كان عام 2005 عاماً حاسماً في قصة تصدّع نظام حسني مبارك. في ذلك العام بدأ «مهرجان الغروب» يخيّم على الأفق السياسي والاجتماعي، والسياسات تنحر في شرعيته. للنظم قوانين، كما البشر والطبيعة، تسري عليها مهرجانات الغروب. هناك غروب لنظم يستدعيه اختلاف الأزمان والتحدّيات وغروب آخر يستدعيه غضب الشعوب والمجتمعات. لم يكن عام 2005 بداية الغروب، لكنه العام الذي تبدّى فيه مهرجان. كان «عام الفزع» في مصر وعالمها العربي بعد «عام الغيبوبة ــــ 2004» بنصّ أوصافه وتشبيهاته، «مصر تحوّلت من طرف إلى صديق إلى وسيط مع إسرائيل»، «قلنا مصر أولًا ومصر ثانيًا ومصر أخيرًا، فأصبحت مصر أخيرًا فقط»، هكذا تحدّث محمد حسنين هيكل في اليوم الأول من «عام الفزع».هو العام الذي «استكملت فيه مجموعات المصالح استيلاءها على الإدارة والحكومة وسلطة الدولة.. واتسع تبديد القوة الناعمة حتى أصبحت أخطاء الواقع المصري لم نعد نستطيع تحملها»، وهكذا تحدث في منتصف ذلك العام، وهو العام الذي مدّد مبارك فيه لنفسه ولاية رئاسية جديدة بانتخابات قيل إنها بين أكثر من مرشّح. «لقد خرجنا من التاريخ ولن نعود إليه دون إصلاح حقيقي حتى لا يكتفي المصريون بأدوار المتفرجين»، «مبارك يحكم مصر الآن بسلطة الأمر الواقع، «نظم الحكم العربية استفحلت، وكل رئيس صار امبراطورًا»، «الذين نظّموا حملة انتخابات مبارك لتمديد ولايته لا علاقة لهم بالتاريخ ولا بالمستقبل»، و «سيناريو التوريث سيؤدي بالبلد إلى مشكلة كبيرة»، هكذا تحدّث أيضاً في خريف عام الفزع. كان هيكل على يقين من أننا في أوضاع قرب النهاية، وأن كل شيء يوشك على الغروب. «تبدو مصر كسفينة جانحة تبحر بلا خرائط ملاحية وسط أمواج عاصفة. نظام الحكم تتآكل شرعيته بصورة خطيرة ويقف عاجزًا عن صياغة تصوّر يقنع الشوارع الغاضبة، وهو كمن يستهلك وقتًا حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.. في لحظة ما ــــ ربما تكون أقرب مما نتصور ــــ سوف تكسر المعادلة وتفتح الاحتمالات على آخرها بما هو مبشّر وبما هو مقلق، عند هذه اللحظة الحاسمة لا بد من طرح السؤال الأكثر أهمية: من يحكم هنا؟».
سؤال «من يحكم هنا؟»، الذي تعود صياغته إلى أنطوني سيمبسون، أشهر من تولّوا رئاسة تحرير صحيفة «الغارديان» البريطانية، وكان قد رحل توًا وشارك هيكل بجوار الزعيم الجنوب أفريقي نلسون مانديلا في وداعه بإحدى كاتدرائيات لندن. يومًا بعد آخر، بعد عام الفزع وضيق النظام بأي إصلاح، تعالت نبرة انتقاداته. «الرئيس مبارك جاء للحكم متأخرًا في السن من دون أن يكون لديه اهتمام بالسياسة». «هو المسؤول عمّا يحدث، ورئيس الوزراء مجرّد موظف» (2007)، «قناة السويس أعطتنا ست مرات قيمة المعونة الأمريكية، وكامب ديفيد أعطت البترول المصري لإسرائيل»، «قصْدُ قوى كبرى بمعاونة رجال صغار أن نصبح أمّة عاجزة تقف في طوابير خبز»، «الأزمات كبيرة والرجال صغار»، مستعيدًا تعبير وزير الخارجية المصري الراحل محمود فوزي (2008).
كل الأزمات وجدت في «التوريث المحتمل» البلورة التي تتجمع عندها ونقطة تفجير الوضع كلّه


في عام 2009 حلّق بعيدًا في انتقاداته، إذ قال «قاعدة السلطة أصبحت قوة الأمن وفرض سيناريو التوريث سيكون كارثة»، و «مصر لم تعد قائدة أو رائدة، وأصابُ بذهول وأنا أرى العالم العربي يعتمد على إسرائيل»، ليردف «سمعت في ألمانيا: أنتم تركتم لإسرائيل في الغاز حجم كل المساعدة الأمريكية التي تحصلون عليها». كما رأى هيكل حينها أن «مصر عادت إلى عصور النهب في القرن التاسع عشر، وهي أكثر بلد في العالم تدفقت إليه أموال»، مستخلصاً «إننا أمام عالم عربي لم يعد أمامه إلا أن يستجدي الرحمة». وعن الحياة السياسية في مصر رأى هيكل أنه «في مصر وكل بلد عربي تجريف وتفريغ في الحياة السياسية... اختفت السياسة، ولا بد أن نبدأ تأسيس دولة من جديد». وفي 2010 بدا الانهيار محتّمًا بعد تزوير انتخابات المجلس النيابي، وتأهّب مجموعة «لجنة السياسات» في الحزب الوطني للإمساك بالحكم وتمرير مشروع التوريث.

لكل نهاية مقدمات طويلة
كان انسداد القنوات الاجتماعية أزمة مستحكمة، وانسداد القنوات السياسية أزمة مستحكمة ثانية، وكانت شيخوخة النظام أزمة ثالثة والتلاعب بالدستور أزمة رابعة، وسيناريو «التوريث» فاقم الشعور العام بوطأتها. كل الأزمات وجدت في «التوريث المحتمل» البلورة التي تتجمع عندها ونقطة تفجير الوضع كلّه. في تشرين الثاني / نوفمبر 2003 عجز الرئيس حسني مبارك عن أن يكمل خطابه أمام مجلس الشعب، بعد تعرّضه لإغماءة استدعت قطع الإرسال التلفزيوني، الذي كان ينقل الحدث على الهواء مباشرة.
لوهلة، تصوّر كمال الشاذلي، بباعه الطويل في السيطرة على النواب، أن في وسعه بخمس دقائق حسم الفراغ المحتمل في السلطة إذا انقضى أجَل الرئيس، وأن يمرّر في لحظة عاطفية ترشيح نجله الأصغر لخلافته وطرح اسمه للاستفتاء الشعبي، وفق النص الدستوري الذي كان معمولًا به في ذلك الوقت. كان ذلك رهانًا شبه مستحيل اختُبر فيه «مشروع التوريث». لم يُسمح لأحد من أركان الحكم بالدخول على الرئيس الذي نقل إلى إحدى غرف المجلس، باستثناء وزير الدفاع المشير محمد حسين طنطاوي، والدكتور حمدي السيد نقيب الأطباء، الذي كان موجودًا بصفته عضوًا في المجلس وبقي المسؤولون الكبار على الباب ينتظرون ما تجري به المقادير.
في مارس 2010، بالقرب من المشاهد الأخيرة لـ«مهرجان الغروب»، قبل ثمانية شهور من «يناير»، أجرى الرئيس عملية جراحية مؤلمة في هايدلبرغ بألمانيا، وصفها هو نفسه بـ«العلقة الساخنة». أثناء رحلة هايدلبرغ، التي أحاطتها ظنون بعدم قدرة الرئيس على الاضطلاع بمهامه، أطلّ من جديد سيناريو التوريث على المشهد المضطرب. راجت تكهّنات أن مبارك قد لا يجدّد ولايته خريف العام التالي (2011) بدواعي حالته الصحية والتقدّم في العمر، مخليًا الطريق أمام نجله لوراثة مقعده. لم يكن سرًا أن القوات المسلحة تمانع نقل السلطة من الأب إلى الابن بالنظر إلى مواريثها منذ عام 1952. ولم يكن مبارك مقتنعًا ـــــ كرجل عسكري يعرف كيف صعد إلى الرئاسة ـــــ بأن هناك فرصًا لتمرير ذلك المشروع، لكنه لم يمانع فيه ولا اعترض عليه، وترك الصراعات في بنية نظامه تحتدم من دون أي حسم. بحسب رواية هيكل، فإن مبارك استشعر بعد انتخابات مجلس الشعب عام 2010، التي زوّرت على نطاق واسع وأقصيت المعارضة فيها بالكامل، أنه قد يكون هناك من يخطط لـ«توريث» يفرض عليه عندما يحين موعد اختيار مرشح الأغلبية في موعد أقصاه تموز / يوليو 2011. وفي 19كانون الأول / ديسمبر من العام نفسه (2010) قال هيكل بالحرف، كأنّها نبوءة لما سوف يحدث بعد شهر بالضبط: «التوريث في النظام الجمهوري لا يصحّ أن يتكلم فيه أحد، نحن أمام أوضاع قرب النهاية». في ذلك الوقت كانت حركات الاحتجاج كحركة «كفاية» و «الجمعية الوطنية للتغيير» تلخّص الغضب العام، وأجيال الشباب بدأت تطلّ على مسرح التاريخ بحيوية غير مسبوقة.
ذات مرة استعاد هيكل في إحدى إطلالته التلفزيونية بيتاً لأمير الشعراء أحمد شوقي: «تحرَّكَ أبا الهول. هذا زمان تحرّك فيه حتى الحجر». كغيره فوجئ هيكل بمشاهد «يناير» الأولى، فقد «خرج الشعب كلّه، بأجياله، وبطبقاته، وبطوائفه، بل بالصبا فيه والطفولة، ملايين بعد ملايين، وكذلك فهي لأول مرة في التاريخ الحديث خروج كامل، وبالثورة الكاملة، وللشعب المصري بكامله»، كما كتب في اليوم الأول للثورة، وبعد ثلاثة أيام من الأحداث العاصفة، وصف ما يجري بأنه «ثورة متكاملة الأركان»، غير أن الأحلام الكبرى انكسرت ولم يتبق بعد ثماني سنوات غير الجراح المفتوحة على قوة «يناير» الكامنة. بقوة الحقائق لم تكن ثورة «يناير» مؤامرة بقدر ما جرى التآمر عليها. هذه هي الحقيقة التي لا سبيل إلى إخفائها مهما طال الزمن.
* كاتب وصحافي مصري