يتقاذف أطراف السلطة، الأساسيون منهم بشكل خاص، المسؤولية عن تعثّر إخراج تركيبة الحكومة إلى النور. يمكن القول إن الجميع، في هذا الصدد، على حق لجهة التشارك في المسؤولية عن التعثّر، وتقريباً وفق الاتهامات نفسها التي يطلقها كل فريق ضد منافسيه في السياسة أو في السعي لكسب أكبر وأدسم حصة ممكنة من الحقائب: كماً ونوعية!عموماً، «الفجعنة» المنفلتة من كل إحساس بالمسؤولية أو الواقعية تكاد تطبع الجميع في الغالب الأعم من المطالب والمواقف. وهكذا يسعى معظم أطراف اللعبة السلطوية إلى رفع سقف المطالب وتضخيم الأحجام. ولا بأس في مجرى ذلك من أن يرفعوا شعاراً واحداً وأن يكرروا الموافقة على اعتماد مقياس واحد أو موحَّد، لكنهم في الوقت نفسه ينسفونه عبر صيغ تطبيقية مقلوبة: فئوية ومبالِغة وطموحة!
يقف في طليعة المتهمين بالعرقلة الفريق الذي استبق بالقول إن الحكومة العتيدة هي، وليس السابقة، ستكون «حكومة العهد». هذا يعني، من دون أدنى شك أو تحامل، السعي إلى أن تكون حصة فريق وحزب وكتلة «العهد» راجحة ومقررة، عموماً، من حيث عدد الحقائب ونوعيتها.
استحضر فريق «العهد» مسألة «حصة الرئيس» بعد أن كان يرفضها لسواه، بوصفها ملاذ الضعيف الذي يأنفه «القوي». وها هو من خلال حصة الرئيس و«تكتل لبنان القوي» (التيار الوطني الحر وحلفاؤه) يطالب بأكثر من ثلث الوزارة. وهو يحاول، في الوقت نفسه، تكريس سابقات وتحويلها تقاليد راسخة في التأليف من نوع حصة الرئيس، كما أشرنا. ثم أيضاً، من خلال الحق في تسمية نائب رئيس الحكومة. وثالثاً، من خلال الحق في تسمية وزير إحدى الحقائب السيادية الأربع... على أن تكون السيادية الثانية من نصيب «تكتل لبنان القوي». وهكذا يستأثر هو بالحصة الأساسية المسيحية الكاملة!
حزب «القوات اللبنانية»، بدوره، يسعى إلى «هبج» ما أمكن. هو استمرأ السلطة بعد عزلة وعدم مقبو4لية. كذلك أيضاً، هو يضع عينه على منصب الرئاسة الأولى ولا يقبل أن يذهب رئيسه ومرشحه سمير جعجع، عبر الحكومة، إلى السباق الرئاسي وقد تقدم عليه الوزير جبران باسيل عبر احتلال موقع متقدم، بل وراجح، وحتى مقرر، في الحكومة المقبلة.
بدوره، يخوض رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط معركة الاستحواذ على كامل التمثيل الدرزي بعد أن كان يبدي الكثير من التسامح حيال حضور منافسه الأول، في وسطه، (الأمير طلال أرسلان) في الحكومة. يزيد من تعقيد التمثيل الدرزي أن أرسلان قد عقد تحالفاً مع «العهد» وبات، بحكم التباينات والخلافات بين الرئيس عون وجنبلاط، في موقع مغاير تماماً لجنبلاط. بل إن فريق العهد هو الذي يخوض معركة أرسلان ويضعها في سياق رفضه لحصر تمثيل أي فريق بطرف واحد منه، بذريعة التخوف من تعطيل مجلس الوزراء (حين وقوع خلاف كبير)، تحت عنوان فقدان «الميثاقية» الطائفية المسماة زوراً بالوطنية!
تيار المستقبل ورئيسه، رئيس الحكومة المكلَّف، يعاني من مشكلة التوفيق بين المتصارعين والمتنافسين. هو كان أبرم «صفقة رئاسية» مع التيار العوني. وهو كان قد ارتضى، تحت عنوان «التضحية» من أجل حل معضلة الفراغ الرئاسي الذي استمر أكثر سنتين، أن يكون شريكاً ضعيفاً مع «العهد»، وأن يكتفي من هذه الشراكة بتسيُّد السراي الحكومي والتشارك في مجموعة من الصفقات التي من شأنها تدعيم ما اهتزَّ من وضعه المالي: وهو كثير ومرهق ومتشعِّب!
في هذا المشهد المضطرب، يراقب «الثنائي الشيعي» الأمور بموقف غير موحَّد إلا حيال تمثيل هذا الثنائي، كالعادة، بأرجحية متواصلة لحركة أمل. يسعى حزب الله، من جهته، لجني ثمار تأييده الحازم لرئاسة الجنرال عون عبر مواقف وسياسيات رسمية، تراعي توجهاته الداخلية والتزاماته الخارجية. أما الرئيس بري، فهو في مكانٍ آخر، حيث يحرص على أن لا يخرج فريق العهد قوياً أو مهيمناً كما يسعى قطباه في الحزب وفي الرئاسة.
يمكن القول إن هذه هي العقد الأساسية التي تعترض تشكيل الحكومة. لا نهمل طبعاً وجود تكتلات أصغر تحاول أن تكون ممثلة، لكنها، واقعياً، غير مسؤولة عن العرقلة بالصورة التي تمنع فعلاً التشكيل كما هو الأمر بالنسبة إلى من تقدم ذكرهم.
هذه هي خطوط المشهد في شقه المحلي والداخلي، بشكل عام. لكن ثمة جانب آخر يتداخل معه ويزيد في تعقيده، وهو الشق الخارجي. هذا الشق هو سعودي بالدرجة الأولى، أو حتى سعودي حصراً في هذه المرحلة. المملكة كانت قد اختبرت دخولاً متفجراً على المسرح اللبناني عبر احتجاز الرئيس سعد الحريري وفرض الاستقالة عليه في مطلع تشرين الثاني الماضي. لم ينجح الأمر على هذا النحو. لجأت قيادة المملكة بعد ذلك إلى الضغط على رئيس الحكومة من أجل ممارسة نفوذها في لبنان، خصوصاً عبر التشكيل الحكومي المقبل. نجحت المملكة في تعطيل صفقة عون – الحريري – باسيل (كمرشح رئاسي مقبل ما استثار جعجع). نجحت، كذلك، في دفع الحريري إلى تبني خطها العام في تعزيز وضع حلفائها وإضعاف خصومها ما أمكن. عقَّد ذلك من ظروف التأليف بعد أن كان فريق العهد يعوِّل على تحييد الحريري لإضعاف خصومه السياسيين ومنافسيه الانتخابيين على كل المواقع في السلطة بشكل عام!
العقد الداخلية والخارجية قائمة ومتداخلة في ما بينها على كل حال. ثم إن هذه العقد جدِّية ومؤثرة في شقيها المحلي والإقليمي. وهي تشمل الجانب المتعلق بالسلطة وبالنفوذ، من جهة، وبالسياسات الداخلية والخارجية، من جهة ثانية. كل ذلك لا يلغي العودة إلى جذر المشكلة. وهي قائمة في تركيب السلطة والنظام اللبنانيين اللذين استقرا على تحاصص ذي بعد طائفي معزَّز بتحالفات مع الخارج، هي أقرب إلى تبعية كاملة، ما يؤدي إلى تعقيد المشهد وتعطيل تشكٌل أكثرية وأقلية على أساس سياسي. إن نظامنا السياسي نفسه هو مصدر الخلل والعقم الذي دفع إلى تشكيل دويلات في الداخل وبناء تحالفات مع الخارج للاستقواء ولتعديل التوازنات، وما ينجم عن ذلك من انقسام، وغياب المحاسبة، وإضعاف الدولة لحساب الدويلات، وتعزيز الولاء للخارج... إلى النهب والفساد وعدم الاستقرار والحروب... وعموماً: الى الإخلال بمجموعة المصالح الوطنية.
* كاتب وسياسي لبناني