرتها سوداء. لذا، إن مجال التلاقي بين الطبقات في ديمقراطية اشتراكية وفق النموذج الإسكندنافي أمر شبه مستحيل.
لا شك في أن حكومة حزب «العمّال» أنجزت الكثير للفقراء في البرازيل. لقد زادت عدد الجامعات الحكومية من 27 إلى 600 في عقد واحد، ووفرت الخدمات الطبية للمواطنين كافة بما فيها المناطق النائية، بفضل البعثة الطبية الكوبية تحديداً... لكن ذلك كله كان في إطار التعايش مع البرجوازية وامتيازاتها (تماماً كما في النموذج التشافيزي في فنزويلا)، ومُغطّىً بظروف اقتصادية مواتية. لكن بعد ارتدادات مفاعيل الأزمة المالية العالمية وظروف الانكماش الاقتصادي، بدأت الطبقة البرجوازية بالتذمّر من العجز المتزايد في الميزانيات التي ينفق منها حجم هائل على التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية، في الوقت الذي بدأت فيه أجور الطبقة الوسطى من المحترفين والمديرين وكبار الموظفين بالتآكل. لذا، إن اتهامات الفساد التي وُجّهت إلى نظام «العمّال» سرعان ما وجدت صدىً واسعاً تقاطع فيه البرجوازيون مع الطبقة الوسطى وسكان مدن الصفيح من المهاجرين الفقراء الباحثين عن الأمن(7).
كانت قيادة حزب «العمّال» التي فشلت في تبني أي خيارات اشتراكية حاسمة من نوعية تأميم الاقتصاد أو القضاء على منظومات الفساد، أو حتى في بناء السيطرة على أدوات الهيمنة من صحافة وإعلام وثقافة (تماماً كما هو الحال في الجمهورية البوليفارية)، تدرك أن تحولاً جذرياً مثل ذاك سيكون بمثابة وصفة شبه أكيدة لحرب أهلية بين مجموعتَي السكان، وسيفضي حتماً إلى تدخل أميركي واسع النطاق لمنع قيام جمهوريات اشتراكية في محيط نفوذها الإقليمي القريب. انعدام الحسم هذا كان يعني حتماً خسارة موقع السلطة آجلاً أو عاجلاً، سواء نتيجة انفضاض الطبقة العاملة، أو نتيجة انقلاب أميركي المزاج ينفذه تحالف بين الجيش، الذي له تاريخ عريق في هذا المجال، والبرجوازية، وهو ما حدث بالفعل من خلال الانتخابات، وعبر انتقال سلمي لم يسبّب إراقة دماء لحسن حظ جميع البرازيليين.
بولسنارو، نابليون البرازيل الجديد، نتاج عملية تاريخية. وهو لا شكّ سيمضي في ما عزم عليه من سياسات داخلية واقتصادية وخارجية تعيد موضعة البلاد تجاه اليمين النيوليبرالي. لكن الطبقة العاملة التي ستدفع ثمن كلّ هذه التحولات، ستتململ من جديد وتتسرب إليها روح الثورة، إن لم يكن في وقت قريب، ففي خلال الجيل التالي. عندها سيكون بولسنارو مجرد سلّم ستصعد عليه فاشية حقيقية تمنع الثورة المحتمة، تقبلها الإمبراطورية الأميركية شريكاً تابعاً في سلك منظومتها الرأسمالية المعولمة، بدلاً من المخاطرة باللعب مع ثوريين هواة قد يصدف أن يكون بينهم فيدل كاسترو جديد.

هوامش:
Cuba SI Magazine, Cuba Solidarity Campaign, London - UK, Winter 18-19, P 21 (1)
(2) Cesare Battisti. See the Guardian of 14 Jan. 2019 “Cesare Battisti in Rome after 40 years on run”.
(3) 2018 Brazilian Presidential Election Results, Nov 1, 2018, https://www.wilsoncenter.org/article/2018-brazilian-presidential-election-results
(4) Marx in “The Eighteenth Brumaire of Louis Bonaparte” – 1852.
(5) See the Financial Times of 2nd Nov. 2018, “Brazil’s new finance minister eyes Pinochet-style fix of the economy”.
There is a very detailed pre-analysis of the political situation of Brazil leading eventually to the rise of Bolsonaro in Perry Anderson “Crisis in Brazil”, London Review of Books Vol.38 no.8, April 2016 and a post-analysis in Perry Anderson “Brazils’s Monsters”, London Review of Books Vol.41 no.3, February 2019 (6).
(7) Albuquerque, Edwardo, “ A historic turning point in Brazil”, International Socialism, Summer 2016.