بمعزل عما هو متداول بشأن تمثيل نواب «سُنَّة» من خارج «تيار المستقبل» في الحكومة العتيدة، وتحوُّل ذلك إلى عقدة أخيرة تؤخر إعلان التشكيلة الجديدة (حتى إشعار آخر)، وبمعزل عما إذا كانت هذه العقدة مفتعلة (للعرقلة) أو واقعية ومحقة (وهي كذلك في سياق التشكيل الراهن ومنطقه)، وسواء كان الهدف من هذه العقدة الأخيرة عرقلة التأليف أو خدمة هدف سياسي آخر (وكلاهما مشروع سياسياً إذا صحّت الوسائل وانتفى الضرر العام)... فإن من الخطأ حصر المسألة في هذه الجوانب أو في بعضها، من دون العودة إلى جذر المشكلة وأساس الخلل.نبدأ من إشكالية لا بد من أن يُشار إليها، ولو بسرعة: هؤلاء النواب الذين يشكلون جزءاً من فريق أو كتل تحالف «الثامن من آذار»، هم بمعظمهم أيضاً، أصحاب «سوابق» في العمل القومي والعروبي وفي الانتماء إلى اتجاهات تغييرية ذات طابع مدني وعلماني لم ينحصر نشاطها في المدى اللبناني الذي كان الاكتفاء به، في السابق، يوسم غالباً بنوع من (اللبنانوية) «الانعزالية» التي يرفضها ويأنفها دعاة القومية والعروبة على وجه الخصوص. فماذا عن هذه «الآخرة» بالعودة الى شعار أو مطلب مذهبي: في الشكل على الأقل؟! يقتضي هذا التذكير التنويه بموقف النائب الناصري التقدمي الصديق الدكتور أسامة سعد الذي نأى بنفسه عن التشكّل ضمن النواب السنّة (الستة) مفضلاً، كعادته، تقديم هويته الوطنية القومية غير الطائفية، على كل اعتبار آخر.
في السياق الراهن، مشكلة النواب «السُّنَّة» هي تعبير إضافي عن الإمعان في تطييف ومذهبة السياسة والإدارة في لبنان. الانتخابات، وفق ما عوَّلت الأطراف عليها، وخصوصاً فريق «العهد»، وقانون تلك الانتخابات ومجرياتها، أكدا مساراً أراده الجميع مناسبة إضافية لتجاهل إصلاحات الدستور، وأراده البعض تكريساً لتحويل هذا التجاهل إلى انعطافة جديدة في تركيب السلطة ينبغي أن يقود، عاجلاً أو آجلاً، إلى إلغاء تلك الإصلاحات وخصوصاً منها البند المتعلق بإلغاء الطائفية السياسية، وهو البند الذي يتضمن صياغات حاسمة (المواد 22 و24 و95 من الدستور) لجهة إلغائها: ضمن مهل وآليات واضحة كوضوح الشمس في رابعة النهار!
للعماد عون رئيس حزب «التيار الوطني الحر» ومن ثم رئيس الجمهورية اللبنانية مساهمة لا تنسى في كسر التقليد الذي كان سائداً لجهة التزام مسيحيي لبنان بعلاقة «مصيرية» مع الغرب، وبحذر دائم حيال الشعارات والمشاريع والتوجهات العروبية (خصوصاً منها المناهضة للمشاريع الاستعمارية والصهيونية). إلا أن تلك الانعطافة المهمة (وحتى التاريخية)، وإذا جرى غض النظر أو تجاهل الأثمان والمقايضات، لا يجب أن تلغي ملاحظة أن التيار العوني في السلطة وخارجها، قد عوَّل، وبشكل تصعيدي، على التعبئة الطائفية قبل أي أمر آخر. هو جسَّد ذلك في رفع شعار استعادة «الحقوق»، وفي تطبيق وتكريس وتأبيد «المناصفة»، وفي الرئاسة القوية أو الرئيس «القوي»، وفي تجاهل أسس الإصلاح الدستوري والإداري التي أقرت في «الطائف». في مجرى ذلك المسار المشوه، أصبح الكلام عن تطبيق الدستور موقفاً طائفياً، وأصبح حتى إبقاء البنود الإصلاحية تعبيراً عن انقلاب جرى تنفيذه بإرادة خارجية وعلى حساب الدور المسيحي، وإلغاء «ضمانات» هذا الدور، بالدرجة الأولى... إن ذلك عنى، وسيعني أكثر في مراحل لاحقة، أن الوضع اللبناني سيظل حبيس وأسير الانقسامات والتجاذبات الطائفية والمذهبية وفق صيغة متخلفة ومحكومة أيضاً بالسعي للاستقواء بالخارج، سواء عبر ارتباطات مماثلة سياسياً (كما كان الأمر تقريباً، في السابق)، أو طائفياً ومذهبياً (أو الأمرين معاً) كما يحصل في المرحلة الحالية.
مشكلة النواب «السنَّة» (الستَّة) هي، إذاً، نتيجة وليست سبباً. إنها نتيجة الإمعان في الفئوية، وفي انتهاك الدستور، وفي تفشي التطييف والتمذهب، وفي تشويه النسبية وفي التعامل مع النظام النسبي وفق منطق الأكثري. حصل ذلك قبل الانتخابات وخصوصاً في التحالفات التي ضاعت فيها المقاييس السياسية وأصبح كسب الموقع هو الذي من أجله يهون كل اعتبار آخر.
النظام النسبي، عموماً، لا يمنع تشكّل أكثريات سياسية ضمن ثنائية طبيعية هي الموالاة والمعارضة. وحده نظام التحاصص الطائفي، كالنظام السياسي اللبناني، هو الذي يشوِّه التمثيل ويغذي نشوء دويلات ينبغي تمثيلها جميعاً (تتقدم الآن ذريعة «الميثاقية») لتأمين «العيش» المشترك الذي لا يخجل البعض من التباهي به نموذجاً، رغم كل ما شهده لبنان من حروب وتوترات وانقسام ودمار وخسائر، وما يواجهه مشروع الدولة من فشل وتعثر وعدم استقرار... منذ الاستقلال حتى اليوم (آخر جولة تقاتل داخلي استمرت 15 سنة!).
لا يجوز بعد الآن، السكوت على هذا النوع الخطير من التشويه والتزوير والارتكاب. إن ما يجري ليس مجرد مخالفة دستورية بسيطة. إنه مسار خطير قد تترتب عليه احتمالات سلبية ومخاطر جمَّة، ليس فقط على لبنان واللبنانيين، بل حتى على بعض دول وشعوب المنطقة التي يُراد لها أن تحذو حذو النموذج اللبناني (كما حصل في العراق الذي يعاني نظام المحاصصة العرقية والطائفية تمثُّلاً بالصيغة اللبنانية العجائبية!).
الواقع أن ما تُقدم عليه قوى السلطة، سواء بمخالفة الدستور أو باحتقار حقوق المواطن أو بتحاصص نهب البلاد... إنما تجرؤ عليه، وبهذه السوية الاستفزازية والوقحة، أساساً، بسبب غياب الرقابة والمعارضة والمحاسبة، سواء من خلال مؤسسات السلطة نفسها أو من قبل المواطنين في تشكيلاتهم المنظمة أو غير المنظمة، الحزبية والمدنية. هذا ما يطرح، مجدداً، الانخراط في بحث جدي لأزمة العمل الوطني ولغياب مركز مُوحَّد ومُوَحِّد للاعتراض السياسي والشعبي. إن غياب مثل هذا المركز يترك فراغاً خطيراً في مجمل السياسة اللبنانية. وهو، قبل سواه، ما يغري الأطراف المقررة في السلطة، بفرض مسار مشوه واحتكاري وتسلطي وتعسفي يغذيه الفساد وتؤججه العصبيات وتفاقمه الفئوية والتبعية...
* كاتب وسياسي لبناني