من سيبني المدينة؟ أعلنت السعودية عن عدد كبير من القطاعات الاقتصادية في «نيوم». هذه القطاعات إما أن تخدم البنية التحتية في المدينة نفسها، وإما أنها تستخدمها كمراكز عمليات وتنفيذ وتسويق لغايات تصدير المنتجات لاحقاً، ولا سيما أنّ قوانين الضرائب والاستثمار هي قوانين خاصة لا علاقة لها بقوانين الدول نفسها. تشمل هذه القطاعات صناعات رقمية، والمياه والطعام والإعلام والمنتجعات السياحية وصناعات حديثة وتقنيات حيوية وتكنولوجيا متطورة تصل حدود الاعتماد في المهمات الروتينية على الروبوتات. لكن يبقى السؤال الأهم: من سينفذ كل ذلك؟ مال النفط أم ابتكارات الشركات، أم كلاهما؟ هل ثمة غلبة لأحدهما على الآخر بعد انقضاء حقبة الاقتصاد النفطي أو بعد الانتقال من مرحلة التأسيس إلى مرحلة التشغيل؟
تكلفة بناء المدينة المقدرة بـ500 مليار دولار تتأتى من هنا بالأساس، من المبالغ التي ستدفع للشركات العالمية التي ستبني المدينة. ستعبّد الشركات الفرنسية 1000 كم من الطرق بالخلايا الشمسية، وستُستخدَم سيارات جديدة، وتُستخدَم الطاقة الكامنة في هذه الطرق للإضاءة. توربينات الرياح اللازمة لتوليد الطاقة الكهربائية ستُزوَّد عبر الشركات البريطانية، وحتى تكتمل الصورة السياحية سيُعتمَد على سفن كروز السياحية، كذلك ستُزوَّد المدينة بجسور مشاة عالية تربط بين البنايات الضخمة عبر شركات هولندية تستخدم الطابعات الثلاثية الأبعاد. وتعرض الشركة الأميركية Transit x خدماتها لتأمين شبكات مواصلات قائمة على الـpods، وهي مركبات صغيرة تعمل بالطاقة الكهربائية لا تستخدم الطرق المعبدة، وترتفع عن الأرض، ما يجعل هذه الحجرات الكهربائية تؤمن خدمات التنقل بخصوصية المركبات الصغيرة، والتخلص من أزمات السير التي تتجنبها الدراجات الهوائية. ابتكار جميل تستعد الشركة الأميركية لتقديمه من دون تمويل حكومي، ولكن بثمن شراء وبدلات صيانة وأجور تنقل ورغبة في ضرائب منخفضة على الاستثمار، ولم لا؟ ففي التصريح الصحفي المنشور على الموقع الرسمي للمشروع، المستثمرون هم شركاء في صياغة أنظمة المدينة وقوانينها!
القصور الملكية الخمسة التي ستصمّم على الهيئة المغربية ستبنيها شركات ابن لادن والسيف للإنشاءات، بمليارات مخصصة من ميزانية المشروع. ستبنى هذه القصور على أكتاف عمال البناء المصريين أو الآسيويين الذين قد لا يتمكنون من دخول المدينة حال إنهاء مهمات البناء. ستنفق المملكة المليارات على تكاليف شركات الإنشاء السعودية والعربية والعالمية، وستنفق المليارات على عطاءات الشركات التكنولوجية والصناعية الحديثة – الأوروبية والأميركية بالضرورة - وبذلك ستكون القصة الاقتصادية لمرحلة التأسيس – مثل الكثير من المشروعات الاقتصادية – مرحلة إنفاق فقط، وكل ذلك مرهون بآمال الربح في مرحلة التشغيل، فمن سيجني أموال تلك المرحلة؟
حسب منشورات الموقع الرسمي، فإن المملكة، لاسترداد التكلفة التأسيسية الباهظة، تعتمد على المسارات الآتية:
أولاً، إيقاف تسرب الاستثمار السعودي إلى الخارج، وتوجيهه إلى «نيوم»، ثانياً: إعادة توجيه النفقات السعودية السياحية في الخارج إلى «نيوم»، التي تصل إلى 15 مليار دولار ينفقها السعوديون في الخارج، ثالثاً: التعليم والصحة التي ينفق فيها السعوديون 15 مليار مماثلة في الخارج أيضاً، رابعاً: الاعتماد على الاستثمار الخارجي في توفير فرص العمل.
إن المقاربة الاقتصادية أعلاه تنطوي على خلل كبير، وهي المقارنة بين مرحلتين زمنيتين مختلفتين، مع الحفاظ على شروط واحدة منها، وكأنها مستمرة بلا توقف. كان الشعار الاقتصادي الكبير الذي اختبأت خلفه دواعي تأسيس المدينة الضخمة، هو الانتقال بالسعودية من مرحلة الاقتصاد القائم على ريع النفط إلى اقتصاد جديد، عدّته هي اقتصاداً منتجاً. ولكن كيف للسعوديين أن يتعالجوا في «نيوم» في حال انقطاع ريع النفط؟ ومن منهم سيملك الأموال الكافية للاستثمار فيها؟ ومن منهم سيتلقى المنح النفطية للدراسة والعلاج في الخارج؟ وفي الجانب الآخر، هل الجهات العاملة في «نيوم» لتوفير هذه الخدمات، جهات سعودية أم عربية بالضرورة؟ وكيف ستستفيد الدولة من عوائد خدماتها مع قوانين استثمار مشجعة من ناحية الضرائب بالتحديد؟
يأمل القائمون على المشروع توفير المزيد من فرص العمل عبر المزيد من الاستثمار، وهو ما يعود مرة أخرى لتشبيه المرحلة المقبلة بمرحلة النفط الراهنة، فالشركات العالمية التي قبلت بنتائج قوانين السعودة وضمّت شكلياً إلى كوادرها قوى عمل سعودية غير مؤهلة، كانت تعوّض ذلك عبر البقاء في السوق السعودي المستهلك صاحب القوة الشرائية القوية، المسنودة أساساً على ريع النفط! ولكن لماذا تقبل الشركات المستثمرة في «نيوم» بذلك من دون مقابل متاح في المرحلة النفطية، وقد لا يكون متاحاً قريباً؟
تأمل المملكة توفير 70 مليار دولار من الواردات مثل السيارات والمعدات التقنية التي تأمل أن تُصنَع في «نيوم»، ولكن كيف يمكن اعتبار السلع القادمة من «نيوم» ليست وارادات بالمعنى التجاري؟ ألن تُشترى من الشركات المصنعة؟ أليست تلك الشركات المصنعة شركات عالمية ستقدم خدماتها في إطار خططها الربحية نفسها؟ هل حقاً تشكّل الـ70 مليار فروقات خدمات الشحن؟
إن التكنولوجيا التي سيجري تجميعها وتشغيلها – لا أقول تصنيعها أو ابتكارها، لأن مراكز التصميم والابتكار تبقى دائماً في المراكز الصناعية في الغرب – هي شكل من أشكال التكنولوجيا الإحلالية Disruptive Technology. إنها تماماً مثل هاتف غراهام بل، تنقل البشرية من موقع إلى آخر، وتغيّر الوضعية من صفر إلى واحد، وخطورة هذه التكنولوجيا في المستقبل أنها تستغني عن الأشكال السابقة وتلقيها في البحر، تماماً مثلما فعل هاتف غراهام بل بوسائل الاتصال السابقة. والسؤال الاقتصادي هنا، كيف ستدفع السعودية ثمن ذلك في مرحلة ما بعد النفط؟ هل ستتمكن عبر «الأرباح» المذكورة أعلاه من شراء التكنولوجية الجديدة؟ من سيقي المدينة الضخمة على قيد الحياة عندها؟ إنه من يمتلك التكنولوجيا!

«إسرائيل» في «نيوم»
فشل الكيان الصهيوني على مدار عقود في تصفية القضية الفلسطينية ديموغرافياً، وهو ينتقل الآن إلى مرحلة الفضاء السيبراني، والدور الذي يريد أن يؤديه في المنطقة هو نقطة التحكم التكنولوجية (Technical hub). من المرجح أن تكون عقود السرية التكنولوجية (cyber security) في مدينة «نيوم» من تنفيذ الشركات الإسرائيلية التي تستحوذ على ربع حصة السوق العالمية في هذا المجال بالتعاون مع عدد من الشركات الكبرى في العالم، الأمر الذي سيضع المنشآت الرقمية في المدينة الضخمة تحت سيطرتها، وأكثر من ذلك أنها ستضع المنشآت العربية في المستقبل تحت سيطرة «غير مباشرة» لها، خلف عنوان شركات عاملة في «نيوم».
ليست المنتجات الرقمية وحدها ستزيد من صعوبة مهمات حملات المقاطعة ضد البضائع الصهيونية، فالكثير من المنتجات الموسومة بـ«صنع في نيوم» ستكون موضع شبهة، ويتناسق ذلك مع إشارات الجغرافيا السياسية التي تزامنت مع إعلان تأسيس المدينة، ابتداءً من ضم جزيرة تيران الواقعة في طريق توسع المدينة، وانتقاء خليج العقبة للاقتراب من إيلات، التي يستكمل بعدها الطريق في العمق البري عبر سكة الحديد. لمشروع «نيوم» وجه جغرافي سياسي يتمثل في دمج «إسرائيل» في المنطقة عبر هذه البوابة الاقتصادية. ولغايات هذا الدمج، لن تستقل المدينة بأنظمتها اقتصادياً فقط، بل اجتماعياً أيضاً، فشعار المدينة التي تضم جميع المبتكرين من كل أنحاء العالم، والبيئة الآمنة والهادئة، هي الاسم المستعار لدمج «إسرائيل» اجتماعياً في المنطقة، والانتقال الاجتماعي الذي تتناوله وسائل الإعلام في السعودية، هو مشروع الدمج الناعم بين أيديولوجيا الوهابية التكفيرية الإجرامية وتطبيع العلاقات مع «إسرائيل» في بيئة اجتماعية تسمح لهذا الاندماج بالتشكّل.
ثمة قصة ديموغرافية جديدة في «نيوم»، والكيان الصهيوني حاضر فيها أيضاً، فالسكان الأصليون للمناطق التي لن تتوقف عند حدود الخريطة الحالية (حيث من المتوقع أن يُقضَم المزيد من أراضي الجنوب الأردني) معرضون للتهجير لحساب المنشآت الجديدة، وحسب التصريح الرسمي للهيئة المشرفة على المدينة سيُعوَّضون استناداً إلى أرقى المعايير المقبولة دولياً. من المتوقع أن يسكن المدينة مليون ونصف مليون شخص بحلول عام 2030، هؤلاء هم الطبقة العاملة التقنية الجديدة، ومنهم الكثير من الكهنة الجدد، أما المهمات الشاقة والمتكررة التي يراهن السكان البسطاء على العمل فيها، فستوكل إلى الروبوتات التي حسب تعبير الهيئة الرسمية نفسها، قد يتجاوز عددها التعداد السكاني للبشر.
أملان معقودان على تجربة المدينة الجديدة، الأول هو الانتقال من مرحلة اقتصاد النفط. وفي العودة إلى ظلال المفكر الكبير سمير أمين، وفي حديثه عن تجربة دبي في كتاب «اشتراكية القرن الحادي والعشرين»، فإن المنجزات الاقتصادية التي تبقى مرتبطة بمنظومة العولمة الرأسمالية لا أمل لها في الاستقلال، بما أنها لا تمتلك التكنولوجيا الخاصة بها ولا تستطيع الاستفادة من مواردها الطبيعية بيدها، ولا تنعتق من سيطرة المنظومة المالية القائمة على الدولار. قد تحقق «نيوم» أرباحاً مالية في قطاعات ما، ولكنها لن تتمكن من تشكيل بديل لاقتصاد النفط، وستنتقل السعودية معها من بائع نفط إلى مؤجر عقار للشركات الكبرى. أما الأمل الثاني من المدينة، وهو الأخطر، ففرض الهيمنة الصهيونية عبر بوابات التكنولوجيا و«صنع في نيوم».
* كاتب أردني