لم يكن البقاع مسألة لبنانية على الدوام. عام 1861، وإثر انتهاء الحرب الأهلية الأولى في لبنان (1840-1861)، أعلنت السلطنة العثمانية ولادة نظام المتصرفية كحلّ وسطي بينها وبين أوروبا ــ فرنسا على وجه التحديد. راهنت السلطنة على احتواء جبل لبنان وخضوعه مع الوقت، وعلى الضد فعلت فرنسا على الطرف النقيض. كان في عزلة جبل لبنان عن مدن لبنان الساحلية، وعن سهل البقاع، ضمانة راهنَ من خلالها العثمانيون على إخضاع الجبل من خلال قطع ناتج البقاع الغذائي عنه. آنذاك، دخل البقاع وللمرة الأولى في تاريخه الحديث توازنات المجال الإقليمي والدولي، كورقة ضغطٍ بين السلطنة العثمانية وخصومها. بالنسبة إلى العثمانيين كان البقاع جزءاً لا يتجزأ من بادية الشام الممتدة من مناطق غربي القلمون وصولاً إلى سهل حوران في الجزء الجنوبي من العاصمة السورية دمشق. ثلاث خرائط توضح موقع البقاع وموضعه السياسي والاقتصادي قبيل ولادة دولة لبنان الكبير؛ ترويسات الدبلوماسي البروسي وعالم الآثار ماكس فون أوبنهايم، فترة مكوثه في المشرق العربي ــ ومن خلال رفقته لقيصر بروسيا فلهلم الثاني، في زيارته بعلبك عام 1898. الخرائط العسكرية لكولمار فون دير كولتز، قائد أركان الجيش العثماني بين عامي 1883 و1895. ترسيمات خط قطار حلب ــ دمشق (1903) المتفرع من مشروع قطار الشرق الواصل بين وسط أوروبا وبغداد. المشترك في الخرائط الثلاث اعتبار البقاع منطقة عبور ضرورية بين حلب ودمشق، وجزءاً لا يتجزأ من المجال الحيوي السوري. سيؤسس موقع البقاع الجغرافي وضعاً سياسياً واقتصادياً مُربِكا للنخب السياسية التقليدية في لبنان، التي انحسر جلّ اهتمامها بجبل لبنان فترة المتصرفية، وبجبل لبنان ومدن الساحل ما بعد إنشاء دولة لبنان الكبير.

البقاع والدولة: الخطيئة الأصلية
لنعترف، إن واحدة من أكبر مشاكل العمل السياسي اللبناني، وجود نخبة سياسية سابقة في وجودها على الدولة نفسها. وُلدت النخبة السياسية اللبنانية الأولى (الدرزية ــ المارونية) فترة مرحلة التنظيمات في الدولة العثمانية (1860ــ 1880). مع نشوء لبنان الكبير عام 1920، بدا أن ثمة نخبة جديدة قد بدأت تتبلور مع انضمام الساحل اللبناني إلى جبل لبنان. كانت النخبة الجديدة من برجوازيي مدن الساحل (الأرثوذوكسية ــ السنيّة) منشدّة هي الأخرى إلى انحيازات مرحلة المسألة الشرقية (1830 ــ 1860)، فترة استقلال اليونان (الأرثوذوكسي) عن السلطنة العثمانية (السنيّة). بالعموم، اجتمعت نخبتا الجبل والساحل في شعورهما أن «لبنان ــ الدولة» حديث العهد إذا ما قورن بشخصياتهم الاعتبارية. وأن ما من وجود واقعي للدولة خارج هواجس هذه النخبة ورؤاها المأسورة بمرحلة منتصف القرن التاسع عشر.
بخصوص البقاع، ظلت الرؤية السياسية للبقاع بالنسبة إلى هذه النخبة موطوءة بهواجس لبنان المتصرفية ورؤى نخبة لبنان الكبير. كان تصوّر نخب الجبل والساحل للبقاع بُعيد نشوء دولة لبنان الكبير 1920 يفترض أنه عبء فرضته الضرورة. لكن خوف هذه النخب من تكرار مجاعة الحرب العالمية الأولى كان قد سهل عليها تقبله مع ما أنتجه انضمام هذه المنطقة «الطُرفانية» من اختلال ديمغرافي طائفي. البقاع خطيئة أصلية بالنسبة إلى نخب الجبل والساحل على الدوام. هو خطيئة كان لا بد منها لولادة «لبنان الكيان»، لكنه سرعان ما سيستحيل عبئاً باهظ الكلفة بالنسبة إلى أكثرهم إلى حد كبير.
ومما زاد الأمر سوءاً أن البقاع كان يخسر مكانته شيئاً فشيئاً مع الوقت. مطلع القرن العشرين ومع انطلاق صافرة قطار بيروت ــ دمشق، صارت برجوازية العاصمة على اتصال مباشر مع دمشق. لم تعد سهول البقاع تغوي تجار بيروت ببضائعها مع دخول غوطة دمشق كمنافس رئيس في السوق اللبناني. الأمر ازداد سوءاً بعيد تأسيس الدولة اللبنانية عام 1943 وانتصار اتجاه غابرييل منسّى في الاقتصاد، الداعي لرفض الحمائية الجمركية ولتحويل لبنان إلى منطقة حرة يقوم اقتصادها على تقديم الخدمات. في مرحلة كميل شمعون كان البقاع مشاعاً مفتوحاً لرحلات صيد الرئيس ليس إلا. اعتمد شمعون في سياسته على تسليم الإقطاع التقليدي المتحالف مع العشائر البقاع. ومع الوقت صارت الدولة تخص العشائر بدورات خاصة بها للتطوع في السلك الأمني. شمعون نفسه الذي رفض دراسات شركة «غيتي أويل» حول الطاقة في البقاع كان قد اقترح على صبري حمادة مرّة إسكان أهل بعلبك في السلسلة الشرقية للمدينة، كيما تبقى المدينة خلوة للسائحين. مع شمعون أيضاً تعزز النفوذ العشائري، واستمر الأمر وتضخم ربما مع فؤاد شهاب.
اعتمد شمعون في سياسته على تسليم البقاع للإقطاع التقليدي المتحالف مع العشائر


اتفاقية القاهرة عام 1969، واعتماد منطقة البقاع كمنطقة خارج سلطة الدولة المركزية (بتخصيصها كمعسكرات تدريب للفلسطينيين) كانت بمكانة التعبير الصارخ عن تخلي الدولة عن هذه المنطقة سياسياً وأمنياً. مرحلة السبعينيات ومع دخول سوريا إلى لبنان سلمت النخبة السياسية في لبنان البقاع لسوريا بشكل رسمي. في محادثات حافظ الأسد مع فيليب حبيب غالباً ما كان يرد اسم البقاع كجزء من العمق الاستراتيجي للعاصمة السورية دمشق، وهو ما بدا جلياً مع نشر سوريا لمنظومات الصواريخ السوفياتية فيه عام 1983. أما سياسات ما بعد اتفاق الطائف الاقتصادية فكانت كارثية بكل ما للكلمة من معنى بالنسبة إلى البقاع، ولكل مناطق الأطراف. لقد تم تبنّي سياسات التنمية المركزية (لبيروت وجبل لبنان حصراً) وهو الاتجاه الذي مضت فيه جل برجوازيات العالم العربي ما بعد المرحلة الناصرية بالاهتمام بالمركز وإهمال الأطراف وتبني الاقتصاد الريعي ــ غير المنتِج.

البقاع كنص سوسيو ــ ثقافي
بدرجة كبيرة، كانت خطط النقيب فريتس كلاين، المشرف الألماني على القوات العثمانية في بلاد الشام، ناجحة في وقف تقدّم بريطانيا على جبهة سوريا وبلاد ما بين النهرين إبان الحرب العالمية الأولى. وبالمثل كانت مقاربته الوظيفية للبقاع في كونه نقطة ارتكاز عملياتي لاستطلاع المنطقة الممتدة من سهول حوران حتى ريف حمص الغربي (وهي المنطقة نفسها التي عملت المقاومة على تأمينها بشكل رئيس في الحرب السورية اليوم). عام 1916، وضع كلاين طائرات «رمبلر» الاستطلاعية في بلدة ريّاق لاستطلاع قوات العشائر العربية الموالية لبريطانيا على طول خط سكة حديد دمشق مزيريب (شمال غرب الأردن) وعلى امتداد خط بادية الشام ــ ريف حمص الغربي. كانت نظرة كلاين ترى في البقاع جزءاً من بادية الشام، وهو ما عززته في ما بعد الحفريات السوسيو ــ ثقافية.
يشكل المجتمع في منطقة البقاع جزءاً لا يتجزأ من المجتمع النصف قبلي ــ النصف زراعي، المُمتد على طول منطقة بادية الشام ــ وسهول حوران في الجنوب السوري. وهو ما يجعل هوية هذه المنطقة مزدوجة أو ثنائية البعد بالمعنى السياسي، الثقافي، والاجتماعي. يشكّل سهل البقاع حاجزاً جغرافياً ثقافياً واقتصادياً بين شقي قرى سهل البقاع الشرقية والغربية منه. في القديم اعتمد نشاط قرى غربي سهل البقاع على التجارة مع مدن الساحل اللبناني، فيما اعتمد اقتصاد قرى شرقي السهل على الرعي، والغزو في بعض حالات الاضطراب السياسي ــ أسوة بقبائل البادية الشامية. يبدو من الصعب الحديث عن منظومة اقتصادية موحدة ومستقرة في البقاع بشكل عام. قرى البقاع المتباعدة عن بعضها جغرافياً، يشكّل كلّ منها وحدة اقتصادية صغرى معزولة عن الأخرى، وهو ما يزيد من صعوبة بناء دورة اقتصادية متكاملة في البقاع ككل. ومع ذلك تشترك مجموع قرى البقاع في ميثولوجيا الضيافة. الضيافة في ثقافة هذه المنطقة نوع من العبادة، والضيف ليس مجرّد شخص زائر، إنه نوع من حضور المطلق ومحاولة للتماهي معه. الضيف ضيف الله، والضيافة كما يفترضها داريدا قانون إنساني مطلق شرطه الغلو. في الضيافة تحضر النار والذبيحة أيضاً. النار هي الحي جداً بحسب باشلار. إنها حميمية وكونية تعيش في قلوب المضيف كما كان يُتخيّل قديماً أنها تعيش في السماء. والنار كذلك فرصة لذكريات خالدة، وتجارب بسيطة و حاسمة. لذا ليس مستغرباً أن تترافق موائد الضيافة مع سير البطولة والحروب.
والكرم في مثل هذه البيئة هو الاستثمار الوحيد. والمتوقَّع من الإنسان المَضيف ليس أكثر من أن يُبادل كرماً بكرم. هذا ما كان يطلق عليه ليفي شتراوس «باقتصاد المهاداة». أما الحرص فهو الوجه الآخر لبيئة زراعية لا تأمن مكر الطبيعة. الحرص أساس الثقافة الإنتاجية للفلاح الحذر المتشكك الذي لا يضمن له شقاؤه في العمل نتائج أكيدة، بل محتملة ومعرّضة للخطر على الدوام. لذا لم يكن غريباً انقسام المجتمع في البقاع بين حدين متنافرين في رهانهما. اتجاه يتطلع على الدوام للالتحاق بالدولة ووظائفها كضمان يجتنّب فيه أهوال الطبيعة ومخاطر الزراعة. واتجاه آخر يتطلع للغزو، كنوع من البطولة في التمرد على السلطة، وكمغامرة يعجز عنها أهل المدينة.

حزب الله: على خطى الأب لويس لوبريه
لم تكن دراسات الأب لويس لوبريه، رئيس بعثة «إيرفد IRFED» لتلقى مقبولية في الوسط السياسي اللبناني. عام 1961، وإثر انفجار الحالة السياسية اللبنانية بعيد الحرب الأهلية الأولى (1956 ــ 1958) وجد فؤاد شهاب ومعه المؤسسة العسكرية، نفسه معنياً بالبحث حول سبل استقرار الدولة ووجهتها الداخلية والخارجية على حد سواء. كان هم فؤاد شهاب بدايةً، إيجاد صيغة من التوافق تحدّ من شرخ مجتمعَي الريف والمدينة في لبنان.
صائباً كان فؤاد شهاب في اعتماده الأب لويس لوبرييه كمرجعية علمية رصينة لإعادة تقويم مسار الخلل في الاقتصاد اللبناني. كان الأب الفاتيكاني، والمولود في بيئة صيادي الأسماك الفقراء في فرنسا قد أدرك خطيئة النظام السياسي اللبناني سريعاً في تهميشه الأطراف وتوزيعه غير العادل للثروة بين أبناء الشعب. الكاهن الأحمر، كما وصفه كمال جنبلاط في مذكراته (هل كان هذا المصطلح جزءاً من الحملة السلبية ضد الأب لوبريه؟)، خلص عام 1962 إلى دراسة شاملة ووافية عن الاقتصاد اللبناني، كان قد لخّصها في جملة واحدة لمجمّع المطارنة الموارنة المنعقد عام 1962 بالقول: إن جشع النخبة السياسية اللبنانية التقليدية تمنع الرئيس شهاب من تحقيق تنمية عادلة ومتوازنة بشكل كبير.
اعتمدت رؤية لوبريه في تنمية الاقتصاد اللبناني على تنمية الأطراف واعتماد الاقتصاد المتنوع بدلاً من اقتصاد الريع والخدمات، ومواجهة الفساد. لوهلة، يشعر القارئ لتقرير بعثة إيرفد عام 1962، أن ثمة تقاطعاً جوهرياً بينها وبين مسودة البرنامج الانتخابي الذي اقترحه حزب الله بعيد أكثر من خمسة عقود. المفارقة أن رؤية لوبريه لم يكتب لها النجاح مع اعتكاف فؤاد شهاب وتمنّعه عن التمديد لولاية ثانية بعدما وجد نفسه وحيداً. أما حزب الله، مع ما يمثله من ثقل اجتماعي وسياسي، وبتحالفه مع العهد الجديد، فيبدو أكثر تحملاً لأعباء المواجهة المؤجلة لخمسة عقود.
هل ثمة إمكانية لتنمية الأطراف ومعها البقاع؟ لعب البقاع طوال السنوات السبع الماضية دور صلة الوصل بين الساحل السوري ودمشق. لقد أثبت البقاع أنه صمام أمان للعاصمة السورية ولعمق المقاومة الاستراتيجي. إن تنمية لا تأخذ بعين الاعتبار موقع البقاع وموضعه هي تنمية محكوم عليها بالفشل الذريع.
عام 1898، وأثناء زيارة قيصر بروسيا فلهلم الثاني إلى إسطنبول، خطت بروسيا ــ ألمانيا حالياً ــ الملامح الأولى لتنمية المناطق الواقعة بين حلب ودمشق مروراً بالبقاع من خلال وصل خط قطار حلب ــ دمشق بخط قطار الشرق السريع. قطار الشرق الذي صار فيما بعد الملهم للكثير من الأعمال الأدبية والفنية، كان قد ألهم الكاتبة الإنجليزية أغاثا كريستي لكتابة روايتها العالمية «جريمة في قطار الشرق السريع». الرواية التي تتحدث عن جريمة اختطاف وقعت على متن إحدى رحلات القطار كانت قد خلصت مع السيد بوارو (شخصية المحقّق في القطار)، إلى احتمال أن كل ركاب القطار كانوا قد شاركوا في الجريمة بشكلٍ أو بآخر. كرواية أغاثا كريستي يبدو البقاع اليوم. ما بين 1898 و2018، ثمة جريمة قد ارتُكبت بحق هذه المنطقة، والاحتمال الأكبر أن كل من تعاقبوا على سكة هذه السنين، قد شاركوا بنحو أو بآخر في هذه الجريمة المستمرة إلى اليوم.