كانت سنة 2018 ربيعاً للمستبدّين في أرجاء الكوكب. هي السنة التي أجهز فيها شي جين بنغ على القيادة الجماعية في الصين، معلناً نفسه رئيساً مدى الحياة، وغارزاً المسمار الأخير في نعش خبراء الشؤون الصينية الأميركيين، الذين استمرّوا لعقود يتوقعون إصلاحات ليبرالية. في بلد آسيوي آخر، حاز كيم جونغ أون رئيس كوريا الشمالية إعجاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب بسبب الفعالية العالية لسيطرته الديكتاتورية.
(أليكس فالكو تشانغ)

حكومة بولندا، التي تحوم الشبهات حول طبيعتها الديموقراطية، هي من بين الشركاء المفضّلين لدى ترامب تماماً كما هي حال رئيس وزراء المجر غير الليبرالي فكتور أوربان. حصل أوربان على استقبال الأبطال في إسرائيل ووصفه ابن رئيس وزرائها يائير نتنياهو "بالقائد الأفضل في أوروبا". في نيكاراغوا، عزز دانييل أورتيغا من موقعه باعتباره أنستازيو سوموزا الجديد، وهو الرجل الذي أطاحه باسم الشعب منذ أربعة عقود.
في فنزويلا، نجح نيكولاس مادورو في البقاء في موقعه، رغم كونه الديكتاتور الوحيد غير الحائز رضا إدارة ترامب. وفي الشرق الأوسط، كانت الدراما الأفضل هي قيام الأوتوقراطي رجب طيب إردوغان بفضح نظير له، وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، لمسؤوليته عن عملية اغتيال تليق بسيناريوات أفلام المافيا. سيكون ابن سلمان على ما يرام لأن وسائل الإعلام الأميركية، التي يسهل حرف انتباهها، بدأت بنسيان جريمة قتل جمال خاشقجي البشعة كما يفعل الكونغرس أيضاً، الذي تجاهل لسنوات الفظائع السعودية في اليمن. وسائل الإعلام الأميركية يندُر أن تقوم حتى بتغطية ممارسات الديكتاتور العسكري المصري عبد الفتاح السيسي الذي يُفرش له السجاد الأحمر عندما يزور الولايات المتحدة. إدارة ترامب، وقبلها إدارة أوباما، ينظرون للأنظمة الديكتاتورية في الشرق الأوسط كوكلاء أساسيين في مرحلة سعي الإدارتين للحد من التورط الأميركي في هذه المنطقة قدر المستطاع.
تزدهر الأوتوقراطية عام 2018 لأن واشنطن تعتمد سياسة واقعية مزعومة تقوم على إعادة التموضع من خلال الانسحاب من بقاع عدة من العالم والبحث عن أنظمة ديكتاتورية تستطيع الاعتماد عليها. هي استراتيجية ريتشارد نيكسون وهنري كيسنجر التي وضعت موضع التنفيذ في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات. نحن أمام صيغة مستجدة من عقيدة نيكسون الشهيرة التي سعت إلى الحد من الالتزامات الأميركية وراء البحار ووضعت جميع بيض واشنطن في سلة شاه إيران والمملكة السعودية. الرهان على الأول قاد الى الثورة الإيرانية والرهان على الثانية أفضى الى الصعود الوهابي الذي شارك 15 من أصل 19 من أتباعه بهجمات الحادي عشر من أيلول على الولايات المتحدة.
يرى الأكاديميون الذين يحثون على تخفف السياسة الخارجية الأميركية من أثقال التزاماتها أن واشنطن ينبغي أن تتأقلم مع "التعددية" في العالم، أي مع مزيج من الطغاة الحاليين أو القادمين وعدد متضائل من الديموقراطيات. يقول غراهام أليسون، الأستاذ في جامعة هارفرد، على أميركا أن تتقبل "واقع أن للبلدان الأخرى رؤى مختلفة حول نظم الحكم وتعمل على بناء أنظمتها الدولية الخاصة الخاضعة لقوانينها وقواعدها". وقد تقبلت أميركا الأمر بالفعل.
الأوتوقراطية عائدة لأن الكثيرين في الغرب لديهم قناعات الإمبرياليات العنصرية نفسها في أواخر القرن التاسع عشر عن عدم أهلية العرب والآخرين للديموقراطية بسبب افتقادهم الموروث اليهودي ــــ المسيحي. لعقود عدة، اعتقد الأميركيون أن الكاثوليك بدورهم كانوا غير جاهزين للديموقراطية لأنهم يتبعون تعليمات روما السلطوية. القناعات إياها سادت حول الآسيويين والقيم الآسيوية. اليوم، جاء دور المسلمين الذين يجب عدم السماح لهم باختيار قادتهم لأن الأميركيين لا يحبون خياراتهم. تفضل واشنطن لذلك أن يحكموا من قبل رجال أقوياء. الحفاظ على النظام أولاً والحرية لاحقاً هي المقولة التي دافع عنها صامويل هانتغنتون وجين كيركباتريك في الستينيات والسبعينيات.
الاستبداد صاعد أيضاً لأن الديكتاتوريات لديها موارد مالية مهمة وبعكس الديموقراطيات، هي غير ملزمة بالكشف عن كيفية إنفاق هذه الموارد. حتى دول أفريقية فقيرة، كزيمبابوي ومصر، تستطيع إنفاق ملايين الدولارات لاستئجار خدمات أفضل اللوبيات في واشنطن للدفاع عن مواقفهم ومواجهة ضغوط محتملة من الكونغرس حيالهم. حكام الخليج الأثرياء يملكون دعم واشنطن لحماية عروشهم وتتزايد التسريبات عن المكرمات التي حصل عليها كبار مسؤولي الإدارة من ولي العهد السعودي. المبالغ المالية الطائلة، التي تدفقت من الأوليغارشيا الروسية والأوكرانية الى حسابات المتهم الذي تمت إدانته، بول مانافورت وشركائه، وكذلك لحسابات أهم مكاتب المحاماة، للدفاع عن رئيس أوكرانيا السابق والفاسد، أصبحت معروفة. تصوروا حجم ما لم يكشف عنه الى الآن.
الديكتاتورية الصينية كانت الأوفر حظاً. لم تضطر إلى إنفاق مليم واحد للحصول على دعم اللوبيات. الشركات الأميركية الكبرى قدمت خدماتها مجاناً. في سعيها المحموم لدخول السوق الصينية، عملت هذه الشركات بكد لمنح الصين وضعية "الدولة الأكثر رعاية" ولإدخالها الى منظمة التجارة العالمية. لجأت كذلك الى خدمات مسؤولين سياسيين سابقين ومولت مراكز دراسات في أنحاء البلاد وأقنعت غرف تجارة محلية بالتواصل مع أعضاء في الكونغرس بغية إقناع واشنطن والرأي العام بأن بكين شريك مسالم في طور التحول نحو الليبرالية. ولقد نجحت لدرجة أنه قد يصبح من الصعب في مستقبل قريب مواجهة القوة الشمولية المعسكرة التي برزت بدلاً من "الشريك المسالم".
الرياح تجري بما يشتهيه الأوتوقراطيون لأن إيمان الأميركيين بالديموقراطية بات مزعزَعاً. المشهد السياسي مستقطَب بحدة والكونغرس في حالة شلل، والبيروقراطيون يعانون من قلة الكفاءة. هم يحسدون الصينيين على فعاليتهم ويعجبون بقوة فلاديمير بوتين. وصلوا إلى حد التساؤل عما إذا العالم وأميركا لا يحتاجان إلى رجل قوي يتجاوز الانقسامات والسجالات العقيمة ويفرض القرارات الواجب إنفاذها فرضاً. انتشار مزاج كهذا كان بين العوامل التي أوصلت أدولف هتلر الى السلطة وصنعت شعبية بنيتو موسوليني في إيطاليا والخارج، ويبعث هذا المزاج اليوم عبر العالم مع تراجع الإيمان بالديموقراطية.
أخيراً، الأوتوقراطية تتقدم لأنها طبيعية بالنسبة إلى البشر بقدر الديموقراطية. يريد الناس الحصول على الاعتراف والاحترام، كما يقول فوكوياما، لكن طموحاتهم لا تقف عند ذلك. هم يبغون أيضاً الشعور بالأمان الذي توفره عادة العائلة والقبيلة والأمة. وفي بعض الحالات، يفضلون التنازل عن حرية الاختيار لمصلحة منح الصلاحيات لقائد قوي يعد برعايتهم. هذا الأمر هو الذي يجعل من ربيع الديكتاتوريين احتمالاً قائماً على الدوام.
مع نهاية الحرب الباردة، اعتقد الأميركيون والأوروبيون أن الطريق عُبّدت نحو عالم "ما بعد التاريخ". الحقيقة هي أننا مجبرون على القتال باستمرار إذا ما أردنا بقاء الديموقراطية، فشريعة الغاب تتسع مجدداً.
مقال روبرت كاغان «ربيع المستبدّين»
Springtime for Strongmen - «فورين بوليسي» عدد شتاء 2019