«الطريق الاحتجاجي»على هامش ما يجري في فرنسا هذه الأيّام، هناك سؤالٌ شائك يتكرّر مع كلّ تظاهراتٍ كبيرة حول العلاقة بين الاحتجاج والعنف. «العنف» هو المعيار الأساسي الذي يتمّ استخدامه لنزع الشرعيّة عن حركة احتجاج (والعنف هنا ليس بمعنى الاعتداء وحده، بل ايضاً بمعنى تعطيل الناس وقطع الطرقات واقامة الحواجز والخروج عن القانون وسلطة الدولة عموماً)، و«السلمية» والالتزام بالقانون و«حقّ التظاهر» هي الشعار المقابل. حين يريد الإعلام إضعاف حركة تظاهر، فهو يركّز على الجانب العنفي فيها: «الغارديان» كمثال، وهي الصحيفة التي كانت - يوماً ما، بمعنى ما - تُعتبر صوتاً «يسارياً»، خبّرت عن الاحتجاجات في فرنسا بعناوين من نمط «قتيل ومئات الجرحى في مظاهرات معادية لماكرون» أو «المتظاهرون ذوو السترات الصفر يهددون بشلّ فرنسا»؛ فيما الصحافة اليمينية (للمفارقة) تركّز على أنّ ثلاثة أرباع الشعب الفرنسي يؤيد التظاهرات ويعتبرها شرعيّة (بحسب استطلاعٍ من يوم الجمعة الماضي)، وأنّ شعبية ماكرون قد هبطت الى ما دون ربع الناخبين.
المشكلة هي أنّ الكثيرين يربطون بين فكرة «الاحتجاج» و«التغيير»، والا لماذا يخرج الناس الى الشوارع؟ ولكن الاحتجاج «القانوني»، في الوقت ذاته، من المستحيل أن يوصل الى تغييرٍ حقيقيّ. كيف لاحتجاجاتٍ أن تؤثّر إن لم تمسّ حياة الناس وتحتلّ السّاحات وتُجبر السلطة على التفاوض أو السقوط؟ الثوار الفرنسيون لم يصلوا الى «التغيير» لأنّهم كانوا كثراً وشكّلوا مشهداً جميلاً، بل لأنّهم اقاموا المتاريس واحتلّوا المدن والمرافق العامّة وبدأوا بانشاء المؤسسات السيادية على هواهم. وفي الوقت ذاته، كيف تصنع قاعدةً عامّة حول التسامح مع «العنف الجماهيري» في حالاتٍ كهذه؟ هل هناك «حدّ مقبول» من العنف؟ هل هو مرتبط بشرعية الحركة التي تمارسه؟ هل يجب أن نكون تلقائياً مع كل حركة شعبية تعارض الدولة؟ هل ندعم الفرهود، مثلاً، لأنّه حالة احتجاجٍ شعبية ضدّ السّلطة؟ ما يسهّل الأمر في هذه الحالات هو أنّك، في حالة الأحداث الجاريّة، لا يهمّ من «تدعم» وما هو رأيك إن كنت مراقباً عن بعد، بل إنّ المعنى الحقيقي للأحداث لن يتبلور ونفهمه الّا بعد مرورها.
في لبنان منذ سنوات، كان هناك نقاشٌ مشابه حين تمّ تحطيم واجهة زجاجٍ لفندقٍ فخم اسمه «لو غراي» في قلب بيروت، في خضم حركة احتجاجيّة شعبية. تحوّل زجاج «لو غراي» الى محور النّقاش كلّه. منذ «كريستالناخت» لم تحظَ واجهة زجاجية في العالم بهذا القدر من الأهميّة والاهتمام. الفكرة هنا هي أنّه، إن لم يكن في وسعك تحطيم لوح زجاج في احتجاجات، فماذا يمكنك بالضبط أن تفعل؟ استطراداً، في حالاتٍ مثل «لو غراي»، يستطيع لبنان أن يبدو بلداً محافظاً وحساساً و«راقياً» بشكلٍ غريب، بالنسبة الى بلدٍ شهد منذ زمنٍ قريبٍ مذابح بين أهله تشيب لها الولدان، وواحدة من أكثر الحروب الأهلية عنفاً في القرن العشرين (حصل عنفٌ في لبنان قد يوازي في مقداره العنف الذي سُلّط في سوريا، ولكن على كتلة سكانية أصغر بستة أضعاف. وهذا الأتون هو الذي خرج منه أو ولد فيه أكثر ابناء شعبي الحبيب. ولهذا السبب يصعب أن تجد لبنانيا فوق العاشرة «سويّا» بالمعنى النفسي، ولهذا ايضاً لا يستحسن أن تعبث مع اللبنانيين).
عودةً الى موضوعنا، ربط «الاحتجاج» بـ«التظاهر» بـ«التغيير» ليس اوتوماتيكياً ولا يجب أن يُقام بشكلٍ اعتباطي. علينا أن نرجع الى تيموثي ميتشل وكلامه عن «النفوذ» الذي حازه العمّال في اوروبا، بشكلٍ تدريجيّ، منذ بداية القرن ووصولا الى المرحلة التي تلت الحرب العالمية الثانية (حيث تحقّقت أكبر المكاسب للعمال في اوروبا الغربية)، وهو «النموذج» الذي يستوحي منه العديد فكرتهم عن الاحتجاج والتنظيم وقيمة التظاهرة. كما يشرح ميتشل (في كتابه «ديمقراطية الكاربون») فإنّ سبب نجاح العمّال يومها كان اقتصادياً وتقنياً: في بدايات الثورة الصناعيّة، وبخاصّة في اقتصاد الفحم الحجري، كان في سلسلة الانتاج أكثر من مفصل، يتحكّم به عددٌ قليلٌ من العمّال في وسعهم، ان اضربوا عن العمل في واحدٍ منه، أن يخنقوا الاقتصاد بأكمله (المناجم، سكك الحديد، مصانع الطاقة، الموانئ، الخ). وهناك معامل ضخمة من الممكن أن يقفلها مشغلٌ أو اثنين لو تنظّم عمالهما وأضربا. التنازلات التي حصل عليها العمّال لم تكن بالسلمية ولا بالتظاهر بل، حرفياً، عبر الابتزاز ولأنهم كانوا يمسكون البلد من خناقه (لو أردنا المبالغة، فأنت تجد منذ العشرينيات في أكثر من بلد اوروبي شيئاً يقترب من مثال الدولة التي تخيّلها لينين في المرحلة الاشتراكية «الوسيطة»: بيروقراطية برجوازية تدير الدولة ولكنها تقع تحت الرقابة الدائمة لحركة شعبية مسلّحة - والدولة وجهازها لا يمكن الا أن يكونا برجوازيين، فطاقمهما مكون من «مدراء» لا يعملون بأيديهم ولا ينتجون). حتّى اليوم، في دول اوروبا الغربية، وبعد أن اختفت هذه «الامكانيات» من يد العمّال وتغير شكل الاقتصاد ولم يعد للاضراب، ما زالت القطاعات الأقدر على تعطيل الحركة والاقتصاد (كالنقل العام) هي الأنجح في التفاوض مع السلطة.
المشكلة الأكبر هي في المقلب الآخر، أي في النموذج «الصحيح سياسياً» للاحتجاج والتظاهر. في المبدأ الليبرالي، حقّ التظاهر هو متاحٌ لك من حيث هو حقٌّ «في التعبير» وليس في التغيير، والفارق مهم. بل إنّ الايديولوجيا الليبرالية ذاتها تحصّن نفسها من فكرة التغيير عبر الاحتجاج الشعبي، أي انه ولو خرج كلّ الشّعب الى الشّارع، فهذا لا يلغي نتيجة انتخابات، وعلى التغيير أن ينتظر الانتخابات المقبلة (هذا كلّ مبدأ «اللعبة الديمقراطية» التي نتغنى بها). بكلمات أخرى، الليبرالية تسمح لك بالتظاهر، التظاهر «في المكان المسموح به»، وأن تقول ما تريده، وبحماية الشرطة، ولكن هذا تحديداً هو ما يضمن أن «التظاهرة» لا يمكن أن تنتج «تغييراً». قد يكون عدد الناس الذين تظاهروا في سان فرانسيسكو ومدن اميركا واوروبا، ضد حرب العراق عام 2003، أكبر نسبةً وعدداً من الذي نزلوا الى الشوارع خلال الثورة الفرنسية، وهؤلاء الملايين قد تظاهروا غاضبين وبحماسةٍ وباستقتال، في «الأمكنة المخصصة» وتحت حماية الشرطة، ولم يتمكنوا من تغيير سياسة الدولة قيد أنملة.

«الطريق الشعبوي» (اليميني - اذ لا يوجد بعد يسار شعبوي يستحقّ شرف التسمية)
استمعت أخيراً الى مقابلة للمؤرخ والكاتب السياسي الأميركي فيكتور دايفيس هانسون (تحول الى أحد شخصيات المحافظين الجدد المعروفة ايام بوش) يدافع فيها عن ترامب وعن «ضرورته». كان بعض كلام هانسون عن «المؤسسة» و«النخب» و«الهيمنة الليبرالية» يشبه تماماًَ كلام اليساريين بعد الحرب العالمية، من التوسير الى ماركوزه الى رورتي، الذي فهموا أن الدولة «الديمقراطية» ومؤسساتها قد أصبحت هي المهيمن والحاجز أمام التغيير، وكتبوا عن «التسامح القهّار» الذي تنتجه. يقول هانسون، اليميني الى حدّ العنصرية، أن المؤسسة (الاعلام، الاكاديميا، الدولة والمخابرات) كانت قد خلقت «حائطاً» يمنع التغيير ويخلق اجماعاً نخبوياً لا يمكن اختراقه، وأن الوسيلة الوحيدة لكسره كانت عبر زعيمٍ شعبوي مثل ترامب، قادر على الوصول مباشرةً الى النّاس وتحفيز الانقلاب (أنا هنا أتفق مع هانسون وستيف بانون بأنّ ترامب، مهما حاول اعداؤه في اميركا استصغاره، هو زعيمٌ تاريخيّ، «ستسمع عنه بعد عشرين وثلاثين عاماً» بتعبير بانون. وهو، مهما حصل، سيغير بانقلابه «الشعبوي» الحزب الجمهوري، ومعه السياسة الأميركية، بشكلٍ جذريّ والى الأبد).
مثل هانسون، حين تسمع خطاب ستيف بانون عن اليمين الأميركي الشعبوي (هو يسميه كذلك)، فإنّ مقدماته، التي تشرح غضب الناس، تشبه مقدّمات حزبٍ يساريّ: 50% من العمال الأميركيين يعيشون حياة فقيرة، 60% من العائلات الأميركية لا تملك 400 دولار لو احتاجت الى المبلغ في حالة أزمة، كلّ النمو في السنوات الماضية ذهب الى المصارف والنخب وتقلصت مداخيل العمّال. بل هو يذهب الى الكلام عن التغريب والمخاوف التي يعيشها الفرد في الرأسمالية المتأخرة «أكثر الناس في بلدنا يعرفون أنهم دائماً على مسافة راتبين من الخراب الكامل» (الاقتباسات هي من خطاب ألقاه بانون أخيراً في اوكسفورد، وهو فعلياً قد أعدّ خطاباً واحداً يعيد تدويره في كلّ محاضرة).
الفارق بين اليميني واليساري هنا هو أنّ اليساري يستخدم هذه المقدّمات ليقول للناس إن سبب المشكلة هو أنّ الأرباح كبيرة وتتعاظم فيما الأجور تنخفض، وأنّ السبب هو النظام الرأسمالي، الذي سيزيد الأمور سوءاً حتّى نغيّره أو يوصلنا جميعاً الى الخراب والاذلال. بينما اليميني يخبر الناخب أن المشكلة هي في الدول الأجنبية و«النخبة المعولمة» والهجرة المنفلتة. اميركا تنحدر، بحسب بانون واليمين، لأنّ الصين واوروبا وغيرها «تستغلّها» وتسرق الوظائف من طبقتها العاملة، والنخب «المعولمة» تستفيد من الوضع ولا تدافع عن الحقوق القومية، وتسمح للهجرة بتغيير طبيعة البلد. هنا، بالطبع، المفارقة الطريفة هي أنّ أمثال بانون وترامب مقتنعون فعلاً بأنّ اميركا، القوة الامبريالية الأولى في العالم، هي «ضحية» للنظام العالمي.
المشكلة في هذا الطريق الذي يجتاح دول الغرب، وسبب خطورته، هو أنّه يملك السؤال الصحيح والإجابة الخاطئة (والّا لظلّ هامشيّاً، أو لكان شيئاً محموداً). بانون يشتكي من نتائج الرأسمالية ولكنه يؤمن بها ويريد، فحسب، تغيير توزّعها في العالم. بل إنّ حركة بانون تتباهى بأنها تنفر من الدولة ولا تريد لها دوراً اقتصادياً، وهو يعني أنّها لن تتمكّن - يوماً - من تحقيق وعودها للفقراء. فاشيّو القرن العشرين، على الأقل، استخدموا الدولة من أجل التوزيع وتثبيت حلفهم الطبقي (وفي ايطاليا أكثر من ألمانيا)، فيما ترامب يقدّم اعفاءات ضريبية واصلاحات قانونية تزيد من توسّع وأرباح القطاع المصرفي والمالي الذي يعتبره بانون - عن حقّ - سبباً للأزمة.
المشكلة الثانية في هذا الخطاب هو أنّه، إن حكم، ستنحو علاقته مع «المنافسين» في العالم، ضرورةً، صوب العسكرة والحروب الخارجيّة. حين لا يكون الشعبوي قادراً على الفعل في الاقتصاد الداخلي، وهو يلوم الأجانب على مشاكله، فلا طريق لهذا النمط من «القومية الاقتصادية» سوى التصعيد ضدّ هؤلاء الأجانب، ومزاحمة المنافسين وحصارهم، وصولاً الى استخدام القوة العسكرية. قد يقبل اليمين الشعبوي، ان اقترب من السلطة كما حصل في اميركا، بخطابٍ يلتزم بالقيم المدنية ويرفض العنصرية ويتجنب تفجير «الغضب الأبيض» داخلياً (وهو ما يفعله بانون على الدوام، زاعماً بأن «قوميته الاقتصادية» لا تميز بين المواطنين ولا يهمها لونك أو دينك)، ولكن لا سبب لدى هذا اليمين حتى يكون لطيفاً ورحيماً وغير عنصريّ مع العالم الاسلامي أو الصين أو غيرها من «الأعداء» الأجانب.

خاتمة: «الطريق الجنوبي»
الحاضر الغائب في النقاشات الغربيّة هو مكان الجنوب العالمي - أي نحن - منها. التغيير السياسي قد يحصل في الغرب، ولكن الجنوب هو الملعب الذي ستدور فيه المواجهة وما يخرج منه هو ما سيقرر مصير العالم. هناك حجّةٌ قوية في أن الصدام بين اميركا والصين كان سيحصل في كلّ الأحوال، مع ترامب أو مع غيره، وذلك ببساطة لأن استراتيجية واشنطن تجاه الصين - منذ الثمانينيات - كانت تؤمن باحتمالين: امّا أن الصين سـ«تتغيّر» سياسياً بعد الانفتاح وتصبح «حليفاً طبيعياً» للغرب، أو أنّ النمو الصيني سيتوقّف وينهار بعد برهة، لأنّ اقتصاد الدولة الموجّه سيثبت، كما في الاتحاد السوفياتي، انّه غير قادرٍ على منافسة الرأسمالية الحرّة. لم يحصل هذا ولا ذاك. ومن هنا، فإن التعايش مع صينٍ صاعدة لم يعد ممكناً بالنسبة الى الاميركيين بصرف النظر عن الرئيس.
يقول الراحل سمير أمين أن أزمة عام 1873 العالمية أفضت الى توسّعٍ حثيث في الاستعمار الاوروبي واغتنام الموارد من الخارج. أمّا الأزمة التي ابتدأت عام 1973، يضيف أمين، فهي أوصلت الى التوسّع المضطرد في منظومة «العولمة» واختراق اقتصاديات دول الجنوب ودمج مؤسساتها واسواقها ورساميلها. ما يحدث اليوم، من منظورنا كعرب، هو أنّ بعض الجمهور الغربي، الذي أفقرته الرأسمالية وتم «عصره» بين تضخّم أرباح المصارف وتجذّر برامج «التقشّف»، قد يكون ينوي الارتداد عن المنظومة المعولمة التي اعتدنا أن يُحكم العالم عبرها. أما المؤسسات الدولية والقانون ووهم الانفتاح والتنافس الحرّ، فهذه لم تعد مرغوبة في زمن الأزمة. هذا الجمهور، ربما، يريد الارتداد الى النمط الأقدم من التوسّع الامبريالي، كما بعد 1873، نمطٌ أكثر شراسةً وبدائية: النّهب المباشر. ماذا سنفعل نحن؟ هذا هو السؤال. قبل أن تسخر من الحلول التي يطرحها اليمين الشعبوي على ناسه في الغرب، وتشعر بالفوقية تجاهه، تذكّر أنّ نظريته، على مشاكلها، تظلّ أكثر تقدّماً بكثيرٍ من اغلب الإجابات التي تُقدّم حول الاشكاليات نفسها في بلادنا - حيث الأزمة أكثر عمقاً من الغرب، والافقار أكثر قسوة، والحاجة الى التغيير أكثر إلحاحاً.