يمثّل اتفاق تحويل العملة الأخير بين الهند والإمارات العربية المتحدة، والهادف إلى إضفاء زخم على التبادلات التجاريّة والاستثمارات البينيّة في العملة المحليّة لكلّ منهما، ضربة جديدة للتفوّق الماليّ العالميّ للدولار. من الواضح أنّ نزعة التخلّي عن الدولار في التجارة البينيّة في تصاعد مستمرّ للالتفاف حول سلطة واشنطن الفاحشة على البنوك والشركات في بقيّة العالم والمرتبطة بهيمنة عملتها. لعب الدولار تقليديّاً ثلاث وظائف: أداة قياس (تسعّر المواد الأولية في العالم كلّه بالدولار)؛ عملة الصرف الأكثر استخداماً في الدفوعات العالميّة؛ ووحدة حفاظ على القيمة (أكثر من نصف احتياطات النقد والالتزامات الدوليّة توجد بالدولار)، أدّى ذلك إلى تحوّل الدولار ليصير سلاحاً مخيفاً للابتزاز والضغط. تمثّل المعاملات التي يستخدم فيها الدولار إحدى الحجج الرئيسيّة التي ترتكز عليها العدالة الأميركية لإدانة الشركات والبنوك بالتعامل مع بلدان معاقَبة.
في دراسة حول «ما فوق إقليميّة القانون الأميركي»، أنجزها في شباط/ فبراير 2016، يُظهر رئيس «معهد أوروغروب»، المستشار والكاتب هيرفي جوفان، أسلوب عمل الأميركيين الذين يضعفون مئات الشركات الاستراتيجية للتموقع بشكل أفضل في السوق العالمية، وذلك بحجّة محاربة الفساد والالتفاف على الحظر. ويعود خاصة على التتبّعات الأميركية ضدّ شركة «ألستوم»، ارتكازاً على موقع واشنطن القضائي القوي الذي يستفيد من هيمنة الدولار داخل النظام الماليّ العالميّ. منذ ذلك الحين، صار الابتعاد عن أنظمة التجارة والدفع بالدولار ضرورة قصوى لعدد من البلدان، ومن بينها أوروبا التي صارت مصالحها الاقتصادية متباعدة أكثر فأكثر عن مصالح واشنطن. بعد قراره في 5 شرين الثاني/ نوفمبر الماضي، فصل الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إيران عن الدائرة البنكيّة العالميّة عبر نظام «سويفت» الذي يعتبر العمود الفقريّ للنظام الماليّ العالميّ، وبانحياز إدارة «سويفت» لفتاوى واشنطن، دخل الأوروبيون المهتمّون بالحفاظ على الاتفاق النووي الذي يعتبرونه مهمّاً لمصالحهم الاقتصادية، في حالة مقاومة.
يطرح تضاعُف المبادرات للالتفاف على الدولار وتدويل نموّ النظام المالي الصيني شكوكاً حول دور الدولار


وبإنشاء «آلية ذات غرض خاص» (SPV)، وهي منصّة مبادلة تسمح قانونياً للشركات الأوروبيّة بتجنّب الإتجار بواسطة الدولار وتحييد خطر الحظر، تمّ إحداث شقوق جديدة في بنيان الدولار. يتعرّض هذا البنيان تدريجيّاً للتشكيك بجهود مزدوجة من الصين وروسيا اللتين خلقتا عام 2015 نظاماً بنكيّاً عالمياً مشتركاً لمعارضة الأوامر الأميركية وتحجيم آثار الحرب الاقتصادية أحاديّة الجانب التي أطلقتها الولايات المتحدة. لكن ومنذ تأثّر «نظام الدفع العالمي الصيني»، الذي يعرف كبديل عن نظام «سويفت»، بأزمة البورصة عام 2015، لم تعلن الصين عن نواياها حتى الآن. منذ 2017، تعمل الصين وروسيا على ربط نظامي الدفع البينيّين «يونيون باي» و«كارتا مير»، والالتفاف على الدولار، وهو هدف كُرّر إعلانه في 28 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي على لسان الرئيس الروسي خلال مؤتمر استثماريّ في موسكو («نحن نعمل بنشاط مع بعض البلدان، مع شركائنا التجاريين الرئيسيين، على وضع أنظمة مستقلّة عن «سويفت»»). هذه الإرادة للانعتاق من الهيمنة وصياغة نظام اقتصادي عالمي جديد، تجسّدت أيضاً من خلال إطلاق «البنك الآسيوي للتنمية»، في بكين عام 2015، الذي يهدف إلى تعزيز التعاون الإقليمي والشراكات لتهدئة التوترات بين الصين وبلدان جنوب شرق آسيا، ولمزاحمة مؤسسات الحوكمة الاقتصادية العالمية على غرار «صندوق النقد الدولي» و«البنك العالمي» التي ما تزال واقعة تحت تأثير ساحق للولايات المتحدة.
يرى بعض المحللين الاقتصاديين أنّ تضاعف هذه المبادرات للالتفاف على الدولار وتدويل نموّ النظام المالي الصيني، يطرح شكوكاً حول دور الدولار بوصفه عملة احتياطي تحافظ على القيمة. يتجلّى ذلك في تطوّر متوقّع يمكن شرحه عبر «مفارقة تريفين»، نسبة إلى الاقتصاديّ البلجيكي الذي تصدّى منذ عام 1960 للتهديد الذي يطرحه الدولار كعملة احتياطي. تتمثّل المعضلة التي ألقى عليها الضوء في أنّ إدخال الدولار في احتياطيات جميع البلدان يتطلّب أن تبيع الولايات المتحدة أصولاً أكثر مما تتشري، وتُجبر بالتالي على التداين لتلبية الطلب والحفاظ على التبادلات العالميّة.
هكذا، بامتلاكهم العملة المرجعية العالمية التي يستقرّ سعر صرفها في معدلّ مرتفع، وباشترائهم منتجات من شركائهم التجاريين أكثر مما يبيعونهم، يكون للأميركيين عجز مزمن في الميزان التجاري. وبالنسبة لتريفين، تخلق هذه الوضعية بشكل مفارق أزمة ثقة يصير بمقتضاها الدولار عملة أقلّ جاذبية تخسر تدريجيّاً مكانتها المرجعية.
من منظور تاريخي مطوّل، حصلت سابقاً مسارات عادية فقدت خلالها عدّة عملات مهيمنة مكانتها، ويلاحظ المحلّلون أنّ السياسة الأميركيّة الحاليّة غير معلومة العواقب ومهدّدة للاستقرار، ما يمكن أن يسرّع هذه الظاهرة بحقّها. تفاقم التوترات في العلاقات الاقتصاديّة العالميّة، المرتبط بسياسة ترامب الاقتصاديّة، يحفّز الدول المتضرّرة من السياسة الحمائيّة الأميركيّة على تقليل مشترياتها من الأصول بالدولار. لكن، توجد أطروحة أخرى تعترف أنّ الطابع العدائيّ والمتقلّب وغير المتناسق للسياسة الأميركيّة يمكن أن يخلق على المدى البعيد تناقصاً تدريجيّاً للاحتياطات بالدولار، لكنّها ترى أنه يجب الحفاظ على هيمنة هذه العملة على المستوى المتوسّط.
تضع هذه الأطروحة في الاعتبار كلّاً من حاجة الصين للحفاظ على التزاماتها تجاه أميركا بالدولار الذي يعتبر سلاحاً جيوسياسياً؛ واستحالة أن تقوم بكين، التي تراكم احتياطات من الصرف بفضل الفوائض التجارية، أن تتداين بشكل كبير حتى تستبدل الدولار باليوان كعملة احتياطيّ. وتشدّد هذه القراءة أيضاً على حقيقة أنّ الصين قوّة تعيش مرحلة صعود، وتستثمر مبالغ هائلة في التطوير التكنولوجيّ، ما يحرمها من موارد ضروريّة لكسر هيمنة الدولار.