في الفيلم الدعائي الجديد الذي صنعه ستيف بانون، من أجل استثارة وتحشيد القاعدة اليمينية في اميركا قبيل الانتخابات التشريعيّة، تقتصر الدقائق الخمس الأولى من «الوثائقي» (اسمه «ترامب في حرب») على مشاهد لمؤيّدين لترامب يتمّ ضربهم والاعتداء عليهم من قبل متظاهرين خصوم، وسياسيّين واعلاميّين يسخرون من معسكر ترامب ويصفون أتباعه بأقذع السّمات. بعد ذلك، يكرّس الفيلم فكرةً واحدة لدى المشاهدين المتعاطفين، أنّ هذه «النخبة» الليبراليّة التقليديّة، التي تحكمت طويلا بالإعلام والثقافة وتقرير ما هو صوابُ في السياسة، تشنّ حرباً شاملة ضدّ ترامب وما يمثّله وأنّهم، لو فازوا في الانتخابات وحازوا أغلبيةٍ في المجلسين، فهم سيسعون مباشرةً الى خلع ترامب من الرئاسة، ووأد «حركته» وقمع مؤيديه.الفكرة هنا بسيطة، وقد نجح فيها بانون في السابق الى أبعد الحدود: أن تحوّل خيار ترامب الى شيءٍ يتجاوز مرشّحا وأجندة وسياسات، بل الى «حركة»، بمعنى «جماعة»، «شعب»، «هويّة». وهذه الـ«هوية» (الشعب الأميركي، العامل، الأبيض، التقليدي، الخ) تتعرّض للهجوم والظّلم والاحتقار، تاريخيّاً؛ لا أحد يفهمها والجميع يستغلّها، وهي لا بدّ أن تجد لنفسها صوتاً واسماً: دونالد ترامب. قد تبدو هذه «الوصفة الشعبوية» غريبةً وغير منطقية (ما علاقة الشعب العامل ومصالحه بدونالد ترامب؟ وكيف يخرج الأميركي الفقير من مشاكله لو أسقط «الصوابية السياسية» والنخبة الاعلامية القائمة؟) ولكنّها، في زيفها وأسلوب صناعتها ونشرها وتحويلها الى «حركة»، لا تختلف في العمق عن «سياسات الهوية» التي تحاربت في بلادنا في السنوات الماضية، وقتل النّاس من أجلها وقُتلوا، أو الحركات «الشعبوية» التي تخرج من أكثر مكانٍ في الغرب. كأنّما بانون قد فهم روح العصر وأمراضه وصمّم حركةً على شاكلته.

عن الأساس الاقتصادي للحياة البشرية
سنحاول مقاربة الموضوع من زاويةٍ مختلفةٍ تماماً، وفي مسألةٍ انسانيّة بحتة. نشرت كاتبة وناشطة اميركية اسمها آمبر الي فروست نصّاً جميلاً عن موضوع رعاية الأطفال والآباء المهملين. كانت الكاتبة تعلّق على كتاباتٍ لرفيقاتها (في الجوّ الأكاديمي الغربي الليبرالي) وهم يشتكون من معاناة النساء بسبب إهمال الآباء لأطفالهم وعدم اندماجهم في تربيتهم وترك المهمّة بأكملها للأمّ، وأنّهم لا يسدّون حاجة الأولاد أو لا يدفعون النفقة في حالة الطّلاق، وعلى الأمّ هنا أن تعاني المزيد وتنكلّف وتجرّ الأبّ المتهرّب الى المحاكم وأقسام الشرطة. المشكلة الأولى، تقول فروست، هي أنّ زميلاتها هنا لا يتكلّمن عن تجربتهنّ وأزواجهنّ (الذين هم في الغالب رجالٌ بيض، «ناعمو الأيدي» بتعبير الكاتبة، نسويّون، أكثرهم يتقاسم الأعمال المنزلية ويعطي الطفل اسم عائلة مزدوج - منه ومن أمّه - ويملأ الفايسبوك صوراً وهو يطعم طفله ويقرأ له القصص ويرافقه في نزهات المشي). هذه النساء الليبراليات تتكلّمن عن «الرجال الآخرين»، عن الذكوريين البطركيين المهملين الجلفين، عن الطبقة العاملة. هنّ يتّحدثن نيابة عن نساءٍ أخريات، تحت راية التضامن معهنّ، ويحلّلن مشاكلهن ويقرّرن الحلول.
هنا المشكلة الثانية، تضيف فروست، وهي في تحليل المشكلة وتقرير طبيعتها. هذه المشاكل حقيقيّة، ومعاناة النساء كبيرة، ولكن إهمال الآباء لأبنائهم ليس سببه أنّهم «ذكور» بل سببه، ببساطة، الفقر. انت لا تنخرط في تربية أولادك حين تعمل ثلاث وظائفٍ يدويّة، وتكون مرهقاً وخائفاً طوال الوقت، تلاحقك الفواتير والمسؤوليات. هذه حالةٌ نافرة من حالات التعالي الطبقي الليبرالي، هل يعتقد هؤلاء أنّ الرّجال لا يحبّون أن يربّوا أطفالهم وأن يرافقوهم وهم يكبرون؟ الدليل الإحصائي واضحٌ هنا، تكتب فروست، ولا يحتاج الى نقاش: في الدّول التي تقدّم أعطياتٍ اجتماعيّة، ولا تجعل من انجاب الأطفال عبئاً مادياً كبيراً على الأب والأم، ترتفع مساهمة الآباء في التربية بشكلٍ صاروخي. سيكون هناك دوماً آباء (وأمهات) لا يصلحن للإنجاب والتربية وأيّ شيء (والكاتبة تضيف بأن والدها كان منهم)، وهناك قلّة أخرى على مذهب ابي العلاء، ولكن بالنسبة الى الغالبية العظمى من النّاس، فإنّ الانجاب والتربية هي «من المباهج العظمى في الحياة»، تقول فروست، والاستثناء فقط هو من يتحوّل الى أبٍ مهمل طواعيّةً وبسبب ذكورته أو ثقافته، أو حتى يسهر كل ليلةٍ مع أصدقائه في البار.
أمّا حين تكون في بلدٍ قاسٍ، تلاحقك الهموم ولا تقدر على رعاية أولادك بشكلٍ لائق، وحين تخسر عملك وتلاحقك الديون وفواتير النفقة، وضباط المحكمة والشرطة وتدخل السجن، فإنّ نظرتك الى العائلة تتغير بالكامل. تقتبس فروست جملة بليغة «من الصّعب أن تحبّ طفلاً انت لا تقدر على رعايته»، وبخاصة حين يتمّ تذكيرك بهذا الأمر بشكلٍ مستمرّ ومهين. حين تقع في دائرة الديون - المحاكم - العجز، تقول فروست، كما يحصل مع الكثير من العائلات الفقيرة، فإنّه يصبح من «المنطقي»، بل من العقلاني، أن تترك كلّ شيءٍ خلفك وتفرّ.
النقطة هنا هي عن محدودية خطابي الهوية الأساسيين اللذين يتوجهان اليوم الى المجتمع. سواء ردّة الفعل «الشعبوية\اليمينية» أم ثقافة «اليسار الليبرالي» النخبوية. اليمين التقليدي يجيب على أزمة العائلة والأولاد الفقراء المهملين عبر الترويج للالتزام الديني و«العودة الى القيم»، باعتبار أن هذا، مثلاً، سيحلّ مشكلة الآباء الفاشلين، تكتب فروست؛ أمّا «اليسار الليبرالي» اليوم، فهو يجيب على هذه المشاكل عبر تقديم «قادة رأي» و«نشطاء» يلعبون دور «المنارة»، التي تشرح لك الصحيح من الخطأ، وكيف يجب أن نتكلّم وكيف تكون النسوية الصحيحة، الخ. في الحالتين، انت تظلّ خارج الميدان الاقتصادي والصراع الحقيقي في المجتمع، وتحمل مفهوماً «ثقافياً» أو رومانسياً بالكامل لمؤسسة العائلة والعمران البشري (كما تقول الكاتبة عن الفئة «النخبوية» وايديولوجيتها، فإنّ «من كانت مشاكله في الحياة دوماً رومانسية أو عائلية، وليست ماليّة، من السّهل أن يفترض أنّ أوهامه الغاضبة هي برنامج سياسي»).

«الفرضية الشيوعية»
في سياقٍ متغيّر وسائل، كالذي نشهده اليوم، تسقط المسلّمات التي حكمت المرحلة الماضية من التاريخ (من مسلمة تفوق النظام الاقتصادي الليبرالي، الى حتمية الديمقراطية، الى الارتباط بين النجاح الاقتصادي والنظام الايديولوجي). بعد أزمة 2008، لم يعد يمكن لأحد، مثلاً، المحاججة بأنّ هذا النظام الاقتصادي الذي هو حولنا «طبيعي» أو «عضوي»، ونحن نرى المال يُخلق أمام أعيننا، وحفنة من المصارف المركزية تهندس شكل «السوق». لا يجرؤ الكثير من النّاس اليوم، بضميرٍ مرتاح، أن يشهدوا بأنّ الرأسمالية تجلب الثراء والازدهار ولا بديل لها، فيما العالم تجتاحه الأزمات والانقسامات.
في حالاتٍ كهذه، نجد نمطين من «النقد» للنظام الرأسمالي السائد والبؤس الذي يسببه. هناك، على طريقة الماركسيين، من يستغلّ هذه المناسبات للتذكير بأنّ هذه طبيعة الرأسمالية، وأن لها قوانين ثابتة، وان اتخذت مراحل وأنماط انتاج مختلفة، وأنّ لا خلاص الا عبر إعادة النظر في النظام الاقتصادي من الأساس. من جهةٍ أخرى، تجد نقّاداً (وبخاصة مثقفي يسار الوسط في الغرب، أو سياسيين مثل بيرني ساندرز) يحاولون تجنّب هذه الخلاصة عبر التمييز بين «رأسمالية جيدة» و«رأسمالية سيئة»، وأن ما لدينا اليوم هو «رأسمالية سيئة»، متطرّفة، يحللون كيف وصلنا اليها (تغوّل النظام المالي، افلات السوق بلا قيود، رفع الضمانات الاجتماعية، الخ) ويجمّلون العودة الى «رأسمالية جيدة». في هذا الخطاب، هذه الأخيرة غالباً ما تكون نموذجاً تاريخياً من الماضي، مرحلة ازدهارٍ وتوزيعٍ حصلت في سياقٍ معيّن (اوروبا واميركا مثلاً، بعد الحرب العالمية الثانية)، يتمّ تقديمها كـ«نموذج» قابل للإحياء في ظروف اليوم، أو يسترشدون بحالات «خاصّة»، دول صغيرة ناجحة (كمثال اسكاندينافيا الذي استخدمه بيرني ساندرز، ملمحاً الى امكان استنساخه في اميركا) هي دليلٌ على أن الرأسمالية ليس من الضروري أن تكون «سيئة» ومتأزمة وتسحق البشر.
ما أودّ قوله هنا هو أنّ هذه اللحظات بالذات، حين «يُعاد فتح النقاش»، هي وقت طرح الأفكار الراديكالية، والفكرة الراديكالية الوحيدة في العالم اليوم هي الاشتراكية. سمّها ما شئت، شيوعيّة، مشاعيّة، تحريمٌ للكنز. افهمها على طريقة ابي ذرّ أو هادي العلوي أو كارل ماركس. «الفرضيّة الشيوعية»، كما يكتب آلان باديو، هي فكرة انسانية قديمة تسبق ماركس بكثير، وهي الحلّ الوحيد للبشرية. أفضل من يشرح هذا المفهوم ببساطته هو الصّديق محمود المعتصم، الذي يقول إنّ مبتدأ السياسة عنده، ببساطة، هو أنّ سيادة الملكية الفرديّة هي مشكلة المجتمع البشري. طالما هناك اقتصادٌ يقوم على التملّك، يضيف المعتصم، سيكون هناك أناسٌ - قلائل - يحتكرون أكثر الثروة (أو يميلون تدريجياً الى احتكارها)، وستكون هناك كثرةٌ فقيرة، محرومة، تهدر حياتها في الشقى والقلق بين رحى هذا النظام.
قوّة الفكرة اذاً، يخبرنا المعتصم، هي ليست في النظرية أو الايديولوجيا أو العلم، بل أنّ هناك فقراء وبائسين من حولك، وأنّ حياتهم من الممكن أن تكون أفضل بكثير، وأن لا يقضوا وقتاً قصيراً وصعباً على هذه الأرض، وبعضهم محرومٌ من أبسط حقوق الحياة ومتعها (ومن ضمنها الانجاب وتربية أطفالك، عدا عن «الحياة الجيدة» أو السلام الداخلي وهذه الأمور «الأخرى»). لو لم يكن هناك فقرٌ وبؤس معمّمين، لما كان لـ«الفرضية الشيوعية» أي ضرورة ومكان. بمعنى آخر، لو أنك ذهبت الى الدنمارك المعاصرة وحاولت اقناعهم بضرورة الشيوعيّة وإلغاء الملكية الفردية لسخروا منك بالطّبع، «انظر حولك، الأمور جيدة، هل ترى جياعاً ينامون في الشارع؟ وتريدنا أن نشنّ حرباً ثورية ونعلّق مشانق ونسحق طبقات؟».
من هنا، انت من المفترض أن يكون حمهورك الفقراء، هم أصحاب القضيّة، وهم من يفترض - كما يقول المعتصم - أن يقتنع بكلامك لو شرحت له أنّ الحال الصعبة التي يعيشها، والحرمان والخوف والقلق، ليست أموراً مقدّرة ولا هي «طبيعة العالم»، بل هي بسبب نظامٍ غير عادلٍ يقهره، وأنّه من الممكن له ولأولاده أن يعيشوا حياةً مختلفة تماماً («من المفترض» أن يقتنع معك، أي لو كنت تملك القدرة على شرح فكرةٍ بسيطةٍ كهذه بشكلٍ واضح، و«من المفترض» أن لا يقول لك أنّه يفضل حياته القائمة على الاشتراكية ومجتمعٍ عادل).

خاتمة
هنا «الحلّ النهائي». هنا الإمكانية الوحيدة لبناء مجتمعاتٍ انسانية لا تتصارع وتبيد بعضها البعض من أجل النفط والأرباح. هنا الفرصة لإعادة النظر بمفهوم الانتاج والاستهلاك، وما يحتاجه الانسان حقّاً لكي يعيش - ويترك غيره يعيشون ايضاً. هنا يمكن أن تحلم بانسانٍ «حرٍّ» بالمعنى الحقيقي، ولا تكون الحرية والحقوق والحياة «الحقيقية» ملكا لحفنة من المحظيين على هذا الكوكب (كما لاحظ الاقتصادي علي القادري، فإنّ الايديولوجيا الليبرالية المعولمة تتحوّل، في عصرنا، الى «حقوقٍ تتمتّع بها حصراً الفئات التي تقدر على تحمّل كلفتها»). هذا الهدف لا يرتبط بنظرية أو بخطّةٍ معيّنة، ولا بأغلب الأحزاب «الشيوعية» القائمة - تحديداً العربية منها (هذا موضوع طويلٌ آخر، ولكنني لا أفهم أن يكون هناك حزبٌ شيوعيّ لا يطالب بالشيوعيّة، ولا تكون هذه هي علّة وجوده وبرنامجه، وعلى أساسها، قبل كلّ شيء، يُقاس ويقيّم. هل المسألة مسألة «تراث» و«ماركة»؟). لا أحد يعرف شكل الاشتراكية الجديدة بعد، ولا هي ستشبه ما سبقها (التكنولوجيا الحديثة وحدها، مثلما أخذت الرأسمالية الى مكانٍ متطرّف، قادرة على بناء أنظمة اشتراكية لم يكن من الممكن تخيّلها في السابق).
حتّى على المستوى الدولي، ولو هُزمت الامبراطورية الأميركية، وصعدت الصّين مثلاً على هئية قوميّة رأسمالية، فإلى اين سنصل في نهاية الأمر؟ وهل تعتقدون أنّه، في النظام الرأسمالي الحالي، من الممكن أن تخرج توليفة عالمية جديدة تعاف الدول فيها (من تلقاء نفسها) الاستغلال والتوسّع، وتقيم «رأسمالية عادلة»؟ سنظلّ في اطار هوياتٍ تتنافر وتحاول أن تحوز لأهلها على الأفضلية على حساب الباقين. بل لا أحد يضمن أن لا ينتهي أي تغييرٍ في النظام العالمي الى نتائج مأسوية على حساب البشرية ككلّ (هؤلاء الأميركيون ليسوا مثلنا، وهم لم يعتادوا على الهزيمة والانحدار، وليس لدينا فكرة عمّا سيفعلونه وقتها).
حتى نقتبس علي القادري مجدّداً، فهو لديه مقولة بأنّ جملة لينين الشهيرة عن «الامبريالية آخر مراحل الرأسمالية» قد تكون صحيحة، وإن بمعنى مختلف عن الفهم التقليدي له - أي أنّ الاشتراكية ستتلو الرأسمالية بعد هذه الحقبة. حين تراقب تدهور البيئة ووضع الكوكب، وكمية الهدر في الانتاج والاستهلاك، يقول القادري، تفهم أنّ الامبريالية ستكون بالفعل «آخر مراحل الرأسمالية»، حتى وإن لم يستبدلها نظامٌ أفضل، اذ أنّ طغيانها الكامل سيعني نهاية البشرية وأنها ستكون آخر حقباتها.