في هذا المقال، يتناول الأستاذ في معهد الدراسات الحضريّة في باريس، أوريليان ديلبيرو، بعض التحاليل السائدة عن حركة السترات الصفر، ويقارن نتائجها نقديّاً بما يتوافر من معطيات بشأن التفاوتات المجاليّة في فرنسا والتركيبة الاجتماعيّة للمنخرطين في الحركة.
مراكز المدن في مواجهة الأحزمة شبه الحضريّة؟
بناءً على التدخلات الإعلاميّة لبعض وجود الحركة الكاريزميّة، جرى سريعاً ربط السترات الصفر بالسكان «المُبعدين» في الأحزمة شبه الحضريّة والضواحي المحيطة بالمدن. لا أحد ينكر أنّ التعويل على السيّارات يتزايد عند الابتعاد عن مراكز المدن، وتعني الحياة شبه الحضريّة رحلات أطول واستعمالاً أكبر للمركبات الآليّة.
هذا الأمر ليس وليد الصدفة أو الحظّ. فمن جهة، شُجّع الاستقرار في المناطق شبه الحضريّة نهاية الثمانينيات والتسعينيات ــ بعبارة أخرى، بعد تبنّي اللامركزيّة في التخطيط ــ من طرف العُمد الذين كانوا توّاقين إلى تنمية بلداتهم مهما تطلّب الأمر، حتى لو كان ذلك يعني تخصيص أراضٍ سكنيّة، مراكز تجاريّة، وخدمات عامّة كبرى في الضواحي التي صارت منفصلة عن بعضها.
لذلك، بدل السعي لاستغلال الحركة لمصالح سياسيّة على نحو سمج، ربما كان يجب على المسؤولين في المستويين الوطنيّ والمحليّ البدء بالإقرار بمسؤوليّتهم عن خلق المشكل. من ناحية أخرى، توجد طرق عديدة ومعقّدة تتأسس بها المنازل (والشركات) في المناطق شبه الحضريّة والحواشي الريفيّة للمدن الكبرى: الانتقال خارج مراكز المدن يكون دائماً نتاج خليط بين الاختيار والاضطرار.
وبالفعل، تشدّد دراسات حديثة على تنوّع الخلفيّات الاجتماعيّة وسيولة المسارات السكنيّة لدى سكان المناطق شبه الحضريّة، وهو ما يتناقض جذريّاً مع التحليلات التي تشدّد على «الإبعاد» و«التوطين». فرنسا شبه الحضريّة ليست حديقة حيوانات! إنّها نابضة بالحياة، نشطة، ومتنوّعة. إنّها تخلق وظائف أكثر من مراكز المدن، ويشمل ذلك قطاعات تتطلّب درجة عالية من الكفاءة. إنّها تشمل ـــ كما يمكن الملاحظة عبر ممثلي السترات الصفر الكاريزميّين ـــ مديرين تنفيذيّين مُكرَّسين، وكذلك عمالاً انتقلوا من السكن الاجتماعيّ؛ أصحاب متاجر صغيرة اجتذبتهم كلفة الأراضي والعقارات المتدنّية نسبيّاً؛ متقاعدين يرغبون في أسلوب حياة هادئ، وإطارات شابة تحتاج سكناً يتوافق مع مخططاتها العائليّة.
على المستوى الوطنيّ، يجني السكان شبه الحضريّين معدل دخل سنويّ (20.975 يورو) أعلى من سكان مراكز المدن (19.887 يورو). المشكل الوحيد، أنّه رغم حيويّتها وتنوّعها ـــ وحتى «نضجها» ـــ لا تزال الفضاءات شبه الحضريّة تحظى بسمعة سيئة. منذ التسعينيات، وتماشياً مع التوجّه السياسيّ الذي يشدّد على الاستدامة، حُلِّلَت على نحو شبه حصريّ من مناظير ازدرائيّة: تهديد الحياة الحضريّة (المدينيّة)، التبعيّة تجاه السيارات، تهديد الاستدامة البيئيّة، وحتى القبح الهندسيّ والمشهديّ. ساهمت هذه الرؤى المأساويّة المحفّزة للشعور بالذنب في تغذية غضب المسؤولين المنتخبين وسكان تلك المناطق، الذين تمثّل السترات الصفر تعبيراً واضحاً عنهم.

«بوبو» (بورجوازيّون ـــ بوهيميّون) في مواجهة بروليتاريّين؟
التزم الإعلام الصمت بدرجة كبيرة حول الطابع الاجتماعيّ لحركة السترات الصفر. وتنزع الشهادات والدراسات الميدانيّة الأولى لإظهار تحدّر أغلب المنخرطين النشطين في الاحتجاجات من الطبقة الوسطى والفئات المندمجة من الطبعة العاملة: ممرضات، مختصون اجتماعيّون، مدرّسون، موظفو بلديات من الدرجة الوسطى، تقنيّون صناعيّون، موظفو مبيعات، محاسبون في شركات، إلخ. تمثّل هذه المهن التي تسمّى «وسطى» ربع عدد إجماليّ الوظائف – وهو رقم متزايد.
على امتداد العشريّتين الماضيتين كان دخل هؤلاء وقدرتهم الشرائيّة مستقرين نسبيّاً، مع ذلك، بقوا معرّضين لمخاطر السياسة الضريبيّة وحالة الاقتصاد، بما في ذلك تقلّب أسعار المحروقات التي كانت شرارة انطلاق الاحتجاجات. لكنّ هذه الأخيرة لا تزيد على كونها شرارة: بقيت حصّة المصاريف المرتبطة بالسيارة مستقرة منذ التسعينيات، على عكس المصاريف المرتبطة بالسكن على سبيل المثال (التي تشهد تصاعداً مستمراً، خاصّة في مراكز المدن).
لا تمثّل المحروقات وضرائبها إلا ربع تلك المصاريف، أقلّ بكثير من الحصّة المخصّصة للتأمين والصيانة. لذلك تبدو الانتفاضة متجذّرة في شعور مزدوج بتنامي ضعف القدرة الشرائيّة وإجحاف الثقل الضريبيّ المسلّط على الأسر. علاوة على ذلك، لا يؤخذ خمس الفرنسيّين الذين لا يقودون السيارات في الاعتبار. لا يمكن اختصار هؤلاء في أنّهم «بوبو» (بورجوازيّون - بوهيميّون) حضريّون، إذ ينتمي أغلبهم إلى أسر فتيّة تفتقر إلى العمل والكفاءات ولا تستطيع تحمّل تكاليف عربة آليّة، ولذلك هم «رهائن» بالكامل للنقل العموميّ. لكن، ما يخلق تمايزاً داخل الطبقات العاملة هو إمكان تحصيلها عملاً كثيراً ما يمثّل شرطاً ضروريّاً لامتلاك سيارة.
هذه الأسر هي من بين المستفيدين من إجراءات الإعانة على التنقّل الذي سارعت الحكومة بسنّها، لكن كلّ شيء يشير إلى عدم انخراطها في التظاهرات على نحو واسع! إضافة إلى ذلك، كان يمكن أن تلقي تلك الإجراءات بآثار ضارّة على السترات الصفر التي عبّر عدّة ممثّلين لها عن رفضهم لمساواتهم بـ«متلقي المساعدات» الذين تقدّم لهم الدولة إعانات.
تبنّى هذا الخطاب عدد من الوجوه السياسيّة الوطنيّة، على غرار لوران فوكييه – وهو موقف غريب يشمل في الآن ذاته، النظر في إعادة التوزيع الاجتماعيّ الذي تستفيد منه العائلات الأكثر حاجة كنوع من «المساعدة»، بينما يطالب بإعادة توزيع مجاليّ تخدم صالح الأقاليم الأكثر حرماناً، كما لو أنّ هذه الأخيرة توجد وحدها، أي باستقلال عن سكانها.

فرنسا ذات الامتيازات في مواجهة المناطق المُهملة؟
أخيراً، حلّل عدد من المعلّقين حركة السترات الصفر باعتبارها نتاج مقاربة «ذات سرعتين» للسياسة العامة التي تعطي الأفضليّة، على نحو منهجيّ، للفضاءات المدينيّة على حساب بقيّة البلاد. وبالفعل، مثّل تركيز أدوات التنمية المجاليّة حول المدن الكبرى نزعة ملحوظة خلال العشريتين الماضيتين. استفادت المدن من مشاريع تجديد حضريّ كبرى، سواء في مراكزها (محطات وخطوط قطارات) أو في الأحياء التي تستهدفها السياسة الحضريّة (التجديد الحضريّ) وفي الضواحي القريبة (الأقطاب التنافسيّة).
لكن، ظهرت هذه النزعة بعد خمسة عقود ممّا يسمى سياسات «إعادة التوازن المجاليّ» الهادفة إلى احتواء نموّ منطقة باريس وإحياء «الصحراء الفرنسيّة» عبر اللامركزيّة. علاوة على ذلك، يتواصل اتخاذ الإجراءات لمصلحة الفضاءات الريفيّة لمعالجة المعوقات الهيكليّة التي تكبّل تنافسيّتها المجاليّة. لم يكن تدخّل الدولة مكتملاً وحاسماً في «الفضاء بين الإقليميّ» المشكَّل من بلدات صغرى ومتوسطة، وبدرجة أقل، من حواشي التكتلات الكبرى.
مع ذلك، لا توجد تلك المجالات في وضع إهمال سياسيّ واجتماعيّ: لها تمثيل قويّ في البرلمان (أكثر، مثلاً، من ضواحي التكتلات الحضريّة الكبرى)، تعزّزت هياكل الإدارة والتخطيط بها عبر تشريعات جديدة، تشهد مبادرات مواطنيّة عديدة وحتى محرّكات ماليّة مهمّة رغم وجود تقييدات متزايدة عليها (مساعدة من الاتحاد الأوروبيّ، عقود تخطيط، وآليات إعفاء ضريبيّ). المشكلة الحقيقية، أنّه لم تكرّس لها قطّ سياسات مخصوصة.
بذلك، ركّز عمل الحكومة في المناطق شبه الحضريّة على محاربة مسار التمدّد الحضريّ، ما خلق تهديداً بإغفال الفضاءات التي خُلقت بسببه. وتوفّر سياسات النقل مثالاً صاعقاً لهذا الموضوع غير المعترف به: بما أنّها وضعت تاريخيّاً لتحسين النفاذ إلى مراكز المدن لكسر عزلة الضواحي، كانت تلك السياسات أقلّ فعاليّة في تيسير تنقلات الناس في الأطراف.
أما في البلدات الصغرى والمتوسطة، التي لا تزال أبعد من أن تكون «ضحيّة» للعولمة، فغالباً ما تكون الحلول المقترحة مستنسخة عن تلك المستخدمة في المدن الكبرى، وبالتالي غير ملائمة للسياقات المحليّة. لذلك، عوض شنّ المعركة على أرض المظلوميّة، يتمثّل الحلّ في خلق ظروف تسمح بوضع وتنفيذ سياسات تجديديّة قادرة، في المستوى المحليّ، على الموائمة بين الخيار السكنيّ، القيود الاقتصاديّة، والتوازن البيئيّ.
في النهاية، يهدّد نشر الآراء التبسيطيّة وغير المسنودة على أيدي من عيّنوا أنفسهم خبراء حول السترات الصفر، على حساب التحليل والجدل المسنودين بحجج، بالقفز على الرهانات الحقيقيّة، وربما القضاء على زخم الحركة. وضع «السوّاق شبه الحضريّين» في مقابل «سكان مراكز المدن أصحاب الامتيازات»، «الفقير الجيّد» مقابل «الفقير السيئ»، والأقاليم «المستفيدة» مقابل الفضاءات «المهملة» ــ على غرار ما فعله بعض المعلّقين ضمنيّاً ــ قد يوفّر إطار قراءة مطمئن يخفض عدد من يستحقون المساعدة دون أن يحلّ مشاكلهم.
(ترجمة بتصرف)