يوم الخميس 30 أيار/مايو 1968، يلقي الجنرال ديغول كلمة موجزة الساعة الرابعة والنصف ثمّ يعلن حلّ البرلمان. قبل ذلك بساعة، اجتمع مع وزرائه في مجلس استثنائيّ، حرّضهم على النزول إلى الشارع «لأنّ الوضع يتطلّب ذلك». ساد الحماس مباشرة. بعد المظاهرات الطلابيّة والنقابيّة، يفيض سيل آخر في باريس. في ساحة الكونكورد، خلف أندري مارلو، ميشال دوبري، موريس شومان، جاك فوكار، روبير بوجاد وجميع زعماء الأغلبيّة الغوليّة، سار حشد ضخم من الشانزيليزيه باتجاه ميدان النجمة وهم ينشدون «لامارسييز». أنشد أكثر من مليون «ديغول ليس وحده!». بدأ الجزر. يسود شعور في فرنسا أنّ جرس الفسحة سيدقّ قريباً.
في 26 كانون الثاني/يناير الأخير، أراد مسؤولو الاتصال في الإليزيه تكرار التاريخ عبر تنظيم «مسيرة جمهوريّة» ضدّ العنف ومن أجل احترام المؤسسات. انطلقت الساعة الثانية والنصف من ساحة الأمة، بلّل المطر المشاركين، ووصل الموكب إلى ساحة «الباستيل» بعد ساعتين، دون تسجيل أيّ حوادث. لم يحمل الحشد، المكوّن أساساً من ناس ناضجين، لوازم كثيرة: أعلام البلاد، بعض الرايات الأوروبيّة، حفنة من اللافتات المدافعة عن «الحوار» أو «الديمقراطيّة». حسب مديريّة الشرطة، تجاوز المشاركون 10 آلاف بقليل، في حين توقّع المنظمون مشاركة عشرة أضعاف هذا العدد.
على رأس الموكب، رأينا عرضيّاً بعض النواب من «الجمهوريّة إلى الأمام»، حركة إيمانويل ماكرون السياسيّة. أكد هؤلاء أنّهم موجودون بصفتهم الشخصيّة وليس لتوظيف المظاهرة التي تبدو عفويّة، حيث رعتها ثلاثة تجمّعات ولدت على الإنترنت: «الأوشحة الحمر» و«السترات الزرق»، الذين التحقوا بمبادرة أُطلقت نهاية كانون الأول/ديسمبر على صفحة الفيسبوك «قف، يكفي الآن!»، التي أسّسها مهندس من مدينة تولوز هو أحد ناخبي ماكرون. لكن تريد المظاهرة أن تكون «غير مسيّسة». شعارات من قبيل «ميلانشون استقِل» أو «لوبان أنت مفلسة» سُمعت في بعض الأحيان، وهي تعكس العداء العام تجاه رئيسي الحزبَين اللذين ضاعفا تصريحات الدعم للسترات الصفر.
راية أخرى – «الفاشيّة لن تمرّ!»- حملها ثلاثينيّون، وهي لائقة عليهم وعلى رقابهم أوشحة حمراء. وعندما قلنا لهم إنّ ذلك الوشاح كان علامة تمييز للمناضلين الشيوعيين خلال حقبة الجبهة الشعبيّة عام 1936، أجابوا مرتبكين: «جبهة ماذا...». بالنسبة إلى الفاشية، فليس المقصود لا موسوليني، هتلر أو فرنكو، بل جان لوك ميلانشون ومارين لوبان –مُجمّعين في نفس المحور- وسترات صفر، الذين قورنوا مؤخراً برابطة أقصى اليمين الفرنسيّة التي أرادت إسقاط الجمهوريّة في شباط/فيفري 1934.
ارتباك تامّ، مفارقات تاريخيّة وجهل سحيق مقنّع بما يسمّى ثقافة الحاضر، يؤكد المتظاهرون انتماءهم إلى فرنسا الحديثة: تلك التي تحوي الشركات الناشئة، المنفتحة على العالم، التبادل الحرّ والثورة الرقميّة. ليس هنالك شكّ، نحن في حضور فرنسا الأخرى: الطبقة المتوسطة العليا، أثرياء «عقود (العمل) غير محدّدة المدة»، شقق وسط المدينة والسيارات الهجينة التي تشارك في الانتقال الطاقيّ.
لها كراهيّة متشاركة: تجاه الفقراء، عديمي الأسنان (اسم حركة احتجاجيّة ضدّ فرانسوا هولاند)، مفترقات الطرق التي تنظر إلى نهاية الشهر بدل النظر إلى نهاية العالم، الفلاحون الذين لا يزورون قطّ المدينة، الحرافيش، اللامتسرولين الذين أرادوا اقتحام الباستيل والإليزيه.
في واقع الأمر، تخشى «الأوشحة الحمر» شيئاً: العودة إلى السياسة، وهي مرادف التشكيك في المؤسسات، العودة إلى اليمين واليسار الحكوميَّين، النقابات التقليديّة وأيّ نوع من «الهياكل الوسيطة»، من أجل اللامركزيّة والانتقال إلى الجمهوريّة السادسة.
مع حلول الساعة الخامسة، تنفضّ المظاهرة سريعاً. حفنة من السترات الصفر الجالسين على عتبات الأوبرا يتهكّمون على معارضيهم: على امتداد نصف ساعة، يراقبونهم ويقدحون فيهم عن بعد، دون التجرؤ على الاقتراب. في زاوية أخرى من الساحة، يتبادل المنظّمون التهاني، دون أن ينسوا الدعوة إلى تجمعات جديدة في الأسابيع القادمة، في باريس أو خارجها.
لكنّ افتقادهم التجربة سمح بوجود أحصنة طروادة وحصول اختراقات من طرف أوشحة حمراء «مزيّفين» يحملون لافتات أخرى: «بينالا/ كاستانير المعركة ذاتها». ويقولون أيضاً إنّ الحريات المدنيّة والسياسيّة لم تعد اليوم مضمونة في بلد يفترض أنّه يدافع عن حقوق الإنسان.
لكن الأكثر خطراً هو ما قاله رئيس الجمهوريّة نفسه في هجومه على (برنامج) المجلس الوطنيّ للمقاومة –الذي أسّسه جان مولان والجنرال ديغول- حيث أكّد ضرورة التخلّي «عن هذا (البرنامج) الرثّ». طبعاً، ضمِن «هذا البرنامج الرثّ» تأميم الشركات الكبرى والقطاع البنكيّ، وأوجد الخدمات العامة وسياسات إعادة التوزيع الاجتماعيّ.
على مستوى السياسة الخارجيّة، دافع المجلس الوطنيّ للمقاومة عن استقلاليّة فرنسا وسيادتها، وهي منجزات عفا عليها الزمن...
*رئيس تحرير موقع prochetmoyen-orient.ch