لا تفعل الحكومة، والسلطة بشكلٍ عام، عبر مؤسساتهما المختلفة: التشريعية والتنفيذية والمالية والقضائية والرقابية... سوى مفاقمة الأزمة العامة والحادة التي تتهدد لبنان واللبنانيين. العنوان الراهن هو تمادي تعثّر التأليف الحكومي للشهر الثامن على التوالي. لكن ذلك ليس العنوان الوحيد ولا هو الأخطر، فضلاً عن أنه نتيجة وليس سبباً. مع هذا التعثّر يستمر الفشل والعجز والهدر والنهب... في حقول عديدة تشمل قطاعات أساسية بعضها ذو طابع سيادي كالاتصالات، والكهرباء، وملف النفط، وملف المديونية، وملف التجنيس، وملف حقوق المواطنين ومدَّخراتهم وتعويضات نهاية خدمتهم... وصولاً إلى انتظام تلقي رواتبهم وخطر تخفيضها، وكذلك خطر تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية، ومعها كوارث انهيار الرواتب والتعويضات إلى مستويات كابوسية. هذا فضلاً عن ملفات بيئية وصحية وتلوث شامل، وقبل ذلك وبعده فضيحة النفايات المرشحة، قريباً ومجدداً، لإغراق البلاد بالأوبئة والقاذورات...لقد أثار هذا الواقع المزري استياءً غير مسبوق في أوسع أوساط الرأي العام اللبناني. وجذب تردي الأداء الرسمي وما نجم عن ذلك من الخسائر والمخاطر، المحققة والمتوقعة، عدداً من المتضررين إلى ساحة الاحتجاج. الأكثرية ما زالت تكتفي بالترقب القلق لكن أعداداً لا بأس بها قد استجابت إلى دعوات ممارسة فعل الاحتجاج في الشوارع. إلا أن هذه الأعداد ليست بالحجم الضروري للتعبير عن اتساع المتضررين، من جهة، ولا هي بالتأثير والزخم الكافيين لممارسة ضغط قادر على فرض مسار مختلف على أركان السلطة. صحيح أن هؤلاء الأركان يتناكفون كثيراً، ويتنافسون أكثر، على توازنات السلطة وتوزيع المغانم والمكاسب والمواقع السياسية والإدارية والتنفيذية... لكنهم متحدون، اتحاداً راسخاً و«مقدّساً»، في مواجهة أي تغيير قد ينال من منظومة المحاصصة، مهما صغُرَ حجمه وتدنَّت تأثيراته. وهم من خلال هذا التضامن، معطوفاً على إتقانهم وإدمانهم تعبئة المواطنين بالعصبيات المتنوعة: الطائفية والمذهبية والمناطقية والعشائرية، فضلاً عن الزبائنية المستشرية في عملية شراء الولاء والضمائر وإشاعة الفساد... هم يتمكنون من احتواء حالات الاعتراض وامتصاص آثار ما يتولد من مناخات الاستياء والنقمة... بما رسخ، في الرأي العام، معادلة من نوع: «فالج لا تعالج». والواقع أن توليد وتكريس ذهنية تيئيس المتضررين وخصوصاً المحتجين منهم، هو هدف كبير لدى أطراف السلطة لتصوير الوضع الشاذ المفروض على اللبنانيين بأنه أمر ناجم «طبيعة» اللبنانيين أنفسهم! والمحتجون، عادة، هم حَمَلة مشاريع التغيير ذات الطابع الجذري غالباً والجزئي أحياناً: ممثلة بأحزاب سياسية وهيئات نقابية وتشكيلات أهلية... دخلت الساحة منذ عشرات السنين دون أن تتمكن، إلا نادراً، من أن تحجز لنفسها مكاناً راسخاً ومؤثراً في الخارطة السياسية العامة. بل أن بعضها قد تحول، طوعاً، أو كرهاً، إلى تابع وملحق لأركان السلطة وتشكيلاتهم التحالفية السياسية وولاءاتهم الخارجية. ذلك هو الواقع السلبي الذي ينبغي تفحصه، الآن، بمسؤولية وموضوعية كاملتين. ولا أبالغ إذا قلت، أيضاً، بنفس ثوري: يستعيد نقاوة البدايات (لجهة التجرد والصدق مع الذات ومع المجتمع)، من جهة، ويستوعب حجم المتغيرات المتراكمة على مرِّ العقود، من جهة ثانية، ويقيٍم أسباب الفشل والتراجع، من ناحية ثالثة.
إن اللحظة الراهنة، هي، موضوعياً، لحظة مفتوحة على احتمالات انعطافية: تغييرية أو حتى ثورية. طرفها الفاعل، على الأقل، والذي هو السلطة القائمة، لم يعد قادراً على الاستمرار بالطريقة السابقة نفسها. آخر من اعترف بذلك، منذ أيام، وزير المالية بقوله لـ«الأخبار»: «لا يمكن الاستمرار بهذا الاتجاه». وكذلك فإن مرجعه السياسي (وهو أحد كبار أركان السلطة والنظام) قد تبنى، فجأة، مطلب «الدولة المدنية» بوصفها المُنقذ من الأزمة الراهنة. مع ذلك، ورغم الشعور بتعاظم الأزمة فإن ذلك لم يُلغِ الإمعان في الهدر المبرمج والبنيوي، وفي النهب التحاصصي المقترن بالفجور والوقاحة والاستفزاز...
لا شك أن ذلك دفع ويدفع منسوب النقمة والشعور بالخطر إلى مستويات أعلى وأوسع. لكن، في المقابل، لا تتوفر للمتضررين صيغة فعَّالة للتعبير عن احتجاجهم ونقمتهم وخسائرهم. والمشكلة ليست فقط في ضعف وتشتت قوى التغيير وتوزع ولاءات الكثيرين منها على تحالفات أطراف السلطة. إنها، أيضاً، في عجز هذه القوى، حتى لو تجمَّعت، عن إنتاج وحدة فعّالة بسبب أن ما تتطلبه اللحظة الراهنة هو أكثر من وحدة هشة عانى ويعاني أطرافها من الغربة عن هموم الأكثرية الشعبية مكتفين بالمراوحة في شعارات مستهلكة لم يعد يربطها بالعصر وبالمرحلة وبأولويات المواطن وهمومه... أي رابط جدي. وليس بالصدفة، في هذا السياق، أن العمل الجبهوي غائب لأن، ما يوجه مواقف وعلاقات أحزاب التغيير، بشكل عام، إنما هو الشعاراتية الجامدة التي يلعب فيها التكرار الأيديولوجي الببغائي دوراً سلبياً مانعاً لاشتقاق البرامج الملموسة ذات الطابع المرحلي التي تعبر عن مطالب وحاجات الأكثرية الشعبية وتجعلها معنية تماماً بالانخراط في الصراع، من هذا الموقع، وليس من موقع نظري شعاراتي عام يتجاوز، تعسفاً، الحاضر من قبيل الانقطاع عنه (لا من قبيل الاستباق والاستشراف)، فيما هو، فعلياً، يقبع في ماضٍ بات بعضه بعيداً وسحيقاً إلى حد بعيد!
يتردد الآن شعار بناء تيار وطني واسع من شأنه تعبئة كتلة شعبية سياسية قادرة على ممارسة ضغط منظم من أجل إحداث التغيير. تبني هذا الشعار جيد. لكن هذا الشعار لن يتحقق بمجرد التجميع الذي أشرنا إلى ضعف وخلل كبير في مكوناته. إنه، في الأساس، عمل تأسيسي ركيزته قناعة بنشوء (أو إنشاء) صيغة جديدة للعمل الوطني تشارك فيها أحزاب التغيير ومستقلون فاعلون في المجتمع والقطاعات والأنشطة المدنية... أما جوهرها فاشتقاق صيغة جديدة تؤمن المشاركة وتتخطاها إلى استحثاث الكتلة الشعبية الأكبر على الانخراط، من موقع الشريك الفاعل والقادر والمسلّح ببرنامج وإطار منظّم، من أجل صنع الحدث التغييري بكل ما يتطلبه ذلك من تدبير ورشاقة وشجاعة وتضحية وريادة وإخلاص ومثابرة.
إن الانتقال من التجميع إلى التأسيس يمر، حكماً، بتعزيز القناعة بهذا التحول في الأحزاب نفسها، بحيث تصبح، من خلال إعادة التقييم والمراجعة وحسن الاستنتاج، قوة حيَّة متفاعلة، في البرامج والصيغ والأولويات والإرادات والوسائل، مع العصر والوضع الملموس والأولويات الفعلية لا المفتعلة... وسيكون من شروط هذا العبور، من حالة إلى أخرى، إدارة نقاش خاص وعام بهذا الشأن، والتوصل إلى استنتاجات موضوعية وثورية بعيدة عن الفئوية والاستئثار والغرضية. وبديهي أن ذلك لا يمنع المضي في التحركات شرط أن تكون محسوبة ومستوفية للحد الأدنى من فرص النجاح بحيث تصبح مكملاً ضرورياً، في وهج الشارع والتحرك، من أجل بلورة التيار المذكور في مكوناته النظرية والعملية والبرنامجية والتنظيمية.
يبقى من الضروري القول بأن هذا النوع من إعادة التأسيس، لا ينطبق على الشق الاجتماعي فحسب، بل على الشق الوطني التحرري أيضاً.
* كاتب وسياسي لبناني