أين يقف الأردن بالتحديد اليوم؟ هل هو مع الغرب، أم مع العالم العربي؟ وهل هو بالفعل دولة مستقلّة، وأي مستقبل يتهدّده؟في الآونة الأخيرة، في قلب العاصمة ــــ عمّان ــــ صعدت أبراج فندقية عدة من فئة الخمس نجوم أنيقة نحو السماء، بما في ذلك «W» و«Rotana». نساء خليجيات في عدّة الإغواء يرتدين كعوباً عالية و«ماكياجاً» شديد الإيحاء، يحتسين قهوة الكابتشينو في مقاه عدّة متناثرة حول منطقة المشاة الجديدة الفاخرة التي سميّت الـ«بوليفارد»، بينما يمكن رؤية الرجال السعوديين وهم يتجرّعون أقداحاً من البيرة أو النبيذ. إنه مشهد لا يختلف عما هو شائع في البحرين. يأتي الخليجيون الآن إلى عمّان هرباً من الأنظمة الاجتماعية الصارمة من أجل اللهو المنفلت، والتحرّر من القيود الثقافية، والاستمتاع بالحياة. ويسافر بعضهم إلى هنا للعلاج الطبي، ويقيمون في مستشفيات خاصة باهظة الثمن تشبه الفنادق ذات فئة الأربع نجوم أكثر منها مرافق طبية.
المزاج الذي يغلب على أجواء عمّان هذه هو ملاحقة أحدث صرخات الموضة الدارجة. كل شيء هنا كأنه عن بذخ في الثياب والطعام والشراب، الاستعراض المبتذل والرياء. المنطقة كلّها لا تضم قاعة سينما فنية أو صالة حفلات موسيقية أو حتى متجر كتب واحداً (ليس هناك سوى كشك متناه الصغر عند مدخل العبدلي مول). وعلى العكس من بيروت القريبة، حيث المشهد الثقافي والفني العالمي الأفق النابض بالحياة والعطش الشديد للمعرفة، فإن سكان عمّان الأثرياء وزوارها مهووسون بالنزعات الاستهلاكية الفارغة. وإذا تناسيت بعض التفاصيل، فإن «بوليفارد» يمكن أن يكون في مدينة أميركية صغيرة في ولاية تكساس أو جورجيا.
في الجانب الآخر من المدينة، وعلى بعد بضعة كيلومترات، ينفّذ الأطباء في مستشفى «البشير» (أكبر مرفق طبي عام في البلاد) إضراباً. من الواضح أنهم منهكون، ويتلقون أجوراً متدنية، والاكتئاب بادٍ على محيّاهم. يتم استقبال الحالات الطارئة فقط. الدماء متناثرة على الأرض، والمرضى يبدون مستسلمين لأقدارهم.
أُدفع جانباً عندما يصل وزير الصحة مع حاشيته، بينما سيارات الإسعاف لا تتوقف عن عويلها الحزين جالبة المزيد من الإصابات. «إن جودة الخدمات الطبية العامة في هذا البلد مرعبة»، أخبرني أحد المرضى.
أتحدث مع سيدتين سوريتين تنتظران هنا مع صبي مريض. أخبرتني إحداهما شاكية: «اضطررنا للسفر إلى هنا على طول الطريق من (الأزرق). نحن غير مشمولين بالخدمات الطبية في هذا البلد، وحتى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لا تساعدنا. عندما نواجه حالات طبية طارئة نذهب إلى عيادات خاصة حيث مجموعة عادية من الفحوصات تكلّف 300 دينار (428 دولاراً أميركياً) على الأقلّ. نحن هنا الآن، لكن من غير المؤكد ما إذا كانوا سيستقبلوننا. نحن يائسون تماماً».
بعد مدة وجيزة، يقترب مني رجل أمن في ملابس مدنية ويبدأ في استجوابي. «هل لديك تصريح لطرح الأسئلة في المستشفى؟». بعد أن أغادر، يحاول اثنان من ضباط الشرطة اعتراضي. تظاهرت بأنني لا أفهم ما يقولونه، وابتسمت لهما ببلاهة فسمحوا لي بالرحيل.
في الأردن، يخاف الناس من التحدث أمام الغرباء. على وجه الدقة، هم يتحدثون داخل منازلهم وسياراتهم، أو في الغرف الخلفية في مكاتبهم، ولكن ليس في الأماكن العامة. ويكاد يستحيل أن يخبرك أحدهم باسمه الكامل.
خلال العام الحالي، تفجّرت الأوضاع في الأردن مرّات عدة. في شهر فبراير، اندلعت أعمال الشغب في مدينة السلط، بسبب رفع أسعار الخبز بنسبة 60 في المئة وزيادة أسعار الكهرباء والوقود، وكذلك خفض الدعم عن السلع والخدمات الأساسية. لقد تم تدريجياً تنفيذ التعديل الهيكلي الشائن والوحشي لصندوق النقد الدولي في المملكة التي تعاني من ركود في الاقتصاد ونهب عجائبي للأموال العامة. في عام 2017، بلغت الديون الحكومية المسجلة للأردن 32 مليار دولار أميركي، أي ما يعادل 95.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.
في يونيو الماضي، هزت احتجاجات ضخمة العاصمة عمّان. كان المتظاهرون يطالبون بتغيير الحكومة وعبّروا عن غضبهم من زيادات الضرائب المقررة ومستوى المعيشة المتراجع بسرعة. ودعوا أيضاً إلى إنهاء الفساد المستشري على نطاق واسع بين المسؤولين الحكوميين، وتم اعتقال العشرات من الناس.
لم يُستثمر أيّ شيء ذي قيمة داخل المملكة في العلوم أو البحث أو الإنتاج


وفي تموز/ يوليو، استقالت الحكومة، وطلب الملك عبد الله الثاني من عمر الرزاز، الاقتصادي السابق في البنك الدولي، تشكيل حكومة جديدة. تفرّق الناس مرتبكين. قيل لهم إنهم انتصروا، لكن شيئاً لم يتغيّر بالفعل. «دعني أشرح لك»، يقول لي سائق سيارة الأجرة في عمّان. «لقد كانوا على وشك زيادة الضرائب على السّيارات بنسبة 15 في المئة على سبيل المثال»، «الآن ما سيفعلونه هو زيادة الضرائب بنسبة 5 في المئة هذا العام و10 في المئة في عام 2019. لم يتغيّر شيء على الإطلاق».
في منطقة بائسة، قرية كفرين، بالقرب من نهر الأردن والبحر الميت، كان الخبّاز في أحد المخابز الرثّة أكثر صراحة: «نحن لا نثق بالحكومة: لا الجديدة ولا القديمة. إنها ذات مجموعة الكذبة المحترفين». «أعمال الشغب؟ تغيير الحكومة؟ لا تُضحكني أرجوك». «ما تسمونه بأعمال الشغب قادها ضباط المخابرات ورجال السلطة نفسها. كانوا يتلاعبون بالناس. هذه الحكومة الجديدة تنفّذ بالفعل الأشياء ذاتها التي كانت الحكومة القديمة تنوي تنفيذها، ولكن ربما بترتيب أبجدي جديد».
قبل يوم واحد، سمعت بدقة المرثاة الحزينة ذاتها من سيدة أردنية من الطبقة العليا قابلتها على ضفة نهر الأردن أثناء زيارتي لموقع مغطس تعميد يوحنا المعمدان (وتلك فرصة رائعة لتصوير الحدود المحصنة مع فلسطين المحتلة). أوضحت السيّدة بسخرية وبلغة إنكليزية مثالية:
«الأردنيّون وصلوا إلى أقصى حدود التحمّل. هذه المرة كانوا مستعدين لإسقاط النظام في عمّان. النخبة الحاكمة عرفت ذلك بالطبع، فنظّمت أعمال شغب، وجعلتها تظهر حقيقية، لكن كان مسيطراً عليها عموماً، ثم قاموا بتغيير وجوه عدد قليل من اللاعبين السياسيين في القمة، مع إنقاذ النظام. لقد أشعروا الناس بأنهم فازوا، لكن في الواقع، لم يتغير شيء، أيّ شيء على الإطلاق».
الأردن حليف شديد الإخلاص للغرب. ونخبته الحاكمة موالية للولايات المتحدة من دون قيد أو شرط. وقد راهنت السلطة في عمّان ولعقود على التعاون مع حلف «الناتو» وتستضيف عدة قواعد عسكرية وجوية لعدد من الدول الغربية تنطلق منها عمليات القتل. وأكثرها خطورة هو «الأزرق»، حيث نقل عدد من التشكيلات الجوية الهجومية الرئيسية التي كانت متمركزة ولوقت قريب في القاعدة الجوية التركية «إنجريليك». ومن المعروف أن القوات الخاصة البريطانية والأميركية، ومنذ سنوات، تغزو الدولة السورية، انطلاقاً من الأراضي الأردنية.
تموضع الأردن كمحطة خدمة وظيفية للغرب يؤمِّن الدخل الرئيسي للسلطة و«النخب»، ولكن ليس بالضرورة للشعب. لم يتم استثمار أيّ شيء ذي قيمة في العلوم أو البحث أو الإنتاج. اقتصاد البلد يقوم على استضافة القواعد العسكرية الغربية، ومراكز التسوق للزوار، والسياحة الطبية للمواطنين الخليجيين الأغنياء، وعدد قليل من مصانع التجميع لأغراض إعادة التصدير والمملوكة بالكامل من رأس مال أجنبي، وبالطبع القطاع السياحي الخاص، الذي يمثل حوالى 14 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي وينمو بشراسة عاماً بعد عام.
عوائد السياحة تنتهي في المقام الأول بيد سلاسل الفنادق الغربية الكبيرة التي تدمّر النظام البيئي الهش في البحر الميت، وأخيراً خليج العقبة ميناء الأردن اليتيم. في الوقت ذاته، تقوم قاعدة سلاح الجو في الأزرق بتدمير واستنزاف احتياطيات المياه الجوفية الثمينة في واحات الصحراء.
تبلغ نسبة البطالة الرسمية في الأردن الآن حوالى 18 في المئة، لكنها في الواقع أعلى من ذلك بكثير. ولا تزال الحدود مع سوريا مغلقة، لذا لا يمكن للبضائع الرخيصة أن تتدفق إلى البلاد (بينما يُصنّف الأردن الفقير بأنه يحتكر الرقم الأعلى على قائمة تكاليف المعيشة في العالم العربي).
تستضيف المملكة حالياً 670.000 لاجئ سوري، رغم أن بعضهم مصممون الآن على العودة إلى ديارهم عندما تفتح الحدود. اللاجئون ــــ وأغلبهم يعيشون في ظروف مريعة ويواجهون أشكالاً مختلفة من التمييز ــــ هم مصدر آخر للتمويل الأجنبي للأردن، ومع ذلك فإن الناس في شوارع عمّان، لا يشتكون من أن «السوريين يسرقون الوظائف من السكان المحليين». لكن ذلك لا يمنعهم بالطبع من استيراد العمالة الرخيصة من الدول الفقيرة مثل الفيليبين وكينيا. فبغض النظر عن شدّة الضغوط الاقتصادية والفقر، فإن الأردنيين مع ذلك ليسوا مستعدين للقيام بـ«الوظائف المتدنية» بأنفسهم.
لقد تحدثت إلى أمينة المتحف الوطني الأردني ــــ الشديد التواضع ــــ للفنون الجميلة، حيث يستقبلك تركيب (فني) سوريالي النزعة وما بعد حداثي أطلق عليه اسم «المصنع» يستهدف إصابة الزائر بالصدمة من خلال أشكال طليعية، ولكنه بدا لي عديم المعنى.
كان المتحف الوطني خالياً بالكلية من الزائرين، ولا بدّ أن الناس في المدينة مشغولون عن الفنون الجميلة بالمقاهي ومراكز التسوق أو الحانات. سألت أمينة المتحف عما إذا كانت تخطط لعرض بعض الأعمال الفنية التي تصور أعمال الشغب الأخيرة، أو تحاول الوصول إلى جوهر ما أثار موجة اليأس التي ألمّت بالبلاد. نظرت إليّ، مروّعة: «لا، لماذا؟ بالطبع لا!». سألتها عما إذا كان هناك ولو معرض فني واحد على الأقل في عمّان يسجّل ردود الفعل على الأحداث؟ «لا»، وكأنها صرخت في وجهي تقريباً. كانت غاضبة جداً بينما كنت أحاول أن أفهم سبب غضبها؟
لا يفلح أي بلد عندما يكون مجرّد مستعمرة غربية، سواء في العالم العربي أو في أي مكان آخر. بعض الأفراد أو «النخب» قد يصبحون أغنياء، لكن معظم السكان سيعانون وسيصبحون «غير ذي صلة».
بينما تربح سوريا المجاورة معركتها الملحمية ضد الإرهابيين الذين زرعهم الغرب وحلفاؤهم الإقليميون، يعيش الأردن الواقع المحزن لبعض جمهوريات الموز شبه المُستعمرة في أميركا اللاتينية. هنا، تم تحييد جميع الأيديولوجيات تقريباً، ولا يمكنك أن تجد ولو أثراً لأحلام الوحدة والاشتراكية العربية التي شكلت عبر عقود وجدان سوريا والعراق.
لا أحد في الأردن يبدو سعيداً. يشكو البعض، وبعضهم يكتفي بالصمت، لكن لا توجد عند أي منهم أي أفكار محددة حول كيفية تغيير النظام التابع للغرب.
في هذه الأثناء، تتم حماية منطقة الـ«بوليفارد» الباذخة من قبل أجهزة الكشف عن المعادن وحراس متعددين، سواء بالزي الرسمي أو بثياب مدنية. الفنادق تحولت إلى ما يشبه قلاعاً محصّنة. وحتى للدخول إلى بعض مقاهي الـ«بوليفارد»، يتعين على المرء أن يمر بمرحلة ثانية من التفتيش الأمني، بما في ذلك أجهزة الكشف عن المعادن القوية. عمّان مدينة آمنة للغاية. ولذا كنت أتساءل عن غاية هذه الإجراءات المشددة «هل هي من أجل وقف الإرهاب حقيقة، أم أنّها لمنع الفقراء والناس اليائسين من الدخول والاطلاع بأعينهم على المصالح الأجنبية والمتعاونين المحليين معها الذين يسلبونهم بلدهم ومستقبلهم؟».
تساءلت بصوت مرتفع، لكن صديقي الأردني لا يُجيب. فهنا في الأردن بعض الأسئلة لا ينبغي أن تطرح أبداً.
ترجمة: سعيد محمد
* مفكّر وأديب وصانع أفلام وثائقية وصحافي استقصائي غطّى الحروب والصراعات في عشرات البلدان، وله مؤلفات عدة؛ منها ما كان مشتركاً مع نعوم تشومسكي. آخر كتبه «التفاؤل الثوري والعدمية الغربية»، ورواية ثورية «أورور»، لكن عمله الأكثر مبيعاً يبقى «فضح أكاذيب الإمبراطورية». له أيضاً وثائقيّات رائدة عن رواندا والكونغو وأفلام حوارية مع نعوم تشومسكي «حول الإرهاب الغربي». تحقيقه عن الأردن نشر أولاً في موقع «New Eastern Outlook»، وتنشره «الأخبار» باتفاق خاص مع المؤلف.