هل يأبه أو يتأثر محرك السيارة أو الطائرة إذا جرى رفضهما والإعراض عنهما لأسباب أيديولوجية أو اعتقادية؟! هل تهتزّ أو تحرد نظريات الفيزياء إذا قوبلت بالتأثيم أو التثريب لأسباب من خصوصية ثقافية أو تمايز أخلاقي؟! بالطبع لا. ليس لأن الإعراض والرفض والتثريب والتأثيم من خارج حقلها المعرفي الاختصاصي فقط، بل لأن الحاجة إليها على الرغم من كل مثلبة أو عيب قد يظهر فيها، تقتضي اعتمادها واستعمالها والتفاعل معها وتطويرها، إن كان في الواقع الفيزيائي كما السيارة والطائرة والثلاجة إلخ، أو في الواقع العقلي كما النظريات والمفاهيم والمصطلحات المعرفية...
فالمسافة بحاجة إلى وسيلة نقل بالضرورة، كما ارتقاء العلوم والمعارف يحتاج إلى النظريات والأبحاث بالضرورة أيضاً، إن لم نقل بالبداهة. وهذه التكنولوجيات لا يزعجها أو يرضيها إن أُخذ بها أم لم يُؤخذ، فالحاجة بشرية وعلى الإنسان أن يسارع ودون تردد إلى تسديد حاجاته، تلبية لمطلب الارتقاء الحامي من الفناء.
بين الرفض والقبول هناك التجريب، فبعد نجاح التجارب، لا يمكن لعاقل أن يرفض أو يوافق هذه المنجزات بسبب خصوصية ما، فهو إمّا أن يستعملها ويكسب فوائدها، أو يعرض عنها ويخسر تلك الفوائد إمّا مرحلياً أو على المدى الطويل، لتبدو هذه الخصوصية عبارة عن إعاقة أو عاهة، تمنع عنه سبل الارتقاء، ومنها على نحو أساسي تناغمه مع العالم المحيط تنافساً أو تعاونياً، ليقبع في زاوية الإلغاء، وما يليه من عنف لملء الفراغ الحاصل بينه وبين أيّ آخر. من هنا يبدو الرضوخ لأي منجز مجرب ضرورة، لا ترفاً ولا تنازلاً ولا خياراً، إنه محاولة للوجود في منطقة ما بعد الصفر المدني والحضاري معاً.
من هذه الزاوية أيضاً، يمكننا النظر إلى العالمانية، فهي لا تتأثر، ولا تزداد شرفاً أو مهانةً، إن اعتمدت واستخدمت، أو لم تعتمد أو تستخدم. فالعقل الذي أبدعها جعلها في خدمة الإنسان يستطيع بواسطة استخدامها كأداة (لا كعقيدة أو إيمان على أيّة حال) كي ينظّم عيشه الجماعي، على أسس وقوانين ناجعة، والتصرف بسببية مقنعة تجاه المشاكل والأسئلة التي تواجهه، كأسئلة المجتمع والدولة والإنتاج وحماية هذا الإنتاج وحسن توزيعه، كمحاولة للاقتراب من الخير الأعلى كما تفهمه البشرية، على هذه الكرة الأرضية بالذات.
جرى تجريب العالمانية، وإثبات نجاعتها وضرورتها للعيش البشري المترع بالأخطاء والخطايا، تماماً كما جرى تجريب الأسبيرين والعمليات الجراحية وطفل الأنبوب والاستنساخ والأسمدة الزراعية وغيرها ليظهر أنها صالحة لكل زمان ومكان مع تعديلات قد تفرضها البيئة، مثلها مثل أيّة أداة أو نظرية علمية، عليها أن تزيل أو تخفّف عن الكائن البشري أعباء وازنة، من فصيلة الاصطفاء الطبيعي، أو التنافس الإلغائي العادي منه والانتقامي الذي يسمى في المجاز «فتنة» وغيرهما من عوادي العيش البشري ذات الجذر الثقافي التفكيري. وتنشأ هذه الصلاحية للزمان والمكان، من واقع التفاعل اليومي مع العالم، الذي يحتاج إلى ندية ثقافية صالحة للعيش التنافسي، فإذا كان العالم كله يستخدم السيارة، فمن غير المنطقي منافسته بالبعير، أو إجباره على إلغاء السيارة كي يصبح هو جاهزاً للمنافسة!
لم تُكتشف العالمانية، ولم تظهر كرسالة إلى البشرية ولا حتى كأيديولوجيا، وليس مطلوباً الإيمان بها وتفضيلها، ولا تأثيم المعرضين عنها وتكفيرهم. فهذه التصنيفات بعيدة عن الواقع البشري الحالي، كما أنها بعيدة عن توصيف العالمانية من خارج مواقع تطبيقها، أي في المجتمع والدولة بصفتهما التقنية تحديداً، كوسائل تسالم يفتحان الطريق للفعالية الإنسانية لسلوك طريق الإنتاج، الذي يحدد الهويّة والمكانة، بواسطة المعايرة المحايدة لهذا الإنتاج، واكتشاف مدى جدواه ونجاعته، كما ترصد ضرره وخسائره في هذه الدائرة تحديداً إذ يجري استخدام العالمانية كأداة، فالمجتمع والأمة والهوية والعيش في مجتمع هي ليست أسماء لمسميّات محدّدة بالمشافهة، بل هي أفعال وممارسات يومية إرادية ينظمها العقل في سبيل المصلحة، وتحقيق المصلحة المجتمعية لا بدّ له من أدوات (تكنولوجيات) يجري استخدامها وتطبيقها على نحو قصدي إرادي وعلاني، فالعضوية في المجتمع لم تعد منذ زمن طويل (منذ الكشف عن العقد الاجتماعي) خاضعة للإسالة التناسلية الجسدية أو الثقافية، بل أصبحت (شاء من شاء، وأبى من أبى) عقداً حقوقياً مدروساً بعمق، قادراً على التغيُّر ارتقائياً كلما استوفى مهماته. فالأصل في وجود هذا العقد هو التغيير والارتقاء من حالة إلى حالة أكثر فعالية وجدوى، تناغماً مع ما تتطلبه هذه الدنيا من فعل إنتاجي لا يمكن الاستغناء عنه، إلا لبعض الهواة، أو الذين لا يعلمون. وهنا يمكننا الإقرار بأن المجتمع بمعناه المعرفي هو عالماني بالضرورة، وكذلك الدولة، فإذا لم تكن عالمانية بالضرورة، فهي ليست دولة، بل مجرّد توصيف شفاهي لتجربة إدارة، جرى إطلاق كلمة دولة عليها، لكنها لم تعد صالحة كدولة أو إدارة في العصر، كالقول بـ«الدولة» الأموية أو الفاطمية أو اليونانية أو الرومانية، كنماذج تعريفاً لسلطانها أو لحضورها في التاريخ، وإطلاق تسمية «دولة» اليوم لكونها متوافرة لغوياً، لا يعني بتاتاً أن المقصود هو دولة بالمعنى المجتمعي المعاصر، فالدولة هي تكنولوجيات تنظيمية حديثة، لإدارة تجمعات بشرية عليها أن تكوّن مجتمعاً بالضرورة، وعليه أن يكون قادراً على العيش في هذا العالم، وفي هذه الكرة الأرضية حتى الآن.
لما تزل الدولة في اللغة وفي الذهنية، هي تعبير عن السلطان بالتماس مع الزمن، فيقال: دالت لهم، أو دالت لبني كذا. وبهذا المعنى يجري تصوّر الدولة حالياً، ما يؤدي الى اختلاط بالرؤية وخطل في الممارسة. ففي الثقافة الشفاهية لا فرق بين الدولة والحكومة والسلطة والأجهزة والإدارات، يوحّدها احتكار العنف الذي يضبط التسالم بين الأفراد والجماعات، في مقابل احتكار السلطان. وهذه غاية بدائية جداً، بالنسبة إلى المفاهيم الحديثة، فالسعي إلى الإنصاف والعدالة أصبح من تطبيقات ماضي الدولة العالمانية الحديثة، أي إنها تحصيل حاصل لوجود دولة كهذه على الرغم من احتكارها للعنف، فالاستبداد وإطلاق يد «الدولة الشفوية» كشرط لمجرّد تحقيق التسالم «الاجتماعي» يحوّل المجتمع ومعه ما يسمى «الدولة»، إلى وجود واهٍ قابل للانهيار في لحظة، وفي أيّ لحظة، فالتكنولوجيا كائن بارد محايد وصادق بجلافة، لا يحتمل أيّ أخطاء، والدولة العالمانية كتكنولوجيا هي أحسن ما توصل إليه الإنسان العاقل من أجل إدارة وتنظيم المجتمع كإمكانات إنتاجية، تحتاج إلى العدالة والإنصاف والتسالم والاحتكام وإلخ من ضرورات الوجود الحقيقي في الدنيا.
لن تتأثر العالمانية برفضها أو بقبولها، فالتكنولوجيات لا تأبه لذلك، ومن يمتلك سيارة أو طائرة فبإمكانه أن يسافر، وعلى من يرفض هذه التكنولوجيات أن يمشي أو يركب بعيره، فهي لا تمانع أبداً، وعلى الرافض لها أن يتحمّل مسؤولية ونتائج رفضه، وألّا يحمّل الآخرين هذه المسؤولية بالبحث عن ذرائع تبرر هزيمته. وغالباً ما تكون بلا معنى في الفعل والممارسة، فهي شفاهية لغوية شعاراتية وافتخارية كاذبة ومتناقضة مع ذاتها ومع المنطق، وانتقائية بقصد وبقصدية غير نبيلين، حيث يقال، علينا أن نأخذ من العالمانية ما يناسبنا ونترك ما لا يناسبنا، وهنا بالذات ينتفي سوء التفاهم ليبدأ العجز بالظهور والفعل.
العالمانية (وكذلك الدولة) ليست مؤمنة أو ملحدة أو كافرة أو مشركة، ففيها من هذه الأمور كما في الآلة، التي لا تؤمن ولا تكفر، والنظر إليها، أي العالمانية، من غير هذه الزوايا هو خلط مقصود وبعيد عن الموضوع، يصنع معارك جزافية على أمور وهمية (تُسمى فتن)، تضيّع الفرص على الجماعة البشرية كي تكون هيئة حقيقية ذات مكانة تتمتع بالشبع والمنعة.
* سيناريست سوري