كتاب أستاذ الفلسفة في جامعة يِل، جيسِنْ ستانلي، «كيف تعمل الفاشيّة: سياسة نحن وهم»، الذي صدرَ حديثاً، يهدفُ إلى ترسيخ الفروقات (الحقيقيّة أو النظريّة) بين حكم الديموقراطيّات الغربيّة، وبين حكم اليمين الجديد الصاعد في عدد من الدول الغربيّة. لكن، من دون أن يدري المؤلّف، الكتاب هو مضبطة اتّهام ضدّ النظم الديموقراطيّة الغربيّة نفسها. ستانلي يرى فروقات هائلة بين التاريخ المعاصر للديموقراطيّات الغربيّة، وبين النزعات الفاشيّة الصاعدة في أوروبا الغربيّة وفي أميركا الجنوبيّة. لكن الكتاب يفشل في طرح تعريف وافٍ يمكن أن يساهم في ترسيخ فروقات بين النظم، إذا كانت موجودة أصلاً.جورج أورويل على حق في ملاحظته أن الفاشيّة باتت تعييراً مثل كلمة وغد أو غيرها. وفي الديموقراطيّات الغربيّة، يطلق اليسار صفة الفاشيّة ضد اليمين أو اليمين المتطرّف، فيما يصف الليبراليّون خصومهم المحافظين بالفاشيّين. والفاشيّة عدوّ تاريخي لليسار الشيوعي والاشتراكي، مع أن الدعاية الأميركيّة تساوي بين الفاشيّة واليسار. وفي هذا الكتاب، فإن وصف الفاشيّة يعتمد على معايير وعناصر متعدّدة أرادها الكاتب ترسيخاً للنظريّة البورجوازيّة التقليديّة عن الفاشيّة، كشذوذ عن نسق النُظم الرأسماليّة (وهذا يختلف مع رؤية لينين حول أن الفاشيّة ليست إلا مظهراً من مظاهر انحطاط الرأسماليّة). والنظريّات عن الفاشيّة تتنوّع: من رؤيتها كأداة بيد البورجوازيّة الرأسماليّة، أو نموذج عن البونابرتيّة، أو تعبير عن تطرّف خاص بالطبقات المتوسّطة أو تعبير عن انهيار في النظم الأخلاقيّة أو ظاهرة فوق سقف السياسة أو نتيجة نوازع عصبيّة ونفسيّة أو نتاج للتوتاليتاريّة أو ثورة ضد الحداثة، وغيرها (راجع نظريّات عن الفاشيّة في كتاب ستانلي بيْن: «الفاشيّة: مقارنة وتعريف»).
ولا يسهل تعريف الفاشيّة لأننا نتحدّث عن أحزاب خارج السلطة أو أحياناً عن السلطة نفسها. في ألمانيا، استولى الحزب على الدولة، فيما استولت الدولة على الحزب في إيطاليا الفاشيّة. وهناك من يوازي بين الفاشيّة والنظم التوتاليتاريّة لكن حنة ارندت في «أصول التوليتاريّة» استثنت التجربة الإيطاليّة الفاشيّة من نطاق دراستها. والعودة إلى دراسة الفاشيّة وتحديد معاييرها ازدهرت في العقد الحالي للتعامل (الأكاديمي والصحافي الغربي) مع ظاهرة اليمين الجديد، أو ما يُسمّى اعتباطاً وتعميماً «الشعبويّة» («الشعبويّة» في الغرب تُطلق أحياناً تلطيفاً لنظام فاشي صديق مثل أوكرانيا). والشعبويّة ليست نظريّة سياسيّة أو أيديولوجيا بقدر ما هي عنوان عام لنمط من التعاطي السياسي يعتمد على التعبئة باسم «الرجل العادي» وضد النخبة المتحكّمة. وفي الاستعمال الأميركي المتبذل هي تصف سياسيّين محافظين أو يساريّين إذا ما حادوا عن الخط الذي ترسمه أميركا حول العالم. أما الفاشيّة، فهي إما نظام حكم تسلّطي أو حزب يعتمد القوميّة المتطرّفة والعنصريّة أو المعادية للساميّة (اعتنقت الفاشيّة الإيطاليّة معاداة الساميّة متأخرة عن الحكم النازي) والقوميّة الاقتصاديّة (أي معاداة التفلّت الرأسمالي) والقِطاعيّة في تنظيم الدولة ومعاداة اليساريّة على أنواعها، والتجييش والتعبئة واللعب على القلق الجنسي للرجال، إلى ما هنالك من عناصر يضيفها هذا المؤلّف أو يُنقصها ذاك. عالم السياسة الأميركي، سيمور مارتن ليبست، لخّص الفاشيّة على أنها «تطرّف الوسط»، أي تجلّي التطرّف عند الطبقة الوسطى في المجتمع.
والفاشيّة لها جذور في أميركا. وحركة «أميركا أوّلاً» كانت حركة فاشيّة أرادت أن تبعد أميركا عن الحرب العالميّة الثانيّة. ونظريّة العقلانيّة في العنصريّة لاقت بيئة خصبة في التاريخ الأميركي حتى النصف الأوّل من القرن العشرين (حركة «يوجنيكس» الأميركيّة التي تؤمن بتحديد الأنساب بناء على الأعراق لاقت صدى رحباً عند النازيّين الألمان، وهي تسرّبت إلى الثقافة والسياسة العامّة للبلاد: قانون الهجرة لعام ١٩٢٤ حدّدَ بصرامة الهجرة إلى البلاد لاستثناء غير البيض واليهود من السكان الجدد). لكن ستانلي (مؤلّف الكتاب) يستعمل تعريفاً للفاشيّة يمكن أن يصلح لأنظمة حكم متنوّعة، وهو يهدف إلى تحديد صوابيّته (السياسيّة) على ترامب وأوربان (في المجر) وعلى الحكم في تركيا وبولندا وروسيا والهند (المقدّمة في الكتاب). وعند ستانلي الفاشية ليست إلا «قوميّة مغالية على أنساق مختلفة متمثّلة بزعيم متسلّط يحكم باسمها». لكن ستانلي يفصّل عناصر الفاشية وكيف يستعملها الحزب أو الزعيم الفاشي.
الآباء المؤسّسون لم يكونوا من دعاة المساواة وهم نبذوا الديموقراطيّة لأنها عنت لهم «حكم الرعاع»


لنأخذ مثلاً عامل «الماضي الأسطوري». يرى ستانلي أنه سمة مميّزة للفكر والسياسة الفاشيّة. لكن كيف يمكن الفصل بين السياسة الفاشية وتلك التي لا تُعتبر (عنده أو عند غيره) فاشيّة، مثل هذه السمات نفسها في الظواهر السياسيّة الأميركيّة؟ ليس هناك من دولة أتقنت صنع تاريخ أسطوري يليق بدعاية أميركا عن نفسها في الداخل والخارج أكثر من هذه الدولة. وشعار موسوليني عن أن «أسطورتنا هي الأمّة، وأسطورتنا هي عظمة هذه الأمّة» لا يزال سارياً في أميركا. شعار دونالد ترامب «اجعلوا أميركا عظيمة مرّة أخرى» هو التشبّه بماضٍ أسطوري (تتجنّب الطبقة السياسيّة هنا مصطلح «الأمّة» أو «القوميّة» ويفضّلون عليه مصطلح «الوطنيّة» وذلك بسبب التنوّع العرقي ــــ القسري الذي وسمَ إنشاء هذه البلاد، لكن ترامب خالف هذا الاتجاه أخيراً واستعمل مصطلح «القوميّة» الذي يحمل في ثناياه مصطلح قوميّة العرق الأبيض في الآذان الأميركيّة). ويرى المؤلّف أن «الزعيم» هو «أبو الأمّة» في الخطاب الفاشي (ص. ٦). لكن هل هناك مَن استعمل صفة الأب عن الحاكم أكثر من المجتمع الأميركي، حيث لا يزال المؤسّسون البيض الأثرياء يُعتبرون رسميّاً «الآباء المؤسّسين»، وتلاميذ المدارس يُلقَّنون دروس التاريخ عن «الآباء المؤسّسين» (كتبت زوجة أحد الآباء، جون أدامس، أبيغيل، إلى زوجها عشيّة اجتماع المؤتمر الدستوري طالبة تذكّر النساء، لكن «الآباء» نسوا الأمهات والبنات والشقيقات). ويتمتّع الزعيم بصفات الأب الذكوري القوي، وفي أميركا، يتمتّع الرئيس بصفة دستوريّة هي «القائد الُمسيطِر»، وهذه الصفة واحدة من الأسباب التي صعّبت انتخاب امرأة.
التاريخ الأسطوري هو رواية أميركا الرسميّة عن نفسها، وهناك حركة مناهضة قويّة في أميركا ضدّ تحدّي السرديّة التاريخيّة السائدة التي تبالغ في إنجازات «الآباء» وتقلّل عنصريّتهم وذكوريّتهم وجرائمهم. ولا ننسى أن كل تلاميذ أميركا يبدؤون صباحهم بتلاوة شبه دينيّة لـ«قسم الولاء» للعلم الأميركي، فنصُّ الولاء يتضمّن أسطورة «أمّة واحدة تحت (مباركة) الله». والساسة من الحزبَيْن يتحدّثون باستمرار عن «الزمن القديم الحسن» ــــ أي الزمن الذي كانت فيه النساء شبه مسجونات في المنازل، وكان فيه السود والملوّنون في حالة رق رسميّة ــــ أو تمييز عنصري رسمي فيما بعد. ويُسمي البعض تلك الحقبة «العهد الذهبي»، أي أن الحنين إلى الماضي الأسطوري هو حنين إلى زمن سبق منح حقوق للأقليّات والنساء. وستانلي يشير إلى تأثّر هتلر بـ«عظمة الإمبراطوريّة اليونانيّة» (ص. ١٣) لكنه ينسى تأُثّر «الآباء المؤسّسين» بالإمبراطوريّة اليونانيّة (إلى درجة أن بعض المؤرّخين ابتدعوا فكرة أن جورج واشنطن كاد أن يجعل من اللغة اليونانيّة لغة رسميّة للبلاد، وهذا ليس صحيحاً).
أما عنصر الدعاية السياسيّة الذي يربطه المؤلّف بالفاشيّة، فهو أيضاً سمة من سمات الدول الغربيّة التي تفوّقت على أعدائها في إنتاج وضخّ الدعاية حول العالم. لكن يعتري هذه المصطلحات انحياز سياسي واضح. وفي كتاب آخر للمؤلّف نفسه («كيف تعمل الدعاية السياسيّة»)، يميّز ستانلي بين دعاية ضارّة ودعاية مفيدة، إذ يقول: «الدعاية الضارّة تعتمد على وجود أيديولوجيات مغلوطة موجودة في مجتمع ما» (ص. ١٨). لكن مَن يفصل بين الضار والنافع في الأيديولوجيا، وما هي الأيديولوجيا المغلوطة؟ علماء الاجتماع الأميركيّون هم مَن يحدّدُ ويفصلُ بالقطع في ذلك؟ وللأمانة، يعترف المؤلّف بمهارة وضرر الدعاية السياسيّة الأميركيّة في مثال الحرب التي أعلن ريتشارد نيكسون شنّها ضد «الجريمة» (كانت ستاراً لحرب ضد السود، ص. ٢٤). أما معاداة الثقافة والمثقّفين، فهذه أيضاً ليست، كما يريدها المؤلّف، سمة خاصّة بالفاشيّة أو النازيّة. أميركا مجتمع معروف بمعاداته المثقّفين الذين يراهم العامّة ــــ وعن حقّ ــــ أنهم معزولون عن المجتمع، إذ ينحو الكثير منهم نحو الليبيراليّة الميسورة. ويحاول الساسة من المثقّفين التقليل من ثقافتهم وكوزموبوليّتهم لعلمهم أن الناخب الأميركي ينفرُ من ذوي الشهادات العليا (نحو ثلث الأميركيّين فقط يحملون شهادات بكالوريوس أو أكثر). والمرشح الرئاسي جون كيري لم يزهُ عام ٢٠٠٤ أنه يعرف لغة أجنبيّة لأن ذلك سيكون مدعاة سخرية من خصمه الجمهوري. والمرشح الناجح للرئاسة هو الذي يخاطب الناخب العادي بلغة عادية خالية من التعقيد (هذه واحدة من أسرار نجاح ترامب). والناخبون الجمهوريّون ناقمون على أساتذة الجامعات الذين يمثّلون لهم ما مثّله سقراط في زمانه، أي تلويث عقول الناشئة. وهناك ولايات خاضعة للنفوذ الجمهوري تعمل جاهدة اليوم لإزالة نظام التثبيت الجامعي، كما فعل نائب في ولاية ميسوري عام ٢٠١٧ عندما قدّم مشروع قانون في المجلس الاشتراعي المحلّي لنسف نظام التثبيت من أساسه (أقلّ من ٣٠% من أساتذة الجامعات هنا مثبّتون فيما تعتمد الجامعات بتزايد على التعاقد المؤقّت، راجع «كرونيكل أوف هايير أديوكيشن، ١٢ يناير، ٢٠١٧).
وستانلي يقول إن هدف التعليم في الأيديولوجيّة الفاشيّة هو ترسيخ «الفخر بالتاريخ الأسطوري» (ص. ٤٨). وهل الهدف من التعليم في الدول الغربيّة هو غير ذلك؟ بولندا والمجر اللتان لا تزالان في الاتحاد الأوروبي تعملان على تعديل المناهج لإزالة ما «يشوّه» التاريخ القومي حتى لو كان بصفة حقائق تاريخيّة. وحقيقة المجازر التي ارتكبها السكّان الأصليّون واستعباد الآباء المؤسّسين للناس لا تزال على هامش المنهج التعليمي الرسمي الأميركي. وإذا كان هتلر قد دعا في كتاب «كفاحي» إلى تبسيط لغة السياسة والتخاطب في الدعاية، فإن هذا الدرس يتجلّى في كل انتخابات رئاسية أميركيّة.
وعنصر التخيّل، أو قلب واختلال الحقائق، لا يمكن حصره في الخطاب والإعلام الفاشي أو ترامب فقط، على ما تنظّر صحافة النخبة هنا. وما قالته حنة أرندت في «أصول التوليتاريّة» عن الدعاية السياسيّة وكيف أن الناس لا يثقون بحواسهم بل بما يتفق مع النظام الذي ينتمون إليه (ص. ٣٥١) يصلح لوصف جمهور الحزبَيْن الأميركيّين. هناك ساسة وعامّة في أميركا مقتنعون أن المسلمين في أميركا (نحو ٢٪ من السكان) هم بصدد مشروع سرّي لتطبيق «الشريعة» (الكلمة مخيفة في المجتمعات الغربيّة، وهي لا تعني عندهم إلا قطع الرؤوس وختان الفتيات)، وقد سنّت عدد من الولايات قوانين صارمة لمنع تطبيع الشريعة. ليس هناك من نظام واحد يختلق ويفبرك ويزوّر، وترامب، أو اليمين الأميركي، ليس أوّل من ابتكرَ «الإعلام المزيّف»، خلافاً لمزاعم الإعلام الليبرالي السائد. إن مسوّغات حرب العراق في ١٩٩٠ وفي ٢٠٠٣ كانت تعتمد على أكاذيب وتزوير مفوضحَيْن. وتاريخ المخابرات الأميركيّة في الحرب الباردة حافل بتزوير وأكاذيب ضد الشيوعيّة وأنظمتها. و«بروتوكولات حكماء صهيون» (مزوّرة وترمي إلى التحريض ضد اليهود) لم تزدهر كما ازدهرت في أميركا عندما وزّع هنري فورد (من المعروفين بكراهية اليهود) نصف مليون نسخة منها.
هناك مسألة جورج سورس التي ترد في الكتاب (ص. ٦٤). صحيح أن الحكومة المجريّة لم تخفِ نيات معادية لليهود كيهود في حملتها ضد سورس لكن ليس كل نقد ضد سورس هو من منطلق معادٍ للسامية. وسورس موّلَ على مدى عقود حركات وأيديولوجيات رجعيّة ويمينيّة في حملته ضد الشيوعيّة (رتبّها بالاتفاق مع الحكومة الأميركيّة). وهو منذ انتهاء الحرب الباردة يحوّل إنفاقه لدعم الحركات والأفكار الليبراليّة (وفق تعريفه)، ويصل منها إلى جمعيّات عربيّة ومواقع إخباريّة وسياسيّة عربيّة عدة. وكان قد أنشأ جامعة في المجر وأوكل إلى سياسي كندي رئاستها. لكن ليست كل معارضة لصاحب المليارات هذا ولنفوذه هي معارضة فاشيّة. وهل من الديموقراطيّة في شيء أن يستطيع رجل واحد، مثل سورس، بماله الوفير التأثير في الرأي العام وعقول الناشئة في عدد من دول العالم؟ ويفشل المؤلف فشلاً ذريعاً في إقناع القارئ بأن محطات التلفزة الروسيّة الناطقة باللغة الإنكليزيّة أكثر صفاقة في الدعائيّة من المحطات الأميركيّة (ص. ٧٠).
ولا يعدّد المؤلّف مِن عناصر الفاشيّة ما هو أكثر صلة بالفكر والممارسة السياسيّة من فكرة «التراتبية». والديموقراطيّة الغربيّة لا تتناقض مع التراتبية ــــ كما يصوّر الكاتب ــــ بل هي تسوّغها. الديموقراطيّة هي النظام الذي يزيّف التراتبية ويجعل منها إما شيئاً مناقضاً لها، مثل المساواة، وإما يلقّن ضحاياها أسانيد وحججاً عن ضرورتها للجميع. الآباء المؤسّسون لم يكونوا من دعاة المساواة (لم ترد كلمة مساواة في الدستور الأميركي، وفكرة المساواة لم ترد في الدستور إلا في الإشارة إلى العلاقة بين الولايات، وليس بين الأفراد أو الطبقات). وقد نبذ الآباء المؤسّسون، كما فلاسفة الإغريق القدماء، الديموقراطيّة لأنها عنت لهم «حكم الرعاع». والنظام الأميركي الفريد مُرَكّب على أساس الفَلتَرة المزدوجة، أي أن المؤسّسين أرادوا اختيارَ مجلس يختارُ بدوره مجلساً آخر كي يحكم باسم «الشعب»، وهذا بالضبط مكمن «الكليّة الاقتراعيّة» التي تنتخب الرئيس. والجمهوريّة الأميركيّة تأسست على عماد من التراتبيّة العنصريّة والطبقيّة والجنسيّة والإثنيّة، وهذه التراتبيّة لا تزال في خلفيّة تركيب السلطة الحاكمة وإن غلّفها القانون بسلسلة من الإعلانات القانونيّة لضمان المساواة (النظريّة فقط).

لا تزال الجرائم ضد النساء في المجتمع الأميركي تشكّل حالة مرضيّة من أعلى النسب في العالم


عقدة الاضطهاد التي يراها المؤلّف في أساس الحركة الفاشيّة طاغية أيضاً عند البيض في المجتمعات الغربيّة الذين يرون في فقراء المسلمين من المهاجرين تهديداً لهم ولنفوذهم. و٥٤٪ من ناخبي ترامب يعتقدون أن المسيحيّين في أميركا أكثر فئة مضطهدة على الإطلاق (ص.٩٤). والدراسات التي جرت بعد الانتخابات الرئاسيّة الماضية في أميركا قلّلت عنصر الغضبة الطبقيّة عند العمّال الصناعيّين البيض وزادت في استخلاصها من تأثير عامل الهويّة العرقيّة في اقتراع البيض في الولايات الصناعيّة (سابقاً) التي رجّحت فوز ترامب. وعقدة الاضطهاد تتحكّم أيضاً بالذكور هنا الذين يرون في تحقيق النساء بعض حقوقهنّ تهديداً لهم في سلطتهم، كما يرون ذلك في الملوّنين مع أن كل أزِمَّة الحكم لا تزال بيد النخبة الطبقيّة عينها منذ أيّام المؤسّسين، أي الأثرياء البيض من الذكور. وإذا كان تغليف الفروقات الطبقيّة سمة من سمات الحركات الفاشيّة، فإنّ تغليف الصراع الطبقيّ بات حرفة من حرف النظام السياسي الأميركي والثقافة السياسيّة، إذ يصبح القهر الطبقي نتيجة منطقيّة وعادلة لنتائج أسطورة «الحلم الأميركي»، أي فكرة أن الاجتهاد والعمل الدؤوب في أميركا يؤدّي حتماً إلى الثروة، ما يحكم على ملايين الفقراء بالكسل والفشل (يوافق الكاتب على أن عقدة الاضطهاد ـــ الحقيقيّة أو غير الحقيقيّة ـــ يمكن أن تؤدّي إلى القمع وهو يعطي حالة احتلال إسرائيل مثالاً، ص. ١٠٦). وتقسيم المجتمع إلى «نحن» و«هم» كانت في صفات المجتمع الأميركي وهي التي سوغّت لنظام الرق. وهي تعزّزت بعد ١١ أيلول عندما أعلن بوش أنكم معنا أو مع الإرهابيّين.
ضخُّ فكرة «القانون والنظام» سمة الحركات الفاشيّة، وقد انتُخبَ رئيس أميركي، ريتشارد نيكسون، مرتيْن على أساسها. والدولة الأميركيّة زادت قمعها الداخلي في العقود الماضية (تحت حكم الجمهوريّين والديموقراطيّين) وتحوّلت إلى أكبر سجّان في كل أنحاء العالم قاطبة، حتى مع اعتبار عدد السكّان. والدولة الأميركيّة، بدءاً من عهد كلينتون تحت شعار مكافحة «الجريمة» وصولاً إلى عهد بوش تحت شعار مكافحة «الإرهاب»، باتت أكثر تسلّطاً وسياديّة من قبل. وهناك مَن يرى تأثير فكر كارل شميت (في تعريفه الحكم السيادي أنه «اتخاذ قرار في الاستثناء») في الفكر الدستوري للمحافظين الجدد. وقد نشر ديفيد لوبان مقالة عام ٢٠١١ رأى فيها أن البحث على كشّاف «ليكسس» (القانوني) يشير إلى ارتفاع في عدد الاستشهادات القانونيّة بشميت بعد ١١ أيلول إلى الضعف (نحو ٤٢٠ منذ عام ٢٠٠٠، راجع: «كارل شميت ونقد القانون الحربي»، «مجلّة جورجتاون للقانون العام والنظريّة القانونيّة»). وتسريبات إدوار سنودن كشفت الحدّ الذي تخرق فيه الدولة الأمنيّة الأميركيّة حقوق وحريّات الأفراد. حتماً إن شبكة التجسّس والمراقبة الأميركيّة ضدّ مواطنيها (حتى لا نتحدّث عن مواطني ومواطنات دول العالم قاطبة) تفوق اختراق جهاز الأمن في ألمانيا الشرقيّة للمجتمع آنذاك.
جانب القلق الجنسي يسري أيضاً على المجتمع الأميركي، إذ لا تزال الجرائم ضد النساء (بمعدّل ٢٣ جريمة قتل ضد النساء من أزواجهن أو أصدقائهن في الأسبوع الواحد) تشكّل حالة مرضيّة من أعلى النسب في العالم (نسب الجرائم المسَجّلة أدنى بكثير من الجرائم المرتكبة باعتراف مكتب التحقيقات الفيدرالي). والعداء ضد المثليّين وضد حركات النسويّة في ازدياد، إذ يشعر الذكر الأميركي الأبيض بتناقص في حظوته ومكانته. وحركات اليمين المسيحي هنا مصابة بهوس كراهية ضد النسويّة وحركات المثليّة.
والدولة تكون في الحكم الفاشي مُسخّرة فقط لخدمة العرق المتفوّق، وتعتمر نقمة في نفوس الأكثريّة من وهم خدمة ورعاية الدولة للأقليّات: العرقيّة أو الإثنيّة أو المهاجرة والنساء، طبعاً. هؤلاء يُنظر إليهم على أنهم عالة على المجتمع. والعمّال البيض في أميركا دعموا دولة الرعاية الاجتماعيّة إلى أن طلعت السلطة الطبقيّة بوهم إفادة الأقليّات الملوّنة الصحريّة من خدمات الرعاية، وعندئذ ثارت نقمة هؤلاء ضد دولة الرعاية وصعد الحزب الجمهوري (والديموقراطي على عهد كلينتون) على صهوة شعار تدمير دولة الرعاية والخدمات لأنها شمّاعة للكسلانين (هم دوماً مهاجرون أو ملوّنون). أما حقيقة أن البيض، خصوصاً النساء، هم المستفيدون أكثر من غيرهم من الرعاية، فهذه تبخّرت تحت وهج الدعاية السياسيّة لـ«تقليص حجم الدولة».
إن الحديث عن الفاشيّة هو حديث سياسي ودعائي. وابتذال الرمي بالتهمة الفاشيّة يخفّف أخطار الصعود الفاشي في الغرب. والصحافة والأكاديميا الغربيّة تقلّل أخطاره إذا ما هي حصرته في شخصيّة ترامب وحدها، وعزلته عن الأسباب الكامنة لهذه الظاهرة، وغيرها في دول الغرب. وهناك في الغرب من يتحدّث عن «فاشيّة إسلاميّة»، مع أنه ليس هناك من رابط قومي أو عرقي للمسلمين، لكن التهويل بخطر فاشي يفي بغرض التبعئة (أدريان ليتلتن في مقالته عن الفاشيّة في «نيويورك ريفيو أو بوكس»، ٢١ أكتوبر ٢٠٠٤، يلحظ اقتفاء أثر الفاشيّة في الشرق الأوسط عند «الكتائب» في لبنان والصهاينة في دولة الاحتلال). والفاشية خطر حقيقي لا يجوز التقليل منه، خصوصاً عندما يأتي إلينا باسم محاربة الفاشية، مثل الإرهاب الذي يغزونا باسم محاربة «الإرهاب».
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)