في نيسان 1994 شنّت أغلبية الهوتو حملة إبادة ضد الأقلية من التوتسي في رواندا، وخلال 100 يوم قُتل ما يربو على 800 الف شخص وتعرضت الآلاف من النساء للاغتصاب. أما اليوم فتُعتبر السياحة مصدر الدخل الأول لرواندا حيث يستطيع هذا البلد المنكوب أن يحصل عبرها على العملة "الصعبة"، كما لو أنه لا تكفيه صعوبات. وفي النشرة السياحية لرواندا تتفنن الحكومة بإظهار محاسن هذا البلد من مناظر طبيعية وحيوانات نادرة، حتى أنّك تستطيع أن تُعاين المجازر التي حصلت في اماكن مخصصة ومنظمة لهذه الغاية، طبعاً في سبيل متعتك السياحية وصورك التذكارية، لم لا؟ طالما انت السائح... أيقونة السوق الاستهلاكي.يعتري السائح فرح طفولي ما إن يصعد الطائرة ويغادره ما إن يعود إلى بلاده، هذا سبب الكآبة التي تعتري السائحين فور انتهاء رحلتهم. هذه حالة لم يوصّفها علم النفس بعد بشكلها الصحيح ولم يطلق عليها اسماً يجعلها حقيقة لا غُبار عليها لمن اعتبر العلم حقيقة مطلقة. فالسائح يتفجر طاقة متجددة، "هُرمون الاستهلاك" في اعلى مستوياته، هو يعلم أنه دفع ثمن كل لحظة بحسب العرض الشامل للشركة السياحية، ولا يُريد أن يضيع أيُّ قرش استثمره.
الجميع يبتسم للسائح، موظف المطار الذي يختم الجواز، موظف البنك الذي تغمره السعادة إن لجأ اليه السائح لسحب المال من حساب أجنبي... الشرطي، حتى الشرطي يبتسم للسائح ويسمح له بالتقاط الصور معه. وحدهم الفقراء يشتمّون زيف السائح ولا تُقنعهم كل هذه الزخارف. هم يعلمون أن البشر جميعهم متشابهون فقد علّمهم الجوع ذلك، لذا وجب قدر الامكان إبعاد هذه الطبقة عن السائح، عبر رسم خرائط للزيارة مرسومة بشكل مثالي، كي لا تتعكر زيارته وكي يحافظ على تفاؤله.
عندما يصل السائح الى وجهته، عادةً تكلّف الرحلة الممتدة بين الخمسة أيام والأسبوع ثمن هاتف ذكي، يجد التاكسي في انتظاره. يُقله مباشرة الى الفندق حيث يجد الدليل السياحي ذا البسمة العريضة والدائمة في انتظاره. حرص الدليل في كل لحظة على بث الطمأنينة والحب والتفهم العميق للسائح. لكن خلال الأوقات التي ينفرد فيها الدليل بنفسه قد تستطيع التقاط قلقه وتعبه من حياته ومن زوجته المستاءة ربما من بقائه بعيداً عنها لأيام طويلة يرافق فيها السياح، عندها فقط يسمح لحبيبات العرق ان تفر من جبينه، ولقلقه ان يعتلي وجهه، ولملله من تكرار نفس المعلومات السطحية (التي من الممكن الحصول عليها ببساطة من "غوغل") لأشخاصٍ سينسونها حتماً عندما يعودون الى بلادهم.
لا نقابة للسياح، هذا وضع مريح للدولة وللسائح، فلا مطالب أصلاً للسياح. هم فئة من الناس يعيشون الفرح مع الزمان والمكان ويحمدون ربهم في كل لحظة لأنه يسّر لهم هذا. فرحهم بأنفسهم يجعلهم يرون الصورة باللون الزهري، إنها عادة سرية عقلية، ففرح السائح بنفسه يجعله يعانق الوجود إن وجد شحاذاً على الطريق مثلاً، رغم محاولة الحكومة الحثيثة لتجنيب السياح هذه المواقف المزعجة، قد يتوقف ليتصور معه "سيلفي" كدليل على وجوده في هذا البلد ومعاشرته لكل جوانبه، وقد يكتب على حسابه في الفايسبوك "سيلفي والشحاذ الأجنبي خلفي"، علماً أنه هو الاجنبي، وهذا الشحاذ هو ابن البلد ونتيجته.
وحدهم الفقراء يشتمّون زيف السائح ولا تُقنعهم
كل هذه الزخارف

سيأتي يوم على البشر يصبح فيه لرؤوسهم قابس الكتروني يضعون فيه حافظة الكترونية مليئة بالصور متى احتاجوا استرجاع ذكرياتهم. سيُصبح البشر كائنات بذاكرات الكترونية يلجأون اليها متى احتاجوا التذكّر نتيجة توثيقهم لذكرياتهم بالصور بفضل الهواتف الذكية. السائح يلتقط صورة لكل لحظة حتى وإن كانت لا تعني أحداً غيره، لكن في عصرٍ أصبحت القيمة فيه خارجية، المال والممتلكات هي المعيار، أصبحت الذكريات أيضاً خارجية، فليس المهم أن تُسقط الذكريات أحاسيسَ أو وعياً جديداً بل المهم أن نستطيع اظهارها للآخر. ولهذه الصور أبعادها الوجودية فهي من أهم طقوس الفايسبوك والإنستغرام، معابد الأنا في العصر الحديث، حيث يمكن للأنا ان يتضخم بفضل الصلوات او "اللايكات" الى حدوده القصوى.
يقول كارل ماركس في تحليله لأساس التديّن عند البشر إنّ الانسان يسعى للسماء لاستعادة قيمته الإنسانية المفقودة على الارض، أي في حياته اليومية، إنه يُداوي "أناه" المتضائل في الواقع عبر قيمة "افتراضية". في عصرنا هذا يتعبد الانسان أناه على الشبكات الالكترونية ليمنحها قيمة تُعوّض تضاؤلها في عالم الواقع، والصور المنشورة لها أثر الصلاة والصوم. فالأنا كان هنا، يكفي هذا لكي يشع الأنا بكامل بهائه ولكي يُصبح قبلة للضائعين، إماماً للضالين، حلماً تتماهى معه بقية "الانوات" التي تسعى للفوز بمرتبته السامية والتي تبحث عن قيمتها الخارجية المفترضة التي تعوض قيمتها المسحوقة في هذا العالم.
ليس المهم ماذا تعلمت في رحلتك السياحية، وأيُّ أثرٍ سيكون للتاريخ الذي تعرّفت إليه في استيعابك للحاضر وبنائك للمستقبل. أيُّ أثرٍ تَركتَ في البلاد التي زرتها، إن كنت تَركت أيّ أثر غير دولاراتك الخضراء التي لا بصمة لك عليها في نهاية الامر، فهي مرآة من يملكها. المهم أن تساهم في انتعاش الحياة النقدية للبنوك عبر زيادة تداول العملة. النساء في انتظارك طالما تملك المال لتدفع في المقابل طبعاً فلا مجال للحب في هذه الاقامة القصيرة، لا يهم، طالما تملك المال فكل الخدمات متاحة. اما عن السياحة الدينية فالأمر لا يختلف كثيراً، البركات والثواب موجودين طالما التزمت المدة المتفق عليها ودفعت المبلغ المفروض... خدمات جاهزة من ضمنها الصلاة والصوم بحسب الطلب مقابل الثمن. لا تهتم ايها السائح، أنت في النهاية كنت موجوداً، فرحاً، مُمتلئاً، وموثقاً بالصورة.
* كاتب وطبيب لبناني