بدت الضغوط الداخلية على حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا كأنها انعكاس للتناقضات الكثيرة والإخفافات التي منيت بها السياسة الخارجية، والتي شكلت حجة رئيسية لمعارضي الحكم من أجل تحجيم الرئيس رجب طيب أردوغان المتهم بالرعونة وبديكتاتورية قاربت ديكتاتورية العسكر ورقابتهم.
حتى إن الشكوى من محاولته فرض الرقابة على الإنترنت، تحت حجج رآها البعض واهية كالحفاظ على أخلاق اليافعين من الشباب، حملت البعض على اعتباره خائفاً من التحركات الشعبية، ولا سيما أن خصم اليوم فتح الله غولن، راعي المدارس التي استوعبت العديد من الشبان الذين جرى العمل على كفاءتهم العلمية والتكنولوجية، يمتلك قاعدة شعبية إسلامية _ اجتماعية ترى أن تركيا الديموقراطية عنوان تقدم أحزاب الإسلام على العسكر، وليست سياسة القمع التي مارسها أردوغان على الشباب العلماني والقومي المعارض لسياساته. تلك السياسة المتدخلة في الشوؤن الخاصة للشعب التركي وسياسات إعطاء المناقصات الحكومية والاستثمارات الخارجية لجماعته، ما عدّ استئثاراً يبعد المعارضة العلمانية وحتى جماعة الخدمة عن الاستفادة الاقتصادية.
لعبت القضية الكردية والمفاوضات التي قامت بها الحكومة مع زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان 2013 دوراً في تكتل القوميين الأتراك والعلمانيين ضده خوفاً من إعطاء الأكراد كإثنية حقوقاً على حساب تركيا الدولة. كما أن غولن المعترض أصلاً على رئيس الاستخبارات التركية هاكان فيدان، الذي يُعدّ اليد اليمنى لأردوغان، منذ مفاوضاته للأكراد في أوسلو 2007، يملك تصوراً لاستيعاب الأكراد وضمّهم، ولا سيما أن مدارسه المنتشرة في المناطق الكردية حتى كردستان العراق هدفها على المديين الطويل والمتوسط استيعاب الأكراد ومطالبهم وتنشئة جيل كردي جديد يحمل الأفكار هذه ويمارسها.
ويشكّل غولن بالذات هدفاً لحزب العمال الكردستاني وبعض الأحزاب الكردية الأخرى التي ترى فيه مشروعاً من أجل تذويب الأكراد في المجموع التركي باسم الإسلام الاجتماعي. وقد لعب فيدان دوراً كبيراً في إقصاء جماعة الخدمة عن بعض المراكز الأمنية والقضائية بسبب معارضتها الشديدة لمجمل السياسات المتبعة، ما حوّل الأزمة إلى صراع على شخص رئيس الاستخبارات بما يمثله من تقاطعات خارجية وداخلية.

حجر الزاوية وأمين السر التنفيذي

فشل هاكان فيدان في إنقاذ حكم الرئيس الإخواني محمد مرسي في مصر، حيث اتهمت الاستخبارات التركية والأميركية بإشاعة الفوضى لإنهاك الجيش المصري. وهما وإن اختلفا حول جماعة «القاعدة» في سوريا وكيفية التعامل مع الأزمة السورية، إلا أنهما اتفقا على مصالحهما في مصر؛ فأميركا لا تعتبر فيدان صديقاً وفياً لأميركا، لكنه وفيّ للأمن القومي التركي ولا بد لها من التعاون معه. كذلك شكته إسرائيل الى رئيس الحكومة الذي دافع عنه باعتباره ينفذ تعليماته. وبالرغم من اتفاقه مع رئيس الاستخبارات السعودية بندر بن سلطان على مدّ المعارضة السورية بجميع الأسلحة المتقدمة لإسقاط نظام الرئيس بشار الأسد في سوريا، إلا أنه تناقض معه في مصر. وقد لعبت الاستخبارات التركية دوراً كبيراً في أحداث مصر وسوريا بشكل كبير، حيث إن إشاعة الفوضى في هذين البلدين والقضاء على جيشهما يجعل منها قوة في الشرق الأوسط، ما يمكّنها من أداء دور إقليمي.
لكن تركيا لم تستطع حجز مكان لها في مصر؛ فالسعودية اعتبرتها منافسة لها على عرش مصر ولن تسمح للإخوان بتولي السلطة. ووقفت في وجهها وتناقضت مع الولايات المتحدة، ما أدى إلى تعقيد السياسة الأميركية في القاهرة من خلال دعم السعودية للجيش المصري ضد مرسي. ترافق صعود فيدان مع تراجع في نفوذ الولايات المتحدة على تركيا، حيث كانت واشنطن الحليف القوي لأنقرة في زمن العسكر، لكنها تناقضت معها اليوم في ظل دعم فيدان لعناصر جهادية من «القاعدة» و«النصرة» في الوصول الى سوريا. صحيح أن الولايات المتحدة لم تمانع في التسليح والتدريب، لكنها لا تتحمل الانكشاف الأمني والسياسي للجماعات المسلحة، ولا سيما أنها نبهت تركيا من إمكانية استيعاب المتطرفين. لقد كان لديها مخاوف من إمكانية وصول السلاح إلى العناصر الجهادية، ما يهدد المصالح الأميركية في سوريا. من هنا يمكن فهم ردود الأفعال المتناقضة للأوساط الأميركية حيال فيدان، في ظل شكوك به ولا سيما بعد اتهامه بنقل تقارير استخبارية أميركية _ إسرائيلية حول إيران لطهران منذ ثلاث سنوات. وهي تحذر منه، لكنها تحترمه وتنهيه في الوقت عينه، لعلّه بسبب إخلاصه للأمن الإقليمي والداخلي التركي وتعاونه مع استخباراتها.

في مرمى السياستين الداخلية والخارجية

إثر الاتفاق الأميركي _ الروسي حول سوريا بعد مجزرة الكيميائي التي كان واضحاً بالنسبة للروس أنها من عمل الاستخبارات التركية _ الأميركية، وبعد المحادثات النووية الأميركيّة _ الإيرانيّة والخسارة التركية الأميركية في مصر، كان لا بد من إعادة ترتيب المشهد الإقليمي _ الاستراتيجي. وكان لا بد أيضاً من ترتيب وضع تركيا أو إبعادها عن التعنت في الملف السوري، ولا سيما بما خص وجود الأسد في السلطة، الأمر الذي يمكنه من عرقلة تفاهمات إقليميّة مشتركة بين واشنطن وطهران.
ضمن هذا الإطار، شهدت تركيا تظاهرات ضد الفساد وتصاعدت اعتراضات جماعة الخدمة (غولن) ضد حكومة أردوغان. تفجر الصراع الذي كان صامتاً بينهما منذ سنة. تعرّض مدير الاستخبارات التركيّة هاكان فيدان لحملة عنيفة من الداخل والخارج معاً، حيث قامت المعارضة العلمانية، إضافة إلى جماعة غولن أخيراً بفضح عملية إرسال أسلحة للمعارضة السورية بعد ادعاء الحكومة بأنها شاحنة إغاثة. كذلك عمدت الصحافة الأميركيّة الى اتهام فيدان بدعم راديكاليين إسلاميين في سوريا. شكل هذا الملف أداة للضغط على أنقرة من أجل تليين موقفها من سوريا، وإيقاف أي عملية تسليح فيها. كما جرى إرضاؤها بتشجيع نوري المالكي في العراق للانفتاح على تركيا، رغم اتهاماته لها بالضلوع في دعم الإرهاب القاعدي. وشجعت إيران هذا المسعى. وهكذا ضغطت أميركا على الائتلاف من أجل مؤتمر جنيف.

الإرهاب يضرب في الداخل التركي

تعيش أنقرة اليوم هاجس تحول تنظيم «القاعدة» إلى قضية مركزية في تركيا، ليس لوجوده المكثف في دول الجوار الجغرافي فحسب، وإنما لوجوده أيضاً داخل العديد من المحافظات التركية، بعدما انتهجت أنقرة استراتيجية «الباب المفتوح» مع التنظيمات المتطرفة. كان داود أوغلو قد عبّر عن رفضه المخاوف الدولية من تنامي قوة المنظمات الإرهابية في سوريا. لكن تركيا وُضعت على «القائمة الرمادية» من قبل الهيئة الدولية لمكافحة غسيل الأموال، وتمويل الإرهاب. وانعكست استراتيجية الاستخبارات التي حاولت ضرب الأسد ووضع «القاعدة» في وجه أكراد سوريا، سلباً على الواقع التركي إثر تلقي البلدات التركية الحدودية قذائف طائشة، ما حمل الجيش على الرد أكثر من مرة. لقد أضفت هذه الاستراتيجية شرعية على الأسد الذي بدا مقاتلاً ضد الإرهاب بدل توريطه وضربه. كما أن العديد من الشباب التركي تجند إلى جانب «القاعدة» وأصبح يذهب للقتال في سوريا، ومنهم من ذهب كمرتزق للحرب هناك. تحولت تركيا إلى دولة تستورد الإرهاب، حيث تقوم سيارات الإسعاف بأخذ المصابين لمعالجتهم في مشافيها وإعادتهم الى الحدود مع سوريا.
لقد أغفلت الاستخبارات التركية نشاط «القاعدة» ونفت أن يكون لها علاقة بتفجيرات الريحانية، رغم اعتراف «داعش» بالأمر. هُددت تركيا بعد المعارك الأخيرة وإغلاقها باب الهوى بعمليات انتحارية داخل المدن. وبعد حدوث مشكلات أمنية في بعض المحافظات الجنوبية، وفي ظل الخوف من وجود خلايا نائمة، قامت تركيا ببناء جدار عازل وأوقفت عشرات المسلحين وأحبطت محاولة مسلحين يحملون غاز السارين تفجير السفارة الأميركية. كذلك أوقفت عمليات كانت تستهدف البرلمان وعدداً من الكنائس. وفي ظل هذه الأحداث، رب متسائل حول أسباب وماهيّة التظاهرات والاتهامات بالفساد والمطالبة باستقالة هاكان فيدان، عيون أردوغان وآذانه؟
لا شك بأن محاربة «الإرهابيين» هي الملف الذي سيتحول الى مصلحة مشتركة بين روسيا وأميركا وإيران وتركيا والعراق، ويحل محل المصلحة المشتركة السابقة بين تركيا وعدد من الدول الإقليمية والدولية التي تمثلت بإطاحة الأسد، ولا سيما بعد الأزمة المصريّة وتراجع نوعيّة العمل المشترك مع السعودية.
يهم صانع القرار التركي الهروب الى الأمام وتلقي المبادرة الإيرانية التي تجد دوراً إيجابياً لتركياً. وهو المقبل على معارك سياسية في العام الجاري، في ظل حالة من عدم الاستقرار الإقليمي والضغط الخارجي والداخلي.
* باحثة لبنانية