أدى تسبّب إسرائيل عن عمد في إسقاط الطائرة الروسية في سوريا مع ما سيترتب عنه من نتائج وتداعيات على العلاقات الروسية - الإسرائيلية، وعلى موقف روسيا من الصراع الدائر في سوريا بين محور المقاومة وإسرائيل، إلى الكشف عن مدى حماقة القرارات التي يمكن حكومةَ بنيامين نتنياهو أن تتخذها نتيجة لمزيج من الغطرسة التقليدية، ومن الشعور بالقلق والارتباك من التحولات في ميزان القوى العسكري الإقليمي. الحذر من الحماقة الإسرائيلية مبرر، وهو ما يفسر الجولة الميدانية للدبلوماسيين العرب والأجانب التي نظمها وزير الخارجية جبران باسيل لتكذيب ادعاءاتها عن مخازن صواريخ حزب الله، وكذلك تحذير وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إسرائيل من الإقدام على توجيه ضربات في لبنان.قد تُقدم إسرائيل على ضربات واعتداءات، لكن الأخيرة لن تكون مقدمة لحرب استباقية تباغت أعداءها وتنجح في حرمانهم القدرة على الرد. عودة سريعة إلى التصريحات والتهديدات الإسرائيلية تظهر أن عملية بناء القدرات العسكرية، خاصة الصاروخية، من محور المقاومة، قد بلغت طوراً جديداً، مع الانتقال من استيرادها من إيران وتخزينها، إلى تصنيعها محلياً في لبنان وسوريا، بما فيها تلك الموجهة العالية الدقة. هذه الاتهامات والتهديدات تشكّل في الواقع إقراراً إسرائيلياً غير مباشر بفشل استراتيجية «العمليات ما دون الحرب»، أي عشرات الغارات الجوية والصاروخية التي شنتها في سوريا خلال السنوات الماضية، في وقف عملية بناء القدرات العسكرية التي استمرت تحت النار، واعترافاً بإخفاق رهانها على ممارسة روسيا ضغوطاً على محور المقاومة كفيلة بحمله على وقفها.
لقد كان للحرب المحلية/ الإقليمية/ الدولية الدائرة في سوريا حصيلة وعواقب متناقضة كما كانت الحال مع عدة حروب سبقتها. فرغم فداحة الخسائر البشرية والمادية التي سبّبتها، ساهمت ديناميات هذه الحرب، وهي في الحقيقة حروب متداخلة ومتشابكة، في تطوير نوعي وكمي للقدرات العسكرية، وتحديداً الترسانة الصاروخية لمحور المقاومة. وتعتبر إسرائيل أن ميزان القوى المستجد الناجم عن هذا التطوير تهديد وجودي لها. والأنكى لها أن تضافره مع التبدلات البنيوية الاقتصادية والاجتماعية الداخلية سيحدّ مقدرتها على شنّ الحروب الكبرى، الاستباقية وغير الاستباقية، ضد دول المنطقة وشعوبها، وهي الوظيفة الأساسية التي عملت من أجلها على دعم القوى الغربية ورعايتها، وشرط بقائها الأهم.

أين الحرب الاستباقية؟
قامت العقيدة العسكرية الإسرائيلية على فكرة الحرب الاستباقية واستندت إلى مرتكزين: أن تكون أي حرب تشنها إسرائيل سريعة وحاسمة، وأن تخاض الحرب على أرض العدو لافتقاد إسرائيل العمق الاستراتيجي. اعتبر العدوان الصهيوني على مصر في حزيران 1967 أنموذجاً تطبيقياً لهذه العقيدة. ويرى الكثير من الخبراء، ككميل منصور في كتابه المهم عن العلاقات الأميركية-الإسرائيلية، «أعمق من تحالف» (Beyond alliance)، أن الطبيعة الاستراتيجية لهذه العلاقات ترسخت بعد هذه الحرب وإظهار إسرائيل جدارتها العسكرية كوكيل إقليمي للولايات المتحدة. لم تنجح إسرائيل في شن حروب استباقية «مكتملة المواصفات»، على غرار هذه الحرب، في العقود التالية. فعدوانها على لبنان عام 1982، رغم أنه كان مفاجئاً من ناحية حجمه ومداه، لم يكن سريعاً وحاسماً، إذ دام أكثر من شهرين ونصف شهر. أما حرب تموز-آب 2006، وحروب إسرائيل على غزة، فكان عنصر المفاجأة فيها ضعيفاً ولم يؤدّ إلى شل أو إرباك قوى المقاومة وقدرتها على الصمود والقتال، رغم القوة التدميرية الفتاكة التي استخدمتها إسرائيل، بل استمرت هذه الحروب لأسابيع طويلة قُصف خلالها العمق الإسرائيلي.
إن مراجعة مسار الصراع بين إسرائيل وحركات المقاومة في العقود الثلاثة الماضية يظهر بوضوح منحى انحدارياً لقدرتها على شن حروب استباقية. اليوم، إذا استندنا إلى التصريحات والاتهامات الإسرائيلية حصراً عن التطوّر النوعي في قدرات محور المقاومة، فمن الممكن الادعاء أن عقيدة الحرب الاستباقية قد فقدت صلاحيتها تماماً وذهبت مع الريح. حتى المبدأ البديهي الأول في هذه العقيدة، وهو عنصر المفاجأة، أصبح معدوماً في حالتنا الراهنة. فلا يكاد يمر يوم إلا ويطلق فيه مسؤول سياسي، أمني أو عسكري إسرائيلي تهديدات ضد أطراف محور المقاومة، ويبدأ من بعدها بتحديد بنك أهداف، مواقع أو مصانع صواريخ مزعومة، من الممكن أن تقصفها إسرائيل. تتكرر هذه التهديدات في ظل تأكيد قيادة المقاومة جاهزيتها الكاملة للرد على أي عدوان. يعني هذا الأمر بوضوح أن أي حرب مرشحة، خاصة إن وضعت التهديدات الإسرائيلية بقصف تدميري واسع النطاق موضع التنفيذ، للتحول إلى حرب تدمير متبادلة.
لا علاقة للمشهد الحالي بالحرب الاستباقية. نحن أمام حرب هجينة، تلجأ إليها عادة الأطراف المتصارعة لعجزها عن خوض مواجهة عسكرية مباشرة، وتتضمن استخداماً جزئياً للقوة العسكرية إلى جانب العمليات الأمنية والضغوط الاقتصادية والحملات الإعلامية وحرب الشائعات والحرب السبرانية... إلخ. وفي الميدان، العمليات العسكرية محصورة في الساحة السورية.
إذا كانت إسرائيل حسب البعض «تعربد» في السماء السورية، فإن هذا البعض لا يرى، كما يشير منير شفيق، وهو المفكر الفلسطيني والخبير البارز في شؤون الصراع العربي-الصهيوني، في مقالة نشرها على موقع «عربي 21»، أن محور المقاومة انتقل إلى «مرحلة أعلى في المواجهة والحرب، وهي زيادة التسلح وحفر الأنفاق، والإعداد العسكري لحرب قادمة تتسم بمواجهة أعلى بكثير من مواجهة المقاومة المعروفة بتكتيك اضرب واهرب، أو العمليات الصغيرة المحدودة، وهو المستوى الذي تفرضه الاستراتيجية الدفاعية حين يكون العدو مسيطراً سيطرة كاملة أو شبه كاملة، فيما المرحلة الأعلى من شأنها أن تغير قواعد الاشتباك، وقد تصل إلى مستوى الردع الاستراتيجي، أو ما يقرب من شبه التوازن الاستراتيجي... أي الدخول في مرحلة الوصول إلى التهديد الاستراتيجي». ولا شك في أن الاستفزاز الإسرائيلي الأحمق لروسيا وقرار الأخيرة تسليم منظومة صواريخ S300 لسوريا سيضيق نطاق عربدة الطائرات الإسرائيلية في الأجواء السورية وربما اللبنانية بصورة كبيرة، إن لم يمنعها تماماً.

بين أسبرطة و«سليكون فالي»
نجحت إسرائيل في العقود السابقة، في ظل اختلال كبير في موازين القوى بينها وبين دول المنطقة وشعوبها، بما فيها حركات المقاومة، في دمج وظيفتها كقاعدة عسكرية عدوانية مع دور ريادي كمركز لتطوير التكنولوجيا والعلوم والصناعات (للمزيد من الاطلاع، مراجعة كتاب «الاقتصاد السياسي لصناعة التقنية العالية في إسرائيل»، للخبيرين فضل النقيب ومفيد قسوم الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية عام 2015). وفي خطاب ألقاه أمام اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة، «آيباك»، تفاخر نتنياهو بأن «الخبر الجيد لا يتوقف فقط عند قوة القدرات العسكرية الإسرائيلية، بل يتجاوزها إلى قوة الاقتصاد الإسرائيلي. وقد عززنا هذه القوة عندما نجحنا في الانتقال إلى اقتصاد السوق الحر الذي أطلق الطاقات الابداعية لشعبنا. انظروا إلى لائحة الشركات العشر الأوائل في العالم عام 2006. خمس بينها، شركات تعمل في مجال الطاقة وواحدة فقط تعمل في مجال تكنولوجيا المعلومات. أما في 2016، بعد عشر سنوات، وبغمضة عين، فانقلب الأمر رأساً على عقب وباتت الشركات الخمس الأولى تعمل في مجال تكنولوجيا المعلومات، وواحدة فقط، بين الشركات العشر الأولى، تعمل في مجال الطاقة. الثروة الحقيقية تكمن في الإبداع والتجديد. أنتم تعرفون هذه الشركات كغوغل وآبل ومايكروسوفت وأمازون وفايسبوك. جميعها لديها مراكز للبحث والتطوير في إسرائيل».
استطاعت إسرائيل جذب استثمارات بعشرات مليارات الدولارات من الولايات المتحدة والدول الأوروبية والصين والهند إلى قطاعات التكنولوجيا المتطورة. الصين وحدها استثمرت 16 مليار دولار في إسرائيل عام 2017، وهي مرشحة للتحول إلى المستثمر الخارجي الأول في السنوات القادمة. والسؤال الذي يعنينا هنا هو: هل تقدم إسرائيل على مغامرات خطيرة من الممكن أن تفضي إلى حرب تدميرية واسعة النطاق، في ظل تعاظم قدرات محور المقاومة، مع ما يعنيه ذلك من تبخر الاستثمارات ونتائج كارثية على منطقة «غوش دان»، التي تقع ضمنها تل أبيب، حيث قلب إسرائيل الاقتصادي والصناعي وحيث تتمتع «الزبدة» الأشكنازية برغد العيش حتى الآن؟ من الممكن أن تدفع الغطرسة والحماقة إلى مثل هذه المغامرات، لكن نتائجها ستكون وخيمة على حاضر الكيان ومستقبله.