يتغيّر العالم من حولنا نحن اللبنانيين. بل نحن في قلب هذه التحولات: نعيشها. نكابد قساوة مخاضها ونتائجها. لكننا رغم كل ذلك ما زلنا نكابر في عدم رؤية المخاطر، ونستمر في إدارة الظهر للتحديات، وفي تكرار سياسة النعامة. إننا نستأنف عبثنا وقلة هيبتنا إلى درجة أننا أصبحنا بلد النفايات بعد أن كنّا بلد الأرز! لقد اعتدنا حضور «الزبالة» في حياتنا اليومية. ألفنا مشهدها المقزز في شوارعنا وزوايانا وفي أعين وأنوف أطفالنا وضيوفنا. نعتدي، من دون وازع قانوني أو أخلاقي أو حضاري، على جمال طبيعة بلدنا، وعلى شروط تقدم مجتمعنا، وعلى سلامة العلاقات بين المواطن والدولة والمواطن والمواطن، والمواطن والضيف أو الجار أو العدو... نشوِّه العلاقات ونطيح المعادلات ونبتكر المناورات... كل ذلك من أجل فئوية جامحة وفردية مفرطة ومفرِّطة ومصالح خاصة لا تعرف حدوداً أو ضوابط أو اكتفاء.
يقف باراك أوباما، رئيس أكبر دولة في العالم، ليعلن بكل بساطة وشجاعة: «سفك الدماء الأميركية وتبذير الأموال الأميركية سيؤديان، في النهاية، إلى إضعافنا. هذه هي دروس فييتنام والعراق». يقرر هذا الرئيس أنّ للجشع والتسلط حدوداً، وأنه لا يجوز تدفيع أمة، أو العالم بأسره، ثمن جنون حفنة من خدمة الاحتكارات، فكيف إذا كان هذا الثمن يعني إزهاق أرواح الملايين من البشر، وتدمير العديد من البلدان، وتشويه وتبديد الأساسي من القيم والكنوز الإنسانية والحضارية. لا يعني ذلك أن السياسات الأميركية ستتغير جذرياً. لكن الذي بدأ يتغير فعلاً إنما هو الأساليب التي تتدارك الإفراط والمبالغات والأنانيات القاتلة... وبديهي أن ذلك لم يكن ليحصل لولا المقاومة والرقابة والنقد والتنافس والتداول.
لم يحصل في بلدنا، منذ التجربة الشهابية (التي تم وأدها سريعاً)، أن اتخذت الفئة الحاكمة قراراً بحجم مصالح الوطن ومستلزمات وحدته وتطوره وسيادته. ما بلغناه الآن من التردي، إنما هو نتيجة مسار طويل «صمد» فيه الحكام أمام ضغوط شعبية مديدة، وأجهضوا بعض المحاولات الإصلاحية المحدودة، من داخل السلطة، إذ أن هذه المحاولات قد ارتطمت سريعاً بالجدار السميك لنظامنا السياسي، أي بالخلل الذي يحكم نظام علاقاتنا واجتماعنا وإدارتنا وبالقوى المستفيدة من كل ذلك.
الغريب أنه كلما تبيّن الحجم الخطير للأضرار الناجمة عن صيغة المحاصصة التي نتحكم بكل مفاصل حياة اللبنانيين (وصولاً إلى الفشل والشلل شبه التامين)، تمسّك المحاصصون القدماء والجدد بالنظام السياسي الراهن ولو أدى ذلك إلى سقوط الهيكل على رؤوس الجميع.
هل صادف أن بلداً عانى ما عاناه لبنان وأهله من حروب أهلية وعدم استقرار وتفكك وانقسام وتشرذم ونهب وفساد وتبعية وأخطار داهمة أفدح وأعظم... ورغم ذلك واصل حكامه سياساتهم ومواقفهم، باستهتار ولا مبالاة، وكأن الأمر لا يعنيهم من قريب أو بعيد؟! لقد شارف ديْنُنا العام الفعلي على ماية مليار دولار. ورغم ذلك لا نجد ضيراً في أن نواصل الإنفاق التحاصصي، المقرون بكل أشكال الوقاحة، طلباً للمزيد من الصفقات والسرقات والنفوذ والمواقع... ما معنى أن تباشر دولة عدوة، نسميها «مسخاً»، الاعتداء على ثروتنا النفطية الكامنة، بعد أن أنجزت كل الخطوات الضرورية للاستخراج والتسويق، بينما نحن نتحرك ضمن «بلوكاتنا» الطائفية والمذهبية بطريقة لا يمكن النظر إليها إلا بوصفها تفريطاً صارخاً بالمصلحة الوطنية بما يعادل الخيانة الوطنية وليس أبداً أقل من ذلك!؟
ينبغي القول، بكل وضوح، إن نظام المحاصصة القائم هو المسؤول عن كل ما أصاب البلد من كوارث ما زالت تتفاقم حتى الآن. وينبغي القول، بحزم أكبر، إن الإصرار على إبقاء هذا النظام حاكماً للعلاقات ولمجمل شؤوننا العامة، سيؤدي إلى المزيد من الخسائر والتدهور والفشل. وها نحن الآن نجازف، من دون أدنى شعور بالمسؤولية، بالإطاحة بما تبقى من عوامل وحدة واستقرار وتقدم وطننا ومجتمعنا. إن ما يجري أمام أعيننا من إمعان في دفع صيغة المحاصصة إلى حدها الأقصى سيؤدي، من دون أدنى شك، إلى تهديد وجود لبنان نفسه! ليس هذا كلاماً للتهويل. إنه واقع نعيش تسارع خطواته يومياً من خلال الشلل والعجز والفئويات والتبعية. وسيكون من سابع المستحيلات، في ظل هذه الشروط، أن لا تضيع قضايا العامة وسط هذه الفئويات المستشرية والانقسامات المتفاقمة وانعدام الشعور بالمسؤولية الذي يقارب الخيانة الوطنية... لقد جرى التحذير مراراً من أن تستخدم العناوين التي تكتسب معنى القداسة في مجرى الصراع على السياسات والمصالح الخاصة والفئوية والذاتية. لكن ذلك يحصل، مرة جديدة، وعلى نطاق واسع، رغم ما أدى إليه هذا النهج من نتائج كوارثية، داخلية وخارجية، بلغت حدودها القصوى مع نشوء وتفشي الإرهاب الذي تعاني منه منطقتنا والعالم الآن ولسنوات ستكون طويلة كما تشير كل التقديرات الجدية. لا تستطيع المجتمعات التي تعاظم انقسامها بسبب سياسات ومصالح فئوية وذاتية وبسبب العجز عن بناء حد أدنى من الوحدة الوطنية، أن تمتلك مشروعاً واعداً للتقدم أو للتحرر أو للمنافسة. هذا فضلاً، طبعاً، عن أنها لا تستطيع مواجهة التحديات وهي اليوم في ذروة خطرها على الجميع من دون استثناء.
الانقسام المذهبي الراهن هو سلاح أدمنت استخدامه فئة داخلية تتوخى تحقيق مصالحها بأي ثمن. وهو، في الوقت نفسه، أداة فعّالة يغذيها ويستخدمها الأعداء الطامعون وفي مقدمهم حكام دولة الاغتصاب الصهيوني، وقبل هؤلاء وبعدهم المستعمرون أصحاب المشاريع المتلاحقة والمتناسلة للسيطرة على منطقتنا وثرواتنا ومصائرنا بكل الوسائل، وخصوصاً منها إثارة الفتن وافتعال النزاعات والتقاتل والحروب الداخلية.
الأنكى أنه بشأن معالجة فضيحة وأزمة النفايات، وكذلك تعطيل أو تفعيل المؤسسات، لا يتردد البعض في طرح مطالب وشروط بعيدة كل البعد عن الإصلاح المنشود أي الإنقاذي الذي جوهره إصلاح الخلل في النظام السياسي بتحريره من المحاصصة الطائفية والمذهبية. هذه المطالب تشترط مثلاً إقرار قانون انتخابي ذي طابع طائفي محض. إلى أين يقود ذلك؟ سيقود حتماً، وفق المشهد المضطرب الراهن على مستوى لبنان والمنطقة ككل، إلى نزاعات وانقسامات لا تنتهي: لرفض التوازنات القائمة أو للحفاظ عليها. وسيتحول العدو الإسرائيلي في لبنان، وبالنسبة إلى البعض، مرة جديدة (كما يحصل على صعيد بعض حكام المنطقة)، حليفاً وضامناً وحامياً!
لا يجوز استمرار المساومة والمناورة في مسائل خطيرة من هذا النوع. الإنجازات المحدودة (والعظيمة في حقل المقاومة ضد العدو الصهيوني) تضيع اليوم في خضم الصراع والشلل والتعطيل والتكالب على المكاسب والمناصب ولو كان الأمر بحجم تعيين ضابط أو موظف، من الأتباع، هنا وهناك.
هل يرتفع المعنيون إلى مستوى المسؤولية ليرتفع معهم لبنان، أو أنه سيواصل السقوط بسقطاتهم المتواصلة، نحو... الهاوية؟
مرة جديدة، دور قوى التغيير الوطنية الديموقراطية التحررية، شبه الغائب منذ سنوات، بات استحضاره وتفعيله اليوم مهمة ومسؤولية وطنية كبيرة.

* كاتب وسياسي لبناني