السياسة في سوريا لم تخسر شيئاً بوقوع الأزمة، فهي منذ الاستقلال كانت قائمة على تمثيل محدود وهامشي للطبقات الاجتماعية. في الحقبة التي تلت إعلان الاستقلال مباشرة في عام 1946 استعادت البلاد نظام الحكم البرلماني بشكله الفعلي، أي غير الخاضع لنفوذ الاحتلال مباشرةً. لكن استعادته لم تنعكس على نمط التمثيل الذي ظلّ مقتصراً على طبقات المجتمع العليا (الإقطاع والرأسمالية التجارية وبعض شرائح الطبقة الوسطى). وهو ما أدّى إلى حدوث خلل واضح في علاقة أكثرية السوريين بحكمهم الجديد، وظلّت هذه الأزمة قائمة إلى حين تدخُّل الجيش في عام 1949 لا لتصحيح الخلل بحدّ ذاته، بل لصياغة علاقة جديدة تكون ــــ كما تصوَّرَ العسكريون ــــ بديلاً من الفساد الذي يسود أوساط النخبة والأحزاب السياسية. حصول أوّل انقلاب في تاريخ سوريا الحديث لم يكن بعيداً عن الترتيبات التي كانت تُعدّ للإقليم غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية، ولكن هذه الصلة لم تكن هي المحدِّد الوحيد لما سيحصل في البلاد، حيث بدت العلاقة بين الجيش والطبقة السياسية أكثر تعقيداً من ارتباط أحدهما أو كليهما بقوى الإقليم والعالم. ذريعة الجيش للتدخّل، بالإضافة إلى الفساد وعدم توزيع الثروة على نحو عادل كانت ارتباط الطبقة السياسية بالخارج، وتسهيلها بسبب هذا الارتباط للنفوذ الأجنبي. وهو ما سيقود انطلاقاً من هذه العلاقة المتوترة بين الطرفين إلى انتقال الحكم بشكل كامل من الأحزاب السياسية إلى الجيش، وبالتالي دخول سوريا ابتداءً من عام 1949 مرحلة الانتهاء من نظام المشاركة السياسية لمصلحة نظام يقوده الجيش، إما وحده، أو عبر جهات قريبة منه.
استمرار غياب التمثيل
انتهاء النظام الذي يسمح بمشاركة محدودة للسوريين في السياسة لم تكن لمصلحة حضور أكبر لهم فيها، فالجيش بحكم تركيبته غير البعيدة عن السياسة كان يمثّل مصالح طبقات تضرَّرت من حكم السياسيين، وهذه الطبقات كانت مهتمة بحصول مشاركة لا تسمح بتغيير موازين القوى داخل المؤسّسات كثيراً. في البداية لم تكن الأمور بهذا الوضوح، وكان تأييد الأكثرية للجيش كبيراً على خلفية موقفه من الفساد وتبعية الطبقة السياسية للخارج، لكن استمرار الوضع الاقتصادي بالتدهور، بالإضافة إلى تزايد الحملات الأمنية التي لم تكن تستثنِ عامّة الناس أثناء ملاحقتها للأحزاب السياسية المعارضة جعلا التأييد الشعبي للجيش يتراجع. ومع هذا التراجُع، بدأت تظهر لدى قطاعات واسعة من السوريين نزعة تُفاضِل بين المشاركة المحدودة في ظلّ حكم يسمح بهوامش للتعبير السياسي، والتأييد المطلق لحكم عسكري ليس «بسوء» السياسيين ولا «فسادهم»، ولكنه لا يسمح بأيّ هامش للحضور أو التمثيل السياسيين، وبالتالي يشكّل مدخلاً لإعادة إنتاج الفساد، لكن عبر المؤسسة العسكرية هذه المرة. تزامَنَ ذلك مع وصول حكم الجيش إلى مرحلة حرجة (حقبة أديب الشيشكلي) تمثّلت بوصول القمع السياسي إلى حدٍّ لم يعد يسمح باستمرار التوازن الذي كان قائماً سابقاً، والذي كان فيه الولاء للجيش شرطاً للحدّ من الفساد والتلاعب بلقمة عيش السوريين. العبء الذي مثّله حينها وجود الجيش بثقله الكبير في السلطة كان مقدمةً لاستعادة الأحزاب السياسية المبادرة، ومعاودة الحضور في المشهد السياسي إثر انتهاء الانقلاب الأخير الذي قاده الشيشكلي. لكن هذا الحضور لم يتطوَّر كثيراً، إذ لم تشهد هذه المرحلة حصول تغييرات تتناسب مع حجم المشاركة الشعبية في استعادة الحكم من الجيش لمصلحة الطبقة السياسية، وهو ما أعاد العلاقة بين الطرفين إلى مرحلة الفتور التي أعقبت الاستقلال مباشرة.

إنصاف الأكثرية طبقياً
شهدت هذه الحقبة تغيُّرات كبرى على الصعيد الإقليمي، أهمُّها على الإطلاق ثورة يوليو في مصر بقيادة الضباط الأحرار، إضافة إلى الأحداث التي شهدها العراق ابتداءً من أوائل الخمسينيات لجهة تململ الجيش هناك من حكم نوري السعيد. المشهد السوري لم يكن متعارضاً مع هذه التغيُّرات بالمطلق، لكن الأحزاب هنا كانت تخشى من تأثيرات وصول الجيش إلى السلطة في إحدى أكبر الدول العربية. وهو حذرٌ مشفوع بالخشية من معاودة تسلّم الجيش السوري السلطة نظراً إلى ما تمثّله مصر من وزن إقليمي كبير، ولما يبديه أيضاً النظام الجديد فيها من موقف سلبي تجاه الأحزاب السياسية المصرية التي كان يعتبرها امتداداً ــــ غير مباشر ــــ لحكم الانتداب البريطاني. الموقف الشعبي هنا بدا متريثاً سواء في موقفه من السياسيين المحليين، أو في مقاربة المشهد المصري الذي كان لا يزال في بداياته، ولما ينعطف بعد باتجاه تبنّي مطالب الأكثرية الشعبية من المصريين. لكن حسم الموقف في القاهرة لمصلحة عبد الناصر، وبداية تبلوُر اتجاه يقوده الرجل لتبنّي مطالب أكثرية المصريين جعل الموقف الشعبي هنا يتغيّر، وبدا أنّ ثمة تحولاً يحدث في الموقف من الجيش السوري نفسه بعد التباعد الكبير بين الطرفين عقب مرحلة الانقلابات. التحوُّل في الموقف الشعبي انسحب لاحقاً على الأحزاب السياسية نفسها، فبعدما كانت شبه موحّدة سابقاً في رفضها وصول الجيش إلى السلطة، سواء في سوريا أو في مصر والعراق، ظهر هذه المرة أنّ ثمة انقساماً في صفوفها، حيث أيّد بعضها التوجُّه الجديد في مصر ورفضه البعض الآخر، وهو ما سيقود ابتداءً من هذه الحقبة إلى تحوُّلات عميقة في المشهد السياسي داخل سوريا والإقليم عموماً على ضوء الموقف من معاودة إمساك الجيش بالسلطة. حصول الفرز في مواقف الأحزاب لم يعتمد فقط على التقاطعات الأيديولوجية بينها وبين ثورة يوليو (البعث والاتجاهات القومية العربية الأخرى)، بل أيضاً على التوجُّه الذي بدا أن عبد الناصر يقوده في مصر ــــ بعد حسمه الصراع داخل صفوف الضباط الأحرار ــــ، لجهة توسيع نمط المشاركة الشعبية، وجعلها لا تحصل عبر التمثيل البرلماني حصراً، وإنما أيضاً عبر تغيير أنماط الملكية القائمة في المجتمع. وهو ما كانت ترى فيه الأحزاب ذات التوجُّه الليبرالي (وحتى الشيوعيون في مرحلة معينة) مسّاً بطبيعة النظام السياسي الذي أفضت إليه معاهدات الاستقلال مع الانتداب، عبر تغيير موازين القوى داخل المجتمع نفسه، وبالتالي حصول تغيُّر في الشرعية السياسية التي كانت حتى ذلك الوقت محصورة في نمط المشاركة المحدودة عبر البرلمان. الفرز توسَّعَ لاحقاً، ليشمل الطبقات التي كانت تمثّل بقايا الإقطاع، بالإضافة إلى الرأسمالية التجارية التي لم تكن تخشى مثل الإقطاعيين من انتزاع الملكية بقدر ما كانت ترى في التوجُّه نحو تقليص الملكيات الزراعية الكبرى مقدمةً لحصول تغيير في عملية الإنتاج نفسها. وهو ما يعني حصول التحوُّل لمصلحة العمال، وبقيادة الدولة التي بدا لهم حينها أن عبد الناصر يأخذها هي والإقليم عموماً نحو مدّ اشتراكي عارم لن تقتصر مفاعيله على مصر وحدها.

مقدمات التحوُّل الاجتماعي الكبير
إبرام الوحدة بين سوريا ومصر لاحقاً كان بمثابة تتويج لهذا المسار من التحوُّلات داخل المجتمع السوري، حيث عاد الجيش إلى الحكم خلف واجهة الوحدة، ولكن بخريطة انقسامات وولاءات مختلفة، وعلى ضوء فرز جديد داخل المجتمع نفسه، ليس بين مؤيدي الوحدة ومعارضيها، بل بين دعاة تحويل المجتمع اشتراكياً ومعارضيهم من الرأسماليين. لم يتضح هذا الانقسام جيداً إلا في السنوات الأخيرة للوحدة، وبعدما استنفد الوطنيون الاشتراكيون بقيادة خالد العظم كلّ عدتهم لمجابهة المنحى القسري للوحدة الاندماجية كما كانوا يسمّونها في أدبياتهم. المعارضة الأساسية للوحدة لم تكن شيوعية كما تبيّن لاحقاً من الانتماءات السياسية لقادة الانفصال، بل كان الشيوعيون والديموقراطيون الاجتماعيون بمثابة «أداة» استعملتها الطبقات الرأسمالية المتضرِّرة مما يمثّله عبد الناصر على الصعيد الاجتماعي للقول بأن ثمة معارضة من الطبقات الشعبية والفقيرة أيضاً لتوجُّهاته الاشتراكية. الخوف الذي عبّر عنه الشيوعيون كان مفهوماً، وخصوصاً لجهة افتقاد القيادات المصرية التي أدارت سوريا حينها الخبرة اللازمة وعدم اكتراثها بالخصوصية التي يعبّر عنها المجتمع السوري، لكن المبالغة في إبداء الخشية من «ابتلاع مصر لسوريا» لم ينعكس سلباً فقط على أداء الشيوعيين السوريين، بل أيضاً على فهمهم لطبيعة التحوُّل الاجتماعي الكبير الذي يقوده عبد الناصر في مصر والإقليم عموماً. كان هذا التحوُّل في مصر كبيراً إلى حدٍّ دفع بالقيادات الشيوعية المصرية كافةً إلى تجميد معارضتها السياسية لطبيعة حكم الضباط الأحرار، ليس لمصلحة تأييد توجُّهات عبد الناصر الاشتراكية فقط، بل أيضاً الانخراط في مشروعه من موقع الفاعلية الكاملة، مع الاحتفاظ بهامش يسمح لها بإبداء ملاحظات نقدية على المشروع حين يتعثّر أو ينحرف عن مساره. عدم حصول ذلك في سوريا لم يكن فقط بسبب قلّة نضج الحركة الشيوعية السورية، سواء منها تلك الموالية لموسكو أو «المناهضة لها»، بل لأنّ أولويات عبد الناصر في سوريا كانت مختلفة. هو لم يأت إلى هنا بأجندة لتحويل المجتمع طبقياً كما يفعل في مصر، ولا لتغيير نمط التمثيل السياسي داخل البلاد، بل لتشكيل إطار إقليمي يمنع المساس بوحدة سوريا، ويبقي الخلافات المتفاقمة بين قواها السياسية والاجتماعية في حيّزٍ يمكن التحكّم به، عبر إنشاء قيادة لهذا الإقليم تتمتّع باستقلالية عن المركز المصري، وتكون في الوقت نفسه بمثابة حَكَم بين الأطراف المختلفة. هذا التصوُّر الجيوسياسي للوحدة لم يكن يسمح بحصول تغييرات كتلك التي تجرى في مصر، فهو بالإضافة إلى طابعه المذكور كان يعتمد على التوازنات القائمة داخل البلاد هنا، وهي بطبيعة الحال دقيقة إلى حدّ لا يتيح الإخلال بها من جانب قوّة لا تنتمي ــــ رغم الحماسة العارمة لها شعبياً وحزبياً وعسكرياً ــــ إلى النسيج الاجتماعي لسوريا.

خاتمة
حصول التغيير الكبير، عبر تحويل المجتمع طبقياً كان ينتظر انتهاء حكم الوحدة، لأنّ المعارضة له طمست حقيقة التحوُّلات الاجتماعية القائمة، ووضعت تعسُّفياً الشيوعيين والديموقراطيين الاجتماعيين والرأسماليين وبقايا الإقطاع السياسي في صفٍّ واحد، فبدا الصراع كما لو كان على استقلال سوريا تجاه مصر، وليس على موقعها الجيوسياسي في الإقليم أو على طبيعة نظامها الاقتصادي ــــ الاجتماعي كما هي الحال فعلاً. صحيح أنّ حصول الانفصال وعودة مراكز القوى الرأسمالية إلى سوريا قد انعكسا سلباً على مشروع عبد الناصر، لكن التحوُّل الاجتماعي الكبير الذي قاده في الإقليم انطلاقاً من القاهرة كان قد بدأ يؤتي ثماره، عبر الامتدادات القائمة في الدول التي تأثّرت بالتجربة، وخصوصاً في سوريا. لم يكن مقدّراً لعبد الناصر قيادة مشروع التحويل الاجتماعي ــــ الاقتصادي خارج مصر بسبب خصوصية كلّ دولة وطبيعة التوازنات القائمة في كلّ منها، غير أنه استطاع عبر التجربة في سوريا تحديداً إظهار مدى تأييد الطبقات التي ينحاز إليها لهذا المشروع. وهو ما سيتضح لاحقاً على نطاق واسع، حين ستقوم في كلٍّ من سوريا والعراق والجزائر وليبيا ثورات أو حركات اجتماعية تستند إلى تصوِّره الخاصّ بجعل إمساك الطبقات الاجتماعية بثرواتها مدخلاً لمشاركتها السياسية المباشرة في صياغة مستقبلها وتقرير مصيرها.
* كاتب سوري