لم يشأ اليسار اللاتيني تصديق فكرة «حرب الإلغاء» التي تستهدفه منذ ثلاثة أعوام في دول أميركا الجنوبية كلها، المنطقة التي شهدت نمواً متسارعاً لليسار منذ أن بدأ الزعيم الفنزويلي الراحل أوغو شافيز، معركة الاستقلال عام 1999، التي امتدت إلى كل العالم اللاتيني بعد سنوات قليلة، باستثناء كولومبيا.خاض اليسار معاركه الداخلية بأسلحة سياسية وقضائية، بينما كانت المواجهة تفترض فهماً دقيقاً للمرحلة التي اتخذ فيها قرار تصفية النهج اليساري بكل الأسلحة المتاحة. كان اليمين المدعوم من الإدارة الأميركية مستعداً لإدارة المواجهة عبر تهيئة ظروف قضائية، سبقتها حملة إعلامية غير مسبوقة أدارتها شبكة «غلوبو» البرازيلية ومجموعة «كلارين» الأرجنتينية. استفاد الإعلام من الإخفاقات اليسارية في البرازيل والأرجنتين، وراح يفتش في ملفات الحكومتين السابقتين ليعثر على ما يعزز معركته في شيطنة الأحزاب اليسارية الحاكمة. لكن «كنز الفساد» الحكومي كان محدوداً، ويطاول أسماء لا تحمل بعداً تمثيلياً، إذ لم تسفر كل محاولات التفتيش عن ملفات تطاول الزعامات اليسارية على مدى أعوام إلا عن خيبة أمل.
جراء ذلك، كان لا بد من حسم الصراع بأي ثمن، فلجأ اليمين في البرازيل إلى إنشاء ملفات فارغة في المضمون، لكنها تحمل عناوين خطيرة كجريمة المسؤولية التي طاولت الرئيسة البرازيلية السابقة ديلما روسيف، أو الشقة الفاخرة التي أُلصقت بسلفها لولا دا سيلفا. كما دخل اليمين الأرجنتيني على خط التجربة البرازيلية، فأعد ملفات فساد طاولت الرئيسة السابقة كريستينا كريشنر، بعدما أعطتها استطلاعات الرأي الأفضلية في السباق الرئاسي الأرجنتيني الذي سيجري العام المقبل.
في البرازيل، لم تفلح كل المطالعات القانونية في فتح الطريق أمام عودة دا سيلفا إلى الرئاسة بعدما بقي متصدراً كل الاستفتاءات. ولجأ القضاء إلى اجترار ساعات طويلة من التفسيرات القانونية التي تستند أصلاً إلى تهمة «هزيلة». طالع القضاة في استقلال القضاء وخطورة أن يسمح بترشح من تلطخت أيديهم بالفساد. وأضافوا على تهمة «الرشوة» جريمة «غسيل الأموال» ليعطوا ثقلاً وهمياً لقضية تعد «مزحة» أمام حجم الفساد المتورط فيه زعماء اليمين الذين سطوا على ثروات الدولة ومؤسساتها على مرأى من القضاء والمؤسسات التشريعية التي حمت اللصوص الحقيقيين، وليس آخرهم الرئيس الانقلابي الحالي ميشال تامر، الذي تحرر من اثنين وعشرين ملف فساد بقدرة النافذين نتيجة مشاركته في إطاحة الرئيسة العمالية ديلما روسيف، في حزيران/ يونيو 2016. هذه الإجراءات دفعت اليسار في البرازيل إلى فهم دقيق لخطورة المرحلة التي يواجه فيها صراع وجود لا يحتمل التراخي أو التعامل معه كأزمة سياسية عابرة تحل في أُطر المؤسسات القانونية والدستورية.
الدعوة إلى الإضراب دليل على التداعيات الخطيرة التي ستشهدها البرازيل


لم تتوقف الحرب على اليسار عند هذا الحد. ففي فنزويلا مثلاً، منعت الولايات المتحدة الأميركية وشريكتها كولومبيا المعارضة الفنزويلية من إجراء أي حوار يعزز الاستقرار الأمني والاقتصادي. وحوّلوا هذا البلد الغني بالنفط إلى بؤرة من الفقر المدقع. وساعدهم على هذا الفساد المستشري الذي حمته بعض القيادات اليسارية التي خانت مشروع أوغو تشافيز، وحولت مواطنيه إلى لاجئين جياع يجوبون الحدود بحثاً عن لقمة عيش تقيهم الجوع والعطش وانعدام فرص الحياة في بلد يرزح تحت حصار اقتصادي غاشم حرمهم حتى من السلع الغذائية الأساسية والدواء. لعل الدرس الفنزويلي يكشف حقيقة المواجهة الناعمة التي يقودها اليسار في البرازيل والأرجنتين وخوفه الدائم من تحويل دوله إلى رهينة يبتزون بها الرأي العام ويضعونه أمام معادلة الاستسلام أو الجوع. وعليه، نجح «النازيون الجدد» في القبض على مفاصل القضاء والمؤسسات الدستورية وحولوها إلى محاكم عرفية تنال من الطامحين إلى الاستقلال الحقيقي والسيادة على الثروات الوطنية التي تحولت إلى مزادات سطت عليها الشركات الدولية مقابل حماية تنعّم فيها اليمين الذي قاد الأرجنتين والبرازيل إلى حافة الإفلاس في سنوات ثلاث حملت أسوأ تجارب الحكم في تاريخ هاتين الدولتين.
لعل منع دا سيلفا من الترشح للرئاسة، بعد قرار المحكمة العليا للشؤون الانتخابية فجر السبت الفائت، يوضح أن المشروع اليميني تجاوز كل الخطوط الدستورية وضرب عرض الحائط بإرادة البرازيليين الذين تعبوا من الوعود الفارغة والاتهامات الملفقة، لكنهم لم يصلوا بعد إلى جرأة تحدي هذا المشروع خوفاً على ما تبقى لهم من أمن وفرص حياة. لكن الرهان يبقى على ساعة الصفر التي بدأت تلوح في الأفق بعد الانهيار الاقتصادي المتسارع في الأرجنتين، والتراجع الخطير في البرازيل الذي دمر معظم إنجازات العماليين في التعليم والطبابة وفرص العمل وخفض معدل الفقر المدقع الذي طاول مجدداً أكثر من ثلاثين مليون برازيلي حسب الدراسات الأخيرة. وهي نسبة أعادت هذا البلد اللاتيني ثلاثة عقود إلى الوراء. وما أزمة أسعار المحروقات المرتفعة ونية اتحاد الشاحنات العودة إلى الإضراب المفتوح وشل الحركة العامة في الثامن من هذا الشهر إلا دلائل على التداعيات الخطيرة التي ستشهدها البلاد في الأيام المقبلة.
ليس بعيداً عن البرازيل والأرجنتين، تصل الأزمة الفنزويلية إلى أشدها وتهيئ لأكبر أزمة إنسانية بعد نزوح أكثر من مليوني مواطن إلى المجهول، حيث أجبرتهم ظروفهم القاسية على افتراش البراري بعد الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها دول الجوار لمنعهم من اجتياز الحدود. واقع يشي بأن الصبر على الابتزاز والإلغاء لن يدوم طويلاً، وأن ساعة الحساب آتية حيث لن تنفع حينها شرعية مسلوبة وحماية اقتطعت من لحم اللاتينيين وسرقت أجمل أحلامهم في العيش بكرامة وحرية.