مقاربة أولى تُركّز على الضرورة المعرفية لبلورة ما يمكن أن يُسمى علم اجتماع عربي خاص لفهم آليات تعوُّق التنمية الاقتصادية - الاجتماعية في المجتمعات العربية. وعلى «تعريب» هذا العلم وتركيزه حصراً على مركزية الفهم الإتنو - ثقافي للعوامل المحلية المعوِّقة للتنمية وبالتالي على تجاهل السياقات السياسية – الاقتصادية لآليات استتباع المجتمعات العربية قبل الاستقلالات وبعدها التي انعكست ولا تزال في هيمنة آليات التكييف السياسي والتكيُّف الثقافي لدى النخب الحاكمة والموالية فيها.أولاً، يجري التركيز في نموذج مُميّز من هذه المقاربة السوسيو- أنتربولوجية الأولى (1) على الطابع التضميني التكاملي والشامل في مقاربة عوامل التنمية: وهو فهم كلياني مُهيمن (Dominant) في قيام وتعوُّق التنمية يُعارض المقاربة التي تعتبر العامل الاقتصادي - الاجتماعي هو المُحدّد (Determinant) في فهم هذا القيام وهذا التعوُّق. وذلك بخلاف «منطق الحرص المعرفي لمضامين الأبعاد الثقافية الاجتماعية في مفهوم التنمية باعتبار أن المجال التنموي هو نطاق مجتمعي (كلّي) يقتضي تحليل الأفعال والنتائج التي يفرزها كوقائع ومؤثرات مباشرة في أنماط إنتاج الثروة وحركياتها وكيفية توزيعها واستثمارها... (ويقتضي) البحث عن أسباب الانتقال وتبعاته من نمط اجتماعي معين لإنتاج الثروة إلى نمط مختلف ومدى بلوغ النموذج الاجتماعي لتحقيق رفاه المجتمع والمرأة...» (2).
وإذا كنا نقدر عالياً اعتبار «المجال التنموي نطاقاً مجتمعياً» يحكم الأفعال والمؤثرات في نتائج العمل التنموي إلا أن ما يغيب عن هذه المقاربة الراديكالية المُشار إليها وبخاصة في تطرقه لأشكال الانتقال من نمط اجتماعي إلى نمط آخر، هو تحديد الفاعل السياسي المقرر في إدارة النطاق المجتمعي واستثمار وتوزيع موارده. والفاعل هنا هو، بلا ريب، المقرر السياسي «للوقائع والمؤثرات ولكيفيات التوزيع والاستثمار».
وفي هذا التغييب للسلطة السياسية نرى أن هذه المقاربة «الثقافوية» لا تختلف عن نهج خبراء اليسار النيوليبرالي في تقارير «برنامج الأمم المتحدة الإنمائي» وبخاصة عندما تتحدث متفائلة عن «تمكين السوق من بلورة منطق للتنمية يقوم على المبادرة والمنافسة والحرية باتخاذ قرارات رائزها مراكمة الأرباح أولاً...».
وفي هذه الخلاصة لنموذج من مقاربات دراسات إمكانات التنمية في البلاد العربية، التي لا تتجاوز النهج الاتنو- ثقافي الحذر سياسياً وتركز على الحاجة الماسة لـ«إنتاج معارف مجتمعية مبتكرة تنطلق من الواقع لا من مقولات أيديولوجية منتجة ومعلّبة في الخارج» يغيب عن هذا النهج ذكر الآليات الاستعمارية المصادرة على امتداد أكثر من أربعة قرون، لفرص توافر الظروف الاقتصادية - الاجتماعية الملائمة للنمو المستقل نسبياً في بعض البلدان العربية الإسلامية عشية استعمارها.
وهي فرص لم تكن بعيدة عن تفكير ابن خلدون في مطلع القرن الخامس عشر عندما تحدث تحت عنوان «في أن العمران البشري لا بدّ له من سياسة ينتظم بها أمره» حيث يمّيز بين حكم يستند تارة إلى شرع مُنزل يحصُل نفعه في الآخرة وتارة إلى سياسة عقلية يحصِّل نفعها في الدنيا فقط... وما يسمعه (العباد) من السياسة المدنية فليس من هذا الباب... حيث يسمّون المجتمع بالمدينة الفاصلة والقوانين المراعاة في ذلك بالسياسة المدنية... ويتكلمون عليها على جهة الفرض والتقدير وهي نادرة أو بعيدة الوقوع... أما السياسة العقلية فتكون على وجهين أحدهما يُراعي فيها المصالح على العموم ومصالح السلطان في استقامة ملكه على الخصوص... وهي على جهة الحكمة» (3).
تُركّز المقاربة الثانية على أولوية الاستثمار في قطاعَي التعليم والبحث العلمي


وهكذا تكون قد تجسدت في زمن ابن خلدون الشروط السياسية والاجتماعية لتحقيق فرص النمو بالتواكب مع تبلور قواعد عقلانية للفكر السياسي التنموي تُدين الجموح في التطلع إلى سياسة حكم مدني يحرق المراحل في القفز فوق هذه القواعد. وهي القواعد التي شهدت المجتمعات الأوروبية الغربية انطلاقها على امتداد القرن السادس عشر. وهو القرن الذي شهد في بلادنا ترسيخ الإمبراطورية العثمانية المعتمدة على الريوع لإمداد حروبها مع الملكيات الأوروبية. وهي ملكيات عملت على تطوير الملاحة لأساطيلها للخروج إلى التجارة والاستعمار والتبادل غير المتكافـﺊ في القارات الآسيوية والأفريقية وصولاً إلى أميركا لتوفير حاجاتها الأساسية من التراكم الرأسمالي الأولي والانتقال من الرأسمالية التجارية إلى الرأسمالية الصناعية.
إن المقاربة الاتنو - ثقافية التي نعرض لها أولاً لم تكتف بتغييب عمليات التعويق الاستعماري العثماني والأوروبي الغربي لعوامل النمو الذاتي وفي طليعتها العامل الاقتصادي - الاجتماعي للمجتمعات العربية ومصادرة انتقالها إلى أنماط من الرأسمالية الملائمة لطبائع وتشكيلات البُنى السياسية ــ الاجتماعية المتحررة حول الدولة، بل ذهبت عمليات التعويق تلك بعيداً في استبعاد قواعد أساسية لسياسات التنمية في التجارب الغربية وفي استبعاد التشارك أو التشابه معها في تفصيل الحاجة الثقافية الماسة لإنتاج معارف مجتمعية مبتكرة تساهم في بلورة علوم مجتمع تتناول خصوصيات التنمية في بلادنا بعيدة من القواعد التي أكدتها تجارب النمو الرأسمالية في العالم. وهي قواعد اقترن تحققها في المراكز المتربولية للاستعمار بقواعد تحكُّمها في استتباع موارد وأسواق البلدان التي كانت تستعمرها. فذهبت هذه المقاربة الاتنو-ثقافية للنمو في نحت الخصوصية الثقافية لتعريب فهم التنمية في كل حقولها متجاهلة إن عالمية بنية الرأسمالية وآليات تقسيمها العالمي للعمل تفرض بالضرورة التشابه بأولويات الخيارات السياسية التي كانت في أساس تجارب التنمية في الدول الرأسمالية على اختلاف مراحلها بين أوروبا الغربية وجنوب وشرقي آسيا. وهي خيارات تمثلت بأولوية دور الدولة في تحديث البُنى التحتية ودعم القدرات الاستثمارية لدى القطاع الخاص لفترة تمكنه من التصنيع والمنافسة في التصدير وإرساء ما يترتب على ذلك من سياسات جمركية وضرائبية واجتماعية وفي التخطيط لسياسات متوسطة وطويلة المدى في تثمير الموارد الطبيعية والبشرية.
وجدير بالتذكير أن تحقيق مثل هذه الأولويات الاقتصادية في الدول الرأسمالية الصناعية على اختلافاتها اقترن حكماً بآليات تعويقها لفرص وقواعد تحقق مثيلاتها في البلدان التابعة تعويقاً محكماً ينأى الخبراء الليبراليون عن تفكيك محدداته السياسية – الاقتصادية الكولونيالية التي تفرضها عليها المراكز الاقتصادية والمالية المقررة في النظام الرأسمالي العالمي والمتمثلة، أولاً وقبل أي شيء، بانتهاك سيادة الدولة في إدارة أسواقها.
وتُركز المقاربة الثانية على أولوية الاستثمار في قطاعي التعليم والبحث العلمي والتطبيقي منه خاصة. وهي أولوية تُتيح لحكومات هذه البلدان، في افتراضات الخبراء، فرص نقل التكنولوجيا وإمكانيات التصنيع. وهم يدركون بلا ريب أن التركيبات الحاكمة التي تعاقبت على امتداد عقود على تحاصص الريوع وترسيخ العصبيات في مواجهة نمو معارضات هذه التركيبات لم تواجه تعويق التعليم في أوساط الفئات الشعبية ولا توسع الفساد والهدر وعجز الدولة ومديونيتها.
ويعزو هذا النهج العلمو- اقتصادوي في النموذج الثاني لمقاربة تعوُّق الاقتصادات العربية «إلى عدم قدرة الدول العربية على تحقيق معدلات نمو اقتصادي مرتفعة منذ مدة ليست بالقصيرة إلى تفاقم مشكلتي الفقر والبطالة» (4). ويترك للقارﺉ أن يربط، على طريقته، بين السبب والنتيجة كما سبق وتُرك له عدم التفريق بين قدرات المجموعات العربية النفطية منها وغير النفطية على التأثر بعوامل «تباطؤ الاقتصاد العالمي واستمرار الاتجاه الهبوطي لأسعار النفط والتي فقدت في العام 2015 نحو 49% في السنة من قيمتها المسجلة خلال العام 2014» (5).
ولا يختلف النهج العلمو - اقتصادوي في مقاربة د. منيف الزعبي عن نهج كل من د. محمد المعزوز ونهج «الصندوق العربي الموحد» التقنو- ثقافوي في اعتماد مبدأ التعميم في وصف الأوضاع في الاقتصادات العربية. وفي ذكر التحديات التي يطلب هذا النهج التصدي لها دون التوقف أمام محدداتها ولا أمام اختلاف «الإصلاحات الهيكلية» بين الدول التي تدعو إليها متمحورة حول «وضع التعليم أو تطوير رأس المال البشري». وإن كانت هذه الأولوية قد حققت انجازات منذ ستينات القرن العشرين في البلدان العربية إلا أنها لم تقترن بـ«إسهام كبير لقطاع العلوم والتكنولوجيا والابتكار فتحقق بهذا الاقتران ما حققه من تنمية شاملة في اليابان وكوريا الجنوبية وماليزيا والهند». وبهذا يكون د. الزعبي قد غيّب، في المقارنة بين محدودية ما حققته إنجازات التعليم في الكثير من البلدان العربية وبين ما بلغته في تطورها إلى «الإسهام الكبير لقطاع العلوم والتكنولوجيا في البلدان الآسيوية»، أهمية الاختلاف السياسي الجذري بين الطبقات الحاكمة في المنطقتين وبين اختلاف مصالح كل منها بربط قطاع التعليم مع قطاع العلوم والتكنولوجيا. ويصبح من السهل على الخبراء من أصحاب النهج العلمو- اقتصادوي أن يراهنوا متفائلين على الاكتفاء بهيكلة قطاع التعليم (أو تطوير رأس المال البشري) لانطلاق إمكانيات نقل التكنولوجيا وجذب الشركات متعددة الجنسية الراغبة بالخروج إلى بلدان الاستثمار في بلدان ترخُص فيها العمالة، ومتفائلين افتراضياً بتكامل نمو القطاعات وما تتطلبه من تطوير مفترض أيضاً وأيضاً من التشريعات والمؤسسات لتمكين الصادرات من المنافسة والمبادلات بين البلدان العربية. كما يذهب تفاؤلهم بالضرورة إلى توسيع فرص العمل ولا سيما أمام خريجي الجامعات.
إلا أن الباحث العلمو - اقتصادوي لم يتأخر في استدراكه أولوية الدور السياسي للحكومات لاعتبار أن الاستثمارات الأجنبية الناقلة للتكنولوجيا قلما تجد فائدة في الاستثمار في بلاد فقيرة وآمنة ورخيصة العمالة إلاّ إذا كانت المشاريع حكومية تضمن لها مردودات لا تُفوّت. ويستدرك الباحث في خلاصات بحثه «أن هناك جزر نجاح مضيئة محدودة في مجال العلوم والتكنولوجيا والابتكار في بحر مُعتم من الفشل ومن إهدار لفرص إحداث نقلة نوعية من خلال أدوات العلم». ولا نستغرب استغراب هذا النهج العلمو - اقتصادوي عندما يشير «إلى أنه ليس من مركز متخصص في دراسة العلوم والتكنولوجيا وسياساتها في أي جامعة من مئات الجامعات العربية... بينما تزخر جامعات بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، على سبيل المثال، بمراكز كهذه...» (6). ولم يستغرب د. منيف رافع الزعبي ما أورده هو في نصه عندما أشار إلى قصور المملكة العربية السعودية، وعلى رغم توسع قدراتها التمويلية والإدارية والجامعية، عن توفير آليات وبرامج لنقل التكنولوجيا على رغم تسهيلها لإصدار قوانين الملكية الفكرية وتأسيسها لمؤسسة «تقنياً» لدفع نقل التكنولوجيا إلى جانب مجمع الابتكار في جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية ومكتب نقل التكنولوجيا في جامعة الملك فيصل وأن كل هذه التأسيسات الإدارية ـــ التشريعية والتدخلات الجامعية لم تحرك ظهور آليات وبرامج نقل التكنولوجيا في دولة يكاد التصنيع وضرورات نقل التكنولوجيا فيها يقتصر على القطاع النفطي للشركات الأجنبية المساهمة مع الدولة.

المراجع:
(1) د. محمد المعزوز «واقع العلوم الاجتماعية العربية ـــ العلوم الاجتماعية والتنمية» بحث منشور ضمن «التقرير العربي العاشر للتنمية الثقافية 2017 ــ 2018»، الصادر عن مؤسسة الفكر العربي، بيروت، ص. 169 ــ 178.
(2) «الإسكوا»، تقرير عن الأهداف الإنمائية للألفية في البلدان العربية 2011، الأهداف الإنمائية في زمن التحول نحو تنمية تضمينية شاملة، بيروت، شباط/ فبراير 2012، ص61.
(3) مقدمة ابن خلدون، طبعة المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، الفصل الحادي والخمسون، الباب الثالث، ص. 302 ـ 303.
(4) بحث للدكتور منيف رافع الزعبي بعنوان «قراءة في نقل التكنولوجيا الدبلوماسية العلمية» نُشر في «التقرير العربي العاشر للتنمية الثقافية»، الصادر عن مؤسسة الفكر العربي، 2017 ــ 2018، ص 327.
(5) «التقرير الاقتصادي العربي الموحد»، الصادر عن الصندوق العربي الموحد، الكويت 2016.
(6) بحث د. منيف الزعبي، مرجع سابق، ص 330 و339.
* كاتب لبناني