إن كان يزعجك أن سيادة وطنك منقوصة، وإن كنت تتأسى لأنّ السفارة الأميركية في بلدك أقوى من رئاسة الجمهورية، فقد يهوّن عليك حين تعرف كيف تعامل اميركا قوّةً مثل ألمانيا قد يعتبرها البعض، بسبب دورها القيادي في الاتحاد الاوروبي وفي محيطها، ثالث قوة في العالم. منذ أسبوع، أرسل السفير الأميركي في برلين - ريتشارد غرينِل - رسائل رسمية الى الشركات الالمانية التي تساهم في بناء انبوب غاز «نورد ستريم 2» بين روسيا والمانيا تفيد بأن عليها الخروج من المشروع فوراً والّا فهي قد تواجه عقوبات أميركية ساحقة. الألمان أثارهم التصريح (هم لم ينتبهوا، ربما، الى أن السفير الأميركي في لاهاي كان قد أصدر قبل أشهر قليلة تحذيراً مماثلاً للشركات الهولندية التي تعمل في «نورد ستريم» وتموّله، وعلى رأسها «شل»)، والشركات الألمانية هنا تشتغل برضا الحكومة ورعايتها، وهي من أكبر الشركات الوطنية، وتملك الدولة في بعضها حصصاً معتبرة. فوق ذلك، كما صرّح مسؤولٌ ألمانيّ ردّاً على التهديدات الأميركية، فإنّ العمل في الأنبوب قد ابتدأ بالفعل، ومن غير المنطقي ايقافه الآن.«نورد ستريم 2» هو أنبوب غازٍ (في الحقيقة هو عبارةٌ عن انبوبين تؤامين) يمتد تحت بحر البلطيق، ليصل مباشرةً بين روسيا وألمانيا من دون المرور في اوروبا الشرقية. وهو اضافةٌ الى «نورد ستريم 1» الذي دُشّن عام 2011 ويسلك المسار ذاته؛ «نورد ستريم 2» كفيلٌ بمضاعفة طاقة المشروع، وكمية الغاز التي تصل مباشرةً الى المانيا، الى ما يفوق المئة مليار متر مكعّب في السنة. هذه كمّيّة هائلة بمقاييس عالم الطّاقة: 100 مليار متر مكعّب تمثّل كامل انتاج بلدٍ مصدّرٍ كبير مثل النروج، أو أكثر من نصف صادرات روسيا الاجمالية، وتزيد عن كامل حاجة المانيا من الغاز الطبيعي (الكثير من الغاز الذي يصل الى المانيا يتمّ تصديره مجددا الى دول اوروبية أخرى، وهذا أحد أهداف برلين من المشروع: تثبيت موقعها كعقدةٍ لتوزيع الغاز في اوروبا). بمعنى آخر، حين يتمّ انجاز المشروع أواخر هذا العام، سيكون سدس الانتاج الروسي من الغاز الطبيعي، تقريباً، يصبّ مباشرة قرب مدينة غريفسفالد في شمال شرق ألمانيا.

طبقاتٌ بين الحلفاء
كما يقول الرّاحل سمير أمين، فإنّ دول «الحلف الغربي»، أو حتى العناصر الأساسية للحلف الذي يمسك بقياد العالم منذ الحرب العالمية الثانية (اوروبا الغربية + اميركا الشمالية + اليابان) ليست متساوية ومتراصّة كصفّ الجنود، بل بينها تراتبية وامتيازات. مثلما إنّ اميركا تقود على مستوى الحلف ككلّ، وفرنسا والمانيا لهما الأفضلية في اوروبا، فإنّ لكلّ بلدٍ موقعٌ ودورٌ وتأثيرٌ، ضمن هذه التراتبية، يختلف باختلاف قدراته ووزنه والخلفية التاريخية (هل دخلت الحلف، مثلاً، كدولةٍ منتصرة بعد الحرب العالمية الثانية، أم عبر معاهدة استسلام؟). الخلاف هنا، حول انبوب الغاز، يعطي صورةً مكثّفة عن هذه العلاقات وكيف يحاول كلّ طرفٍ، حتّى ضمن معسكر الـ«ناتو»، تأمين موقعٍ أفضلٍ له في بنية القوّة.
«نورد ستريم»، بدايةً، هو مشروعٌ منطقيّ للروس وللألمان من أكثر من زاوية: أن تنقل الغاز الروسي مباشرةً الى اوروبا الغربية، حيث الأسواق الكبيرة، من دون اجتياز عدّة دولٍ ودفع رسوم مرور. أن تحصل المانيا على غازٍ وفيرٍ ورخيص، لا يخضع للتجاذبات السياسيّة والمشاكل في الشّرق. وهي الخطوة الأهمّ بالنسبة الى روسيا من أجل زيادة دفق الغاز الى اوروبا والتحرّر من عوائق «المنظومة السوفياتية» - يخرج من روسيا أكثر من 12 انبوب غازٍ ضخم للتصدير، ولكن أكثرها بُني في الحقبة السوفياتية وفق جغرافيا تلك الأيّام؛ فتمرّ الأنابيب التي تتجه الى اوروبا الغربية عبر اوكرانيا أساساً، وروسيا البيضاء بشكلٍ ثانوي، قبل أن تعبر بولندا الى دول غرب اوروبا. تطمح روسيا، عبر «نورد ستريم» وايضاً عبر أنابيب مشتركة مع تركيا، الى ايجاد سبلٍ بديلةٍ للتصدير الى دول الاتحاد الاوروبي و»التحرّر» - سياسياً واقتصادياً - من سطوة «الجيران»، خاصة اوكرانيا وبولندا اللتان لا يجمعهما بموسكو أيّ ودّ، وتستفيدان بشكلٍ كبير من عائدات عبور الغاز الروسي. «نورد ستريم 2»، الذي يجري تنفيذه حالياً وتحاول اميركا عرقلته، سيمتدّ على 1200 كيلومتر، أكثرها تحت البحر، وسيكلّف قرابة الـ11 مليار دولار. على الهامش، عطفاً على هذا الرّقم: قرأت كلاماً عراقياً عن أنبوب مقترح لنقل النفط العراقي الى العقبة في الأردن، مع تقديرات للتكلفة تتراوح بين 14 و18 مليار دولار. لا أعرف صحّة هذه التقارير، ولكن الرّقم لا يمكن أن يكون صحيحاً أو منطقياً لأنبوب نفط، بل هو كلفة قطار سريع. المسافة هي تقريباً ذاتها مقارنة بـ«نورد ستريم»، والأنبوب بين العراق والعقبة أنبوب نفط، لا يحتاج - كالغاز - الى محطات ضغطٍ مكلفة؛ وانت تمدّه في الصحراء، لا في قاع البحر كما «نوردستريم»، ولست مضطراً لتغليفه بطبقةٍ من الاسمنت، الخ (وهناك، بصراحة، مشكلة في التبرير الإقتصادي لأنبوبٍ عراقي الى العقبة من الأساس: إن كنت تريد تصدير النفط الى آسيا، فالبصرة أقرب؛ وإن كنت تريد التصدير الى اوروبا والمتوسط وشمال اميركا، فالأجدى هو أن تبني منفداً شمال قناة السويس، وليس جنوبها. يبقى هنا أن نبحث عن «السبب السياسي» خلف المشروع، ومن دفع به و«شجّع» عليه، وضمن أي «صفقة» تتم هنا مكافأة حكومة الأردن على حساب العراق؟).
حتّى نفهم الحسابات السياسية خلف «نورد ستريم»: الأنبوب قد يكون منطقياً ومفيداً بالنسبة الى المانيا، ولكنّه يعني ايضاً أن برلين «تبيع» حلفاءها الفقراء (بولندا واوكرانيا) وتقدّم مصلحتها عليهم وتهمّشهم وتحرمهم من احدى ميزاتهم القليلة. هنا برلين تفرض بشكلٍ بارد التراتبية التي تكلّمنا عليها أعلاه. بل، من وجهة نظر حكومات بولندا واوكرانيا، فإن المانيا تُعين بوتين عليهم، وتسهّل حلمه في قطع الغاز عن اوكرانيا والاستغناء عنها طريقاً للتصدير - وهذا لن يحصل على الأرجح، ولكن بوتين بالطبع يريد أن يكون لديه هذا الخيار (من هنا، فإنّ كييف ووارسو هما من أشدّ المعادين للمشروع، وبولندا لم تكتفِ بتأليب البرلمان الاوروبي ضد «نورد ستريم»، بل باشرت بملاحقة الشركات التي تساهم فيه في محاكمها).
بالمعنى ذاته، فإنّ الرسائل الأميركية الى برلين تذكّرها بالتراتبيّة اياها: إن شاءت اميركا، فهي قادرة على أن تسلّط عليها (على حليفتها) ماكينة العقوبات المدمّرة التي تستخدمها ضد روسيا وايران وكوريا؛ ولن تتمكّن برلين بالمقابل من فعل شيء. الموقف اسوأ إن أخذت في الاعتبار أنّ «نورد ستريم» هو البقيّة الباقية من «العلاقة المميزة» بين ألمانيا وروسيا، بعد أن ضحّت المانيا بأكثر علاقتها مع موسكو، واصطفّت مع اميركا والاتحاد الاوروبي خلال حرب اوكرانيا، وشاركت في العقوبات الغربية، وسحبت أكثر استثماراتها من روسيا، وأوقفت مصارفها التعامل مع المصارف الروسيّة، وها اميركا الآن، بعد كلّ هذا، تريدها أن تتخلّى ايضاً عن أنبوب الغاز، آخر مشاريعها الكبيرة مع روسيا وضمانة بعيدة المدى للاقتصاد الالماني.

حدود «العلاقة المميزة»
في الحقيقة، فإنّ «العلاقة المميزة» بين البلدين أصبحت تقليداً مزمناً، وهي تمتدّ من أيّام الـ«اوست بوليتيك» للمستشار الألماني ويلي برانت خلال الحرب الباردة، مروراً بموقف موسكو الايجابي تجاه إعادة توحيد المانيا، ووصولاً الى مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، حين أصبحت المانيا المستثمر الأوّل في روسيا و«بوابتها» الى الغرب واوروبا. «نورد ستريم» كان أحد ثمار هذه العلاقة، التي نظّر البعض الى أنها قد تكون انتهت ودُفنت بعد حرب اوكرانيا، حين تيقّن الرّوس أن الالمان - في لحظة الحقيقة - لن يحيدوا عن سياسة المعسكر الغربي تجاههم (الطريف هنا هو أنّ بعض المنظرين العرب توهّموا بالفعل بأنّ هناك «خياراً»، بالنسبة الى ألمانيا، بين اميركا والمعسكر الغربي من جهة، وروسيا من جهةٍ أخرى، وأنّ هناك احتمالاً في أن «تنشقّ» النخب الألمانية وتختار روسيا في لحظة الحرب).
ولكن، من وجهة نظر مختلفة، يمكن أن نقرأ العلاقة الروسية الألمانية «المميزة» على أنّها، هي ايضاً، علاقة تراتبية، تشبه علاقة بلدٍ من المركز ببلدٍ طرفي: المانيا تستورد من روسيا المواد الخام وتصدّر الآلات الصناعية والاستثمارات ومنتجات الرفاهية، بل وتستورد منها اليد العاملة (بعد 1990، هاجر أكثر من مليوني مواطن من دول الاتحاد السوفياتي السابق، لهم أصول المانية، الى المانيا وأصبحوا جزءاً من شعبها ومن قوتها الانتاجية). كانت برلين تعقد الاتفاقات مع روسيا بيد فيما هي، باليد الأخرى، تساهم في تفكيك يوغوسلافيا واضعاف موقع روسيا وتعزيز تمدّد الـ«ناتو» نحو الشرق. عام 2001، وفي خطابٍ ألقاه في المانيا ومن على منبر الـ«بوندستاغ»، قال بوتين إنّ روسيا قد التزمت نهائياً بـ«الخيار الأوروبي». ولكن، ماذا لو كان «الخيار الاوروبي» المتاح لروسيا هو ليس أن تكون عضواً في أسرة متساوية، بل أن تصبح دولةً طرفيّة - وربما مفككة - ضمن النظام الاوروبي، مجرد مصدرٍ للمواد الخام وأرصدة الأثرياء، من دون أن يكون لها قرارٌ في محيطها؟
هنا نصل الى الطرف الأخير - والأهم - في معادلة «نورد ستريم»، وهو روسيا. النظرية الألمانية خلف منهج العلاقة المميزة (سواء مع بريجينيف أو مع بوتين) هو أنّ القيادة الروسيّة ليست بالسوء الذي يصوّرها عليه الغرب، وأنّ بوتين - مقابل الهجوم الغربي عليه وفي محيطه المباشر، يتصرّف بطريقة أكثر «عقلانية» وهدوءاً من حكومة روسيّة بديلة؛ وأنّه من الأفضل أن تبقي العلاقات الاقتصادية التي تقوّي النظام الروسي واقتصاده وأن تشتري منه الغاز، على أن تدفع روسيا الى الانهيار الاقتصادي أو تضعها في الزاوية (وإن كان الالمان يفضّلون لو أنّ بوتين لم يعد الى الرئاسة بعد ميدفيديف - الذي كان اختياره للخلافة، بالمناسبة، تأشيراً على «الخيار الاوروبي» لروسيا، باعتباره المفضّل للألمان والأقرب الى الاوروبيين مقارنة بإيفانوف وغيره من الشخصيات التي تم تداول أسمائها يومها).
قد تكون أحداث اوكرانيا هي ما أقنع القيادة الروسية أخيراً بأنّ لا مكان لها ضمن المنظومة الغربية (أو مكانٌ وموقعٌ تقبل بإشغاله)، وأنّ «العلاقة المميزة» مع المانيا لن تعصمها حين تنزل المطرقة الأميركية وتقرّر عزل روسيا. قد يكون الرهان على المناورة وانتظار «الانحدار الأميركي»، أو اشتعال التناقضات بين الحلفاء خياراً، أو حتّى استبدال الأسواق الغربية بالصين، ولكن هذه الاحتمالات لا تزال بعيدة، أو هي على الأقل لم تنفع روسيا عام 2014. على الأرجح، سوف يتمّ بناء أنبوب الغاز مع المانيا في نهاية الأمر، ولكنّ المسؤولين الألمان، لتهدئة الأميركيين والاوروبيين، يصرّحون من الآن بأنّه «استثناء»، مرّ لأنّه اعتبر في يومه مشروعاً اقتصادياً بحتاً، وأن أي مشروع طاقة مستقبلي مع روسيا سيخضع للنقاش مع الاتحاد الاوروبي (أي أن «نورد ستريم» سيكون، في المدى المنظور، المشروع الأخير). التحدي الحقيقي أمام روسيا هو في أن تدافع عن موقعها ومكانها في عالمٍ ما زال يخضع للشروط الأميركية، وهي مسألة أكبر - وأكثر كلفةً بكثير - من أنبوب غاز.