تثير إعادة فتح المتحف الملكي حول أفريقيا الوسطى في بلجيكا، في كانون الأول/ ديسمبر المقبل، وعرضها كـ«أعمال فنية» في متحف، نقاشاً حاداً حول وجوب إرجاع المواد المنهوبة خلال الحقبة الاستعمارية. يعكس النقاش التشاركي حول «إعادة الثروات الثقافية الأفريقية: قضية أخلاقية أو قانونية؟»، المنعقد في الـ16 من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، في البرلمان الفرنكوفوني في بروكسيل، استمرار الصراع من أجل الاعتراف بالدَّين الأخلاقي والمادي للاستعمار، والتعويض عنه. ويمثل متحف العلوم الطبيعية في بلجيكا، المتحف الأفريقي في مدينة نامور، أو المتحف الملكي في ترفورين، رموزاً للكنوز المسروقة من أفريقيا، ومواقع بارزة للذاكرة الاستعمارية، تحوي بقايا بشرية خلفتها المجازر.وعلى رغم أن الضغط من أجل إرساء الحقيقة التاريخية، والاعتراف الأخلاقي بالجرائم الاستعمارية، والإعادة غير المشروطة للمواد الثقافية المسروقة في الأعوام الأخيرة، قد ازداد في السنوات الأخيرة، نتيجة تعبئة المؤرخين الأكاديميين أو الفنانين أو ممثلي النقابات، لكن السياسيين لا يزالون مترددين في تنفيذ شروط تحقيق العدالة للشعوب المستعمرة سابقاً وضمان تعويضها. فمنذ عام 2002 و«الإعلان عن أهمية وقيمة المتاحف العالمية» الشهير، الذي وقعه 19 مديراً من أبرز المتاحف الغربية، التي أثارت ضجة في ذلك الوقت، كانت الحجة التي يتم التذرع بها دائماً، نقص البنية التحتية الحديثة والمعدات اللازمة في البلدان الأفريقية للحفاظ على ممتلكاتها الثقافية. صور إعلان 2002، الذي يحمل طابع الأبوية الاستعمارية الجديدة، «استعادة» المواد المسروقة، كما لو أنه أمر مُدمّر، وبرَّر الاحتفاظ بها في المتاحف الغربية، بأنه «عامل تنمية ثقافية لجميع شعوب العالم».
وعلى غرار بلجيكا، تواجه فرنسا بشكل منتظم ماضيها الاستعماري، والواجب الأخلاقي للاعتراف والتعويض الذي يطالب به أحفاد الشعوب المستعمَرة. وفي مواجهة هذه المطالبات، لا يتوقف رد الفعل الرسمي عن التأرجح بين الحنين والصمت، وتحريف الروايات التاريخية، الذي بلغ ذروته مع قانون الـ23 من شباط/ فبراير عام 2005، الذي وضع تفسيراً رسمياً للاستعمار الفرنسي بوصفه «عملاً إيجابياً». وعلى رغم الاعتراف بأكثر الأفعال عنفاً ورمزية في التاريخ الاستعماري الفرنسي في السنوات الأخيرة، إلا أن تناولها كان باعتبارها استثناءات لنظام استعماري تم تحليله في شكل عشوائي، في ضوء إخفاقات دول ما بعد الاستعمار، وفق المنطق الذي يُسجل ويقارن إنجازات كل فترة على حدة، للتأكيد على أن الاستعمار كان مشروع «تنمية» و«تحديث». وهكذا، ظلت مسألة استعادة الحقوق، حبيسة القيود الأيديولوجية، وثقل التمثيل الثقافي، في بلد لم يسبق له أن قرر إدانة الحقيقة الاستعمارية في مجملها.
وعلى رغم إعلان الرئيس إيمانويل ماكرون، نيته التي عبر عنها في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، في واغادوغو، بأنه يريد إعادة الموروث الثقافي الأفريقي إلى القارة السمراء «خلال خمسة أعوام»، لكن المسألة لا تبدو متوقفة على مجرد حسن النية، بل تطرح مشكلة الأيديولوجيا والوهم، الذي يفسر الإهمال الذي يشوب علاقة النخب السياسية الفرنسية بالدول المستعمرة سابقاً. حافظ هذا الوهم، على التصور القائل إن فرنسا قوية وحاضرة في كل مكان، حتى في مكافحة الاستعمار، في حين أصبحت الحساسية ضد الاستعمار والإمبريالية، اليوم، مورداً لا ينضب، يغذي معارضي السلطة الاستعمارية الفرنسية السابقة، ويولد رغبة لديهم في كسر ميثاق ما بعد الاستعمار.
وفي حين استمر النفوذ الفرنسي في أفريقيا في التآكل خلال السنوات الأخيرة، فإن الاعتراف الرسمي بدَين فرنسا الأخلاقي، واعتماد تدابير ملموسة وعمليّة للتعويض، كان يمكن أن يؤدي إلى تحولات عميقة في تصور دور فرنسا في إقطاعيتها السابقة. لكن في مواجهة الدَّين الاستعماري، الذي يستمر في لعب دور مهم في ردكلة العلاقات الأفريقية-الفرنسية، ورهن مستقبلها، من خلال خلق معجم تعبيري للتحركات الشعبية والسياسية المحلية، يتواصل العمى نفسه في الطبقة السياسية الفرنسية. وليس غريباً هذا العمى، عن الشعور بالتفوق الثقافي والتاريخي والغرور، الذي يتم التعبير عنه بطرق عدة. فالازدراء لتاريخ الشعوب المقموعة، والإرث الثقيل للاستعمار، الذي لعب دوراً مهماً في عمليات العرقلة التي تعيشها المجتمعات الأفريقية المستقلة اليوم، يسمح بتدخل فرنسا في الشؤون الداخلية للدول الأفريقية.
عالم السياسة الفرنسي، المتخصص في الشؤون الأفريقية، جان فرانسوا بايارت، قدم تقييماً في عام 1993، حول سلوك فرنسا تجاه أفريقيا، يعكس غطرسة قوة استعمارية سابقة لا تنظر للقارة إلا عبر مرآتها الخاصة، ويفسر أسباب تراجع النفوذ الفرنسي في أفريقيا: «لم تنجح أي حكومة من تلك التي خلفت حكومات ديغول في تجاوز الخطيئة الأصلية في سياسته الأفريقية. إعطاء الأولوية للعلاقات المشخصنة، الغامضة إلى حد ما، مع مسؤولي أفريقيا الغربية الفرنسية، وأفريقيا الاستوائية الفرنسية؛ ورعاية الحكومات السلطوية، الريعية والمفترسة». وبالنسبة للكاتب الفرنسي أنطوان غلاسير، مؤلف كتاب «متغطرس كفرنسي في أفريقيا» (دار فايار، 2016)، الذي يتساءل عن الدور الفرنسي في أفريقيا، يرى أن «فرنسا استفاقت اليوم على حقيقة أن الواقع تجاوزها: كانت تظن أن كل شيء لا يزال تحت السيطرة وأن معرفتها بأفريقيا متينة. لم يكن ذلك سوى خديعة، لقد أفلتت مصائر القارة السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية من يديها تماماً. لكن المسؤولين الفرنسيين، مدفوعين بغطرستهم، لا يهتمون حقيقة بتعقيدات أفريقيا...».