يبقى الموقف الاستراتيجي الحاسم للعماد ميشال عون في حرب تموز واحداً من أبرز ظواهر تلك الحرب في الاجتماع السياسي اللبناني. فإذا كان من الطبيعي تضامن شرائح واسعة من اللبنانيين مع بيئة حزب الله، في الوقت الذي يتعرّض فيه للحرب الأقسى ـــ حتى الساعة ـــ بأمر أميركي، فقد تَميّز أداء الشريحة المؤيدة لعون باندفاع كبير وحرارة لافتة في احتضان النازحين، تجاوزا الدافع الإنساني والوطني إلى الإرادة السياسية في إحداث منعطف في الوجدان اللبناني المسيحي التاريخي واتجاهاته.كان قرار عون بالدعم السياسي الكامل لحزب الله، ووقوفه في وجه كل التحذيرات والتهديدات الأميركية مفاجئاً للجميع وللحزب نفسِه. لم يعتَدْ مسيحيو لبنان أن يتخطّوا الدولة وشرعيّتها إلى دعم حزبٍ له خصوصيته الثقافية والعسكرية، ويشارك الدولة، لا بل ينافسها على جوهر طبيعتها ومفهومها في احتكار القوة والعنف، كما لم تبادر نخبتهم السياسية والدينية في تاريخ دولة لبنان الكبير إلى الوقوف عكس الاتجاهات السياسية للغرب في المنطقة. بهذا المعنى، كانت سياسة عون الذي استهلّ حياته السياسية بمواجهة إرادة الموفدين الأميركيين من ديفيد نيوتن إلى ريتشارد مورفي وجون مكارثي، مروراً بديفيد ساترفيلد وجيفري فيلتمان، منعطفاً في وجدانهم ومسارهم السياسي التاريخي.
صحيح أن قراره كان نابعاً من استشراف للتحولات الاستراتيجية في المنطقة والعالم، ومحاولة لاستباقها ومواكبتها، لكنه، وعلى رغم أن قراراته الكبرى توازت دائماً مع بروز أسئلة في تيّاره ومؤيّديه حول أسباب تلك الخيارات، عبّر، كما منذ عام 1989، عن اتجاهات ونزعات كانت تعتمل لدى المسيحيين خاصة. فقد أدرك ميشال عون منذ سنوات، وخاصة بعد كوارث حرب الجبل وتسليم واشنطن بالسيطرة السورية على لبنان، عقم الرهان على الولايات المتحدة والغرب عموماً، في إيجاد نطاق ضمان لبقاء لبنان واستمرارية الدور المسيحي الرائد فيه. واستطراداً، لا يكفي التقاطع الحضاري والثقافي مع الغرب المتقدم المبني على إرث النهضة لصنع استراتيجية تضمن البقاء والدور. وهذا العنقود من الرهان على الغرب لا تنفكّ حبّاته تتناثر في البيئة المشرقية، وكان آخر الموهومين جماعات المعارضة السورية في كل المناطق، والتي تشهد على تسليم واشنطن برؤية الإدارة الروسية للصراع السوري.
هذه الاستنتاجات كانت هي نفسها لدى شرائح كبيرة من مسيحيي لبنان، العابرين للطموحات «البشيرية» نحو تداعيات ما بعد 1982 والتهجيرات المتتالية، وحتى الفاتيكان نفسه سلّم في عام 1990 باختزالهم إلى وجود مادي فحسب، متغاضياً مع بابلو بوانتي عن أهمية الحضور السياسي الفاعل. شهدوا معه ومع لاعبين آخرين الخيبات ذاتها، من دون أن يكونوا بالضرورة من اتجاهات يسارية أو «قومجية» حملت طروحات الابتعاد سياسياً عن الغرب، والاندماج مع المحيط، لكنها فشلت بتعبيراتها الفكرية والسياسية في التقدم ولو قيد أنملة نحو هدفها المعلن. لا بل إن حقيقة هذا الاختمار والتحول صدرت من قلب الاتجاه الوطني أو «الكياني» اللبناني الغالب لدى المسيحيين، والعديد من حاملي هذا الخيار الجديد أتوا من «القوات اللبنانية»، بمعنى المؤسسة السياسية والعسكرية التي حملت مشروعاً لمسيحيي لبنان وجمعت قواهم الحزبية، وليس بمعناها الحزبي القائم اليوم.
هل أخطأ عون في خياره الاستراتيجي هذا، أو هل تحتاج هذه السياسة إلى مراجعة في واقعنا الراهن اليوم؟
الإمعان في مناقشة هذا السؤال المشروع لا يمكن من دون الإطلالة على قلب الصراع الأكبر في تاريخ المشرق، وهو الحرب السورية الطاحنة، واسترجاع شريطها انطلاقاً من واقعها الراهن المُتّجِه إلى النهايات. إن مشروعاً سياسياً ريادياً لِما بَقي من مسيحيي المشرق، بقيادة طليعتهم اللبنانية، لا يمكن اعتماده من دون قراءة استراتيجية تتجاوز تنافساتهم الداخلية. واستطراداً، فإن مشروعاً استراتيجياً لا يُبنى على الرهان على قوى إقليمية ودولية تؤدي سياساتها إلى تمزيق النسيج المتنوع لمجتمعات المشرق، وخاصة عبر استخدام الإرهاب التكفيري كأداة جرفت مدناً وبلدات وجماعات بأكملها من أيزيديي سنجار إلى مسيحيي شمال سوريا المُستنزَفين وصولاً إلى مذبحة دروز السويداء.
المنطق نفسه يقول إن الاختلاف حول فكرة النهج السلطوي المعتمد من حولنا، وابتعادنا كدول عن نطاقات الحرية وحقوق الإنسان، كما نراها في أحلامنا عن الغرب، لا يعنيان بالضرورة عدم التلاقي مع قوى صاعدة في الإقليم، ومع أنظمة تبقى على رغم سلطويتها وعوراتها في الإدارة الداخلية عنواناً للتماسك ووقف الإرهاب عند حدّه. وإذا أكملنا المشهد مع خيبات المعارضة السورية من حلم «الخلاص» الأميركي، ومع انهيار أحلام الأكراد بـ«الفدرالية» والدولة القومية المنشودة، وسقوط الإسلام السياسي تحت ضربات العسكر المصري الحامل تاريخياً مشروع تماسك الدولة المصرية ووطنيّتها، وصولاً إلى إسقاط طائرة الـ«F-16» الإسرائيلية، ومواصلة اختراع الشباب الفلسطيني وسائل مذهلة في المقاومة، يصبح نكران صحة خيارات عون «التمّوزية» إنكاراً للواقع، وهروباً من مرآة الحقيقة المتجلّية انطلاقاً من مسرح الميدان السوري.
* صحافي وباحث سياسي