نشر «معهد مونتان» الشهر الماضي تقريراً بعنوان «مصنع الإسلامويّة» أوصى في خلاصاته بتطوير تعليم اللغة العربيّة لوقف صعود الإسلامويّة في صفوف الشباب، وقد أثار ذلك جدلاً واسعاً في فرنسا. ترمي الدراسة إلى التفكير في وسائل مناسبة لمحاربة الأصوليّة، وفي حين استحسن وزير التعليم، جان ميشال بلانكر، مقترح تعزيز تعليم العربيّة (حيث قال إنّها لغة «شديدة الأهميّة» مثل الصينيّة أو الروسيّة، ويجب «تطويرها» و«إعطاؤها هيبة»)، أثار ذلك ردود فعل عدائيّة وعنصريّة لدى بعض النواب، ما يشهد على المناخ الأيديولوجيّ السام السائد في فرنسا منذ أعوام عدة. لكن تُظهر تصريحات نيكولا دوبون إينيون بالتحديد حيويّة الخطاب الهوياتيّ العنصريّ، حيث قال «بحجّة مقاومة الأصوليّة، نحن نحضّر لبداية أسلمة فرنسا، وأرى أنّ ذلك غير صحيّ. (...) أنا معاد بشكل كامل لتعريب فرنسا وأسلمة البلاد». في كلّ مرّة يثار فيها سؤال تطوير تدريس العربيّة المشحون أيديولوجيّاً، ينظّم المقاولون الهوياتيّون حملة تشويه وشائعات لإدانة الخطر الإسلامويّ الذي يعرّض الهويّة الفرنسيّة للخطر ويهدّد القيم الجمهوريّة.
عام 2016، وجدت وزيرة التعليم السابقة، نجاة فالو بلقاسم، نفسها ضحيّة نقد هستيريّ لاقتراحها إلغاء برنامج «تدريس اللغات والثقافات الأصليّة»، الذي يتم خارج ساعات الدراسة، لمصلحة تشجيع تعلّم العربيّة في «إطار عاديّ أكثر». وفي حين لم يجد تدريس العربيّة صدى من الناحية العمليّة في ظلّ محدوديّة فرص التعلم (انخرط في فرنسا 567 طفلاً فقط يدرسون بالمرحلة الابتدائيّة في دروس اللغات الحيّة في المدرسة خلال العام الدراسيّ الماضي، وهو رقم بعيد عن الأرقام التي قدمتها وزارة التعليم)، تحوّل تطوير تعليم العربيّة إلى رهان سياسيّ حقيقيّ في بلد مستمسك بمراجعه الهوياتيّة.
مع ذلك، لم يكن التصوّر المهيمن بأنّ العربيّة حامل للإسلامويّة، الذي يبرز في تصريحات دوبون إينيون بشكل لا لبس فيه، منتشراً دائماً ضمن التمثلات الجماعيّة. إذ رغم الإرث الاستعماريّ الثقيل الذي أبقى العربية، لمدة طويلة، في مكانة دنيا بالمقارنة مع اللغة المهيمِنة، وحطّ من قيمتها لمصلحة اللغات الأجنبيّة الأخرى في فرنسا، بُذل بداية السبعينيات جهد سياسيّ حقيقيّ لدمج تعليم العربيّة في صلب المدارس الابتدائيّة ضمن إطار الاعتراف بالتنوّع اللغويّ الذي أُقرّه مرسوم 2 شباط 1973.
اعتمدت المقاربة بين الثقافيّة التي سادت خلال تلك الفترة على فكرة أنّ تقديم العربيّة في المدارس العموميّة الفرنسيّة للأطفال المنحدرين من المهاجرين يمكن أن تمثّل عاملاً مساعداً لإجادة اللغة الفرنسيّة. كما يساهم تدريس العربيّة في إيجاد توازن نفسيّ وتماسك عاطفيّ واجتماعيّ مع العائلة والمحيط الأصليّ، ما يساعد على إضعاف المطالبات المتركزة حول الاعتراف بالاختلاف وييسّر الاندماج. لكن انطلاقاً من الثمانينيات، تشدّد المنطق الاستعماريّ في إدارة الهجرة بغاية تغيير المحيط الاجتماعيّ والسياسيّ والأيديولوجيّ، ما نقل النقاش الذي كان متركزاً حتى ذلك الحين حول مفهوم الاندماج نحو إشكاليّة الهويّة الثقافيّة، وهو ما حوّل النظرة تجاه ظاهرة الهجرة من مورد إلى أمر مدان باعتبارها السبب العميق لشقاء المجتمع الفرنسيّ.
ضمن هذا الخطاب الجديد حول الاندماج، الذي يصوغ في الواقع تمثّلات أكثر تجذّراً، تُربط إشكاليّة الهجرة على نحو مشدّد بالإسلام والعلمانيّة. ففي ما يخصّ مسألة الحجاب في المدرسة مثلاً، يُقال إنّ الحاجز الذي يعوق الاندماج دينيّ وثقافيّ ــــ أي أنّ الإسلام، في جوهره، عصيّ على القيم الديموقراطيّة والعلمانيّة، ويمثّل عائقاً أمام اندماج المهاجرين. ويُنظر لتدريس العربيّة على أنّه حامل أساسيّ للأسلمة، ويصير هو أيضاً إشكاليّاً. يتمّ كلّ ذلك رغم أنّ أسلمة العادات وأساليب العيش من خلال تعلّم العربيّة، كما يدّعي دوبون إينيون، أمر معاكس للتحليل الواقعيّ. فمن ناحية، نجد أنّ السلفيّة تمثّل نمط تديّن متكيّف مع سياق العولمة، تحوّل إلى تيار عبر ــــ وطنيّ خالٍ من أيّ إرث ثقافيّ عربيّ، ويلاقي نجاحاً لامعاً منذ بضعة أعوام.
ومن ناحية ثانية، يعترف المختصون في «الإسلامويّة» بأنّه يوجد عدد من الشباب الإسلامويّ لا يتحدث العربيّة، ولا يحفظ القرآن، ولا يتبنى الأيديولوجيا الإسلامويّة إلا لأنّها تجسّد رغبته في الانتقام. إذاً، تُعزّز ديناميتا الهوس الهوياتيّ والأمنيّ بعضهما البعض لنشر الالتباس وتغذية التنميط العنصريّ. خلف مظاهر الخطاب العلميّ، تتخفّى أيضاً الحجّة المبتذلة بأنّ العربيّة لغة متخلفة تقتصر على المقدس وتوجد على هامش التقدّم، حيث يعكس التأخر التنمويّ للعالم العربيّ «الفقر الثقافيّ» و«الروحيّ» و«اللغويّ» للمجتمعات العربيّة. اللغة العربيّة مؤسسة اجتماعيّة، مرتبطة بشدّة بتاريخ المجتمعات العربيّة وتطوّرها، ما يعني أنها نشطة وتتطوّر باستمرار، أما أسباب «إعاقات» هذه اللغة التي احتلت لمدة طويلة مكانة اللغة العلميّة السائدة قبل أن تُبعد لمصلحة اللغات الأوروبيّة التي صارت مهيمِنة، فهي خارجيّة وتعكس تبعيّة المجتمعات العربيّة التي هُرست لمدة طويلة تحت ثقل الاستعمار والإمبرياليّة الغربيّين.