(إلى روح جون ماكين الذي - حين كان مرشّحاً للرئاسة الأميركية عام 2008 - قالت له امرأة خلال مهرجان انتخابي إنّ منافسه باراك أوباما هو «عربي»؛ فأجابها غاضباً «كلّا يا سيّدتي، بل هو رجل عائلة محترم»، وأنّ الاختلاف السياسي لا يجب أن يصل إلى هذا المستوى من البذاءة والاتهامات)
الأمر الملفت في التحقيقات القضائية التي تدور حول الرئيس الأميركي مؤخّراً هو أنّه، حتّى لو خرج ترامب بريئاً بالكامل، وتبيّن أنّه لم يخرق القانون في أيّ موضع، ولم يوجّه إليه أيّ اتّهام، فإنّنا نعرف على الأقل أنّه قد أقام، قبيل ترشّحه للرئاسة، علاقات سرّيّة مع ممثلة أفلام إباحية ومع عارضة في «بلاي بوي» (وهذه هي الحالات التي نعرفها، لأنّ محامي ترامب قد دفع لهما مالاً - 150 و130 ألف دولار - حتى يخرسهما وقد وجد المحققون الفيدراليون هذه العقود والوثائق في مكتبه). رئيس الولايات المتّحدة الأميركية.
والمسألة هي أنّ ترامب قد يخرج، بالفعل، بريئاً أو من دون اتّهام قضائي من تحقيقات «التدخّل الروسي»، وإدانة رئيس حملته السابق مانافورت (الذي يبدو أنّه لن ينقلب على ترامب أو لا يملك شيئاً ضدّه)، وإدانة محاميه مايكل كوهن (الذي يشبه شخصيّة «محامي المهام القذرة»، سول غودمان، في التلفزيون الأميركي، وهو وضع ترامب في دائرة الاتهام حين أكّد أنه قد دفع المال للامرأتين بناء على أوامره).
من جهةٍ، كما تقول «ذا ايكونوميست»، فإنّ لا شيء غير قانونيّ في أن تدفع المال للناس حتّى يصمتوا عن شيءٍ يتعلّق بك. المشكلة في حالة كوهين «تقنيّة»، وهي أنّ هذه الأموال التي دُفعت كان يجب - بحسب القانون الأميركي - أن تسجّل ضمن نفقات الحملة الانتخابية وعلى أنّها تبرّع من كوهين، وهذا لم يحصل. ولكنّ العرف في المحاكم الأميركية هو أنّ المخالفات الانتخابية «البسيطة» (وهي تحصل تقريباً في كلّ حملة) تعالج عبر تسوياتٍ وغرامات، ولا تُبطل الانتخابات بسببها - وهناك حكمةٌ عمليّة خلف ذلك، فمع كمية الأموال والتبرعات التي تتخلل الحملات السياسية الكبرى، من المحتّم أن تحصل مخالفات تقنية ومكتبية، وأن لا يسجّل كلّ قرشٍ في مكانه، ولو اعتمدت المحاكم هنا نظرةً «حنبليّة»، ستصبح كل انتخاباتٍ في أميركا عرضةً للأبطال.
ثانياً، تضيف المجلة البريطانية، هناك عرفٌ آخر في أميركا ينصّ على أن لا تقوم المحاكم بتوجيه اتّهامٍ إلى رئيسٍ فيما هو في منصبه؛ بل يتمّ صرف القضية أو تجميدها لحين انتهاء مهامه السياسية (هذا مع افتراض قضايا مدنيّة عاديّة، وليس أنه ارتكب جرائم خطيرة كالقتل أو الخيانة). ولكنّ أساس المسألة هو أنّ من يمكنه أن يدين الرئيس فعلياً ويخلعه ليست المحاكم، بل الكونغرس واجراءات العزل التي تحتاج إلى غالبية فيه؛ و«خطة الطريق» هنا (ومثالها نيكسون و«ووترغايت») تكون في أن تخرج اتّهامات خطيرة بحقّ الرئيس، فتحصل غضبة شعبيّة عليه وعلى حزبه، فيضطر النواب الجمهوريون - إنقاذاً لحياتهم السياسية - لأخذ مسافةٍ عن ترامب والانضمام إلى الديمقراطيين في الدعوة إلى عزله.
لا شيء من هذا قد حصل إلى الآن، رغم أنّ الإعلام «الليبرالي» الذي يعتاش على العداء لترامب لا يتكلّم إلّا عن هذه القضايا منذ انتخابه، ويجزم يوماً بأنّه قد ارتكب «خيانة عظمى» مع بوتين وقد حانت نهايته، ويوماً آخر بأنّه سينفضح كلصٍّ وقوّاد، فإنّ تأثير هذه الأخبار على قاعدة الحزب الجمهوري والناخبين لا يبدو ملحوظاً، بل إنّ تأييد ترامب يرتفع - وهنا أفضلية هائلة للشعبوي الذي تقوم منصّته السياسية على معاداة الإعلام المركزي ودعوة النّاس إلى عدم تصديقه، ويجمع حوله من يعتبر كلام الصحف والتلفزيون كذباً: في العادة، يتجنّب السياسي الهجوم على الإعلام والإعلاميين لأنّهم هم من سيصنع صورته بين أنصاره والناخبين، ويلعب دور «الحكم» عليه وعلى أدائه؛ ولكن في حالة شعبويٍّ كترامب فإنّ «الإعلام\العدو»، كلّما قال عنك أموراً سيّئة، كان ذلك تصديقاً لنظريّتك بأنّه منحازٌ ضدّك وضدّ جمهورك، وأنّه غير نزيه ولا مصداقية لما يقوله عنك، ولن يكون لهذه الهجمات تأثيرٌ بين مؤيّديك مهما كان محتواها.

هدف الحرب
رغم أنّ «الهجوم المضادّ» ضدّ رئاسة ترامب، الذي يشنّه قسمٌ من المؤسسة السياسية ومن جهاز الدّولة، لا يزال مستمرّاً من غير نجاح، فإنّه من الخطأ أن نبالغ في تأثير شخصيّة الرئيس ومتاعبه الدّاخلية على السياسات الأميركية الكبرى. الصّدام التجاري مع الصّين، مثلاً، ليس نتيجة أمزجة ترامب وأهوائه، بل هو استراتيجيّة مبيّنة، و«مسار محتمل» في العلاقة مع الصين يكتب عنه الخبراء الأميركيون منذ الثمانينيات. السياق التاريخي هو الذي يصنع ترامب وسياساته وليس العكس، ومسار التصادم الحالي مع الصّين هو، أساساً، نتيجة فشل المسار البديل الذي كان يمثّله أوباما وأسلافه (احتواء الصّين عبر الدبلوماسية والأحلاف المضادّة، والافتراض بأنّ بيجينغ سوف «تتعاون» وتفتح اقتصادها وتتبع القوانين التي يرسمها الغربيون).
كما أنّ المواجهة التي اختارها ترامب لا تخلو من دهاء ونقاط قوّة، وهي ليست سهلة بالنسبة إلى الصينين كما يتصوّر البعض. الصّورة العامّة هي أنّ الصّين بلد صناعيّ، وهو المصدّر الأول في العالم، ولديه فوائض تجارية هائلة، ففي وسعه احتمال حربٍ تجارية مع الأميركيين. الكثير من هذه التقارير لا يضيف بأنّ كامل الفائض التجاري الصيني (من تجارة السّلع) يأتي تقريباً من العلاقة التجارية مع أميركا وحدها؛ بمعنى آخر، لو أنّك لو ألغيت التبادل التجاري بين أميركا والصين (كتمرين نظري) تتحوّل العلاقة بين الصين والعالم، مباشرة، من فائضٍ إلى عجز. مثلما أنّ الصّين تصدّر كثيراً، فهي تستورد الكثير، (مواد خام ومعادن ونفط وغاز وغذاء)، وهذا ليس فقط كمدخلاتٍ للصناعة، بل أيضاً لتلبية الطلب الداخلي الكبير، والتوسّع في البناء والاستهلاك، وملايين الصينيين الذين يقتنون سيارات ويستهلكون كالغربيين. هذا الاستيراد الصيني الكبير تتم تغطيته (منذ عام 2001 ودخول الصين منظمة التجارة العالمية) عبر تصدير المنتجات الاستهلاكيّة، وبخاصة إلى الغرب وأميركا. لا يمكن «فضّ العلاقة» مع أميركا ببساطة، أو من دون تغيير بنيويّ وقاسٍ في نمط النموّ داخل الصين.
لهذه الأسباب، فإنّ العرض الذي قدّمه الرئيس الصيني إلى ترامب قبل أشهر، وظهر ترامب كأنه سيقبل به ثمّ رفضه، كان عرضاً «ممتازاً» بالنسبة إلى الأميركيين. إضافة إلى استيراد المزيد من السلع الأميركية (أساساً مواد زراعية وطاقة، وذلك لتخفيض العجز الأميركي على الورق وحفظ ماء وجه الرئيس أمام ناخبيه) فقد عرض الصينيون أن يستثمروا عشرات المليارات من الدولارات في الاقتصاد الأميركي، ثمانون مليار دولار كدفعة أولى، وفي قطاعات صناعة وزراعة وطاقة. بمعنى آخر، كانت بيجينغ تتعهّد بأن «تعيد استثمار» قسمٍ من الفائض الذي تحصّله من التجارة مع واشنطن داخل الاقتصاد الأميركي. فوق ذلك، يُقال إن الصين كانت مستعدة للتعاون مع واشنطن في ملفات إيران وكوريا الشمالية، ومع ذلك كلّه رفض ترامب العرض الصيني، وأطلق حرب التجارة بين البلدين. ماذا يريد الأميركيون أكثر من ذلك؟ يقول المسؤولون في الإدارة كلاماً مبهماً عن الحاجة إلى إصلاحات صينية وانفتاح أكثر، وتطبيق قوانين الملكية الفكرية، وأن تتوقف الشركات الصينية عن نسخ التكنولوجيا الغربية وأن تتوقف الدولة الصينية عن دعم شركاتها. بمعنى آخر، أميركا تريد للصين أن تتغير من الداخل، كما يقول بعض الغربيين، أو هي تريد «لجم» الصين ومنعها من حيازة الاستقلال التكنولوجي، كما يردّ خبراء صينيّون، ولكن المسألة - في كلّ الأحوال - تذهب إلى ما هو أبعد من حسابات الميزان التجاري وأرقام الاستيراد والتصدير.

خطّ الدفاع
يوجد، منذ بدايات دراسة الاقتصاد السياسي في الغرب، جناحان مختلفان في النظر إلى الدّولة وعلاقتها بالسّوق العالمي. لديك اليوم مثلاً، من ناحية، النيوليبراليون الذين يتكئون على الاقتصاديين «الكلاسيكيين» (آدم سميث وريكاردو) من أجل الدعوة إلى حريّة التجارة، ويتخيّلون سوقاً «مثالية»، بلا هوية ولا محتوى، يتبادل الأطراف فيها السلع بحرّيّة وفق قواعد وقوانين واضحة، والجميع يكسب. ودور الدولة هنا يقتصر على السهر على تطبيق هذه القواعد والقوانين حتى تسير التجارة في مناخٍ مثالي. ولكن، في الوقت ذاته، هناك تيّارٌ آخر في الاقتصاد السياسي، أبوه الاقتصادي الألماني فريديريتش ليست، الذي كان يقول إنّ الدّولة في السّوق العالمي تسعى، كهدفٍ أوحد، لتحقيق الحدّ الأكبر من المكاسب لنفسها ولشعبها، والتأقلم مع السوق العالمي أو تشكيله لصالحها. لو كانت الدولة في موقعٍ تستفيد فيه من حرية التجارة فهي ستدعو إليها، وإن كانت بلداً نامياً فهي ستدعو للحماية الجمركية. دور الدّولة الرشيدة هو أن «تتحكّم» في علاقتها مع السوق الخارجي بشكلٍ يجعل هذه العلاقة حميدةً وإيجابية، فتأخذ أكثر مما تعطي، وتكون من الكاسبين لا من الخاسرين. من هنا، كان ليست يدافع عن مبدأ الحماية والتحكّم بالواردات والصادرات، وكان ينصح بها لبلده بروسيا وهي تخطو صوب التصنيع - وقد تنبه أيضاً إلى أنّك، حتى تفرض سياسات ناجحة وعلاقة مع الخارج لصالح بلدك، فأنت تحتاج إلى «أدواتٍ» لتنفيذ هذه السياسات المعقّدة، ولا يمكنك أن تترك التصدير والاستيراد، والسياسة النقدية، لأفرادٍ أو لـ«سوق» يتصرّف على هواه.
حتّى نقارب الأمر من زاوية أخرى، الضرائب على الأجور والشركات في الدنمارك وألمانيا هي أعلى بكثير من مثيلاتها في الصّين، فهل يعني هذا أنّ الصّين «أكثر رأسمالية» من الدنمارك وأنّ الدولة في ألمانيا أقوى من الدولة الصينية؟ المقياس ليس هنا؛ ما يحدّد دور الدّولة هو ليس نسبة الضرائب، بل كون الدولة الصينية تملك الكثير من الشركات الأساسية في الاقتصاد (المؤسسة الأم التي أصبحت مظلّة لكلّ شركات الدولة في الصين تقول إن لها رقم أعمال يتجاوز الـ3 تريليونات دولار في السّنة، أي نصف اقتصاد اليابان)؛ والدولة الصينية تملك أيضاً أكثر البنوك وتتحكم تالياً بالعملة وتوزيع الاعتمادات والعلاقة المالية مع الخارج، وهي تقدر أيضاً على توجيه الشركات الخاصة عبر الحوافز والقروض - نريد الاستثمار في هذا القطاع في هذه المرحلة، وأن نعلّق الاستثمار في قطاعٍ آخر إلخ. هذه هي العوامل التي تحدّد دور الدولة في الاقتصاد وتسمح بأن تكون لك «سياسة صناعية» و«سياسة تكنولوجية»، أمّا معدّل الضرائب، فهو يؤثّر أساساً على الفروقات بين طبقات المجتمع والهوّة بين الأثرياء والفقراء (وهي اليوم في الصين أعلى منها من الكثير من الدول الغربية).
المسألة هي أنّ نمط التراكم نفسه هو تحت الهجوم. لتوضيح الفكرة سنعطي المثال التالي: الحساب الجاري لبلدٍ يتضمّن مكوّنين، تجارة السلع مع الخارج وتجارة الخدمات (ومن ضمنها السياحة). مع أنّ الصين تحصّل فائضاً كبيراً في تجارة السّلع فإنّها، حين تضيف تجارة الخدمات، تصبح ثالث دولة في العالم من حيث فائض الحساب الجاري (بعد ألمانيا واليابان. بل إنّ ميزان الصين التجاري في الربع الأوّل لهذه السنة قد وقع في عجزٍ بسيط). السّبب؟ السياحة أساساً. منذ أن فتحت الصين الأبواب لخروج السياح في العقد الماضي، ونشأت طبقة صينية مرفهة، أصبحت الصّين أكبر مصدّر للسياح في العالم بلا منازع. عشرة في المئة لا أكثر من سكان الصين يسافرون إلى الخارج، ولكن هذا يعني أكثر من 130 مليون رحلة سياحية السنة الماضية و- بحسب «بلومبرغ» - إنفاق أكثر من 270 مليار دولار في الخارج. تخيّلوا، عشرة في المئة من المواطنين ينفقون في باريس والبندقية ولاس فيغاس ما يقارب كامل الفائض الذي يحصّله مواطنوهم من العمل المضني في المصانع. تصوّروا، إذاً، ما قد يحصل لـ«النموذج الصيني» لو تمّ تحرير المصارف والحسابات المالية، والسماح للشركات الأجنبية بالدخول من دون قيد، ورفع الدولة ليدها عن الاقتصاد.

خاتمة: ماكين «بطلاً»
مع تصاعد التنافس بين أميركا والصين حول العالم، سوف تنشأ في الإعلام الغربي ثقافة محيطة، تعمل على شيطنة الصين، وتحذّر من أيّ وجودٍ لها خارج حدودها (على سبيل المثال، انهار منذ أسابيعٍ سدّ قيد الإنشاء في لاوس، وغرقت عشرات القرى وقتل المئات، الشركة التي تنفذ السد هي كوريّة، أما لو كانت الشركة صينيّة، فأنا أضمن بأنكم جميعاً كنتم ستعرفون بالخبر وكان سيظل إلى اليوم حديث الإعلام). ولكن هذا لا يجب أن يوهمنا بأنّنا في «جبهةٍ» واحدة مع الصينيين ضد الهيمنة الأميركية - وإن أصبحت الصين حليفاً موضوعياً في أكثر من مكان. لا مجال للمقارنة بين صين الأمس، التي كانت مشاريعها في الخارج (رغم فقر البلد ومحدودية موارده في الستينيات) تقوم على تعليم الأجانب أن يبنوا بلادهم بأنفسهم، وأن تنقل إليهم الخبرات كحليفٍ لا كـ«زبون»، مع سلوكها اليوم. أصلاً، من الأسباب التي تسمح للإعلام الغربي بالتحريض على الصين هو أنّها لا تخترق دول الجنوب عبر أيديولوجيا أممية أو دعوى مكافحة الهيمنة، بل عبر مشاريع «رأسمالية» بالكامل، تعرض نفسها بديلاً من أميركا والغرب وتمويله، ولكن ضمن شروط السوق نفسها (مع كل المشاكل التي ترافق ذلك). من الخطير أن تتوهّم حلفاء غير موجودين، وحين تصبح هناك - بالفعل - جبهةٌ في دول الجنوب تضمّك وتضمّ غيرك في حلف، فأنت سوف تعرف بالأمر من دون لبسٍ، ولن تحتاج إلى التكهّن وافتراض النوايا.
الجديد هو أن نظام «التشابك» بين الصين وأميركا أصبح مهدّداً، وتتم اليوم إعادة النظر فيه، وهذا سيحمل تحديات هائلة وتغييرات لا يمكن حصرها. قد تصمد الصين وقد يتم ترميم الوضع القائم وقد تنجح أميركا في ضربها (بالمناسبة، فإنّ سيناريو صين مفتوحة ومندمجة في الاقتصاد العالمي ليس مستحيلاً. وقد تستمرّ هذه الصين في تحقيق التراكم على طريقة الهند أو مصر، حيث تزداد الطبقة الناجحة ثراءً مقابل أن تظلّ الأغلبية عمالة رخيصة وفقيرة، وتكتفي البلد بصناعة المواد الاستهلاكية للغرب. هذا طريقٌ يقبل به الكثير من النخب المهزومة، كما حصل في الاتحاد السوفياتي، حين لا يكون هناك مانعٌ سياسي أو شعبي أو ديمقراطي أمام ذلك التحوّل). ولكن، مهما حصل، فإنّ مستقبل القرن الجديد، كما تنبأ هادي العلوي منذ عقود، سيتقرر في آسيا وسيكون آسيوياً.
عودةً إلى أميركا وجون ماكين، الذي رحل عنّا منذ أيام وكان يحمل كراهية خاصة تجاه الآسيويين. ماكين يمثّل أحد آخر رموز «الجيل الذهبي» في أميركا، «الأميركي المنتصر» مثل ريغان وبوش وكلينتون. الأميركي الأبيض الذي يؤمن، بثقة، بتفوّق أميركا ويرى زعامتها للعالم بداهة. ولكنّ ماكين، في الوقت نفسه، كان يمثّل شيئاً آخر في السياسة الأميركية: هو الأبيض الثري الذي عانى ووقع في الأسر وتعرّض للتعذيب. هذا جعله، في عين المجتمع السياسي الأميركي، «بطل حربٍ» ورجلاً خارجاً من مأساة، لا يجوز التشكيك به أو الهجوم عليه. حين يقول ماكين كلاماً عنصرياً عن الآسيويين فالجميع «يتفهمه» لأنه قد عانى، وحين يطالب بالحرب ضدّ روسيا والصين والعراق وإيران، فهذا لا يعيبه (لأنّ الأميركي الذي يمرّ بالمعاناة هو «استثنائي»، يحقّ له أن يصاب بالرهاب وكراهية الأجانب، وأن تحكمه الرغبة بإبادة الشيوعيين). بل لم يجرؤ أحد في السياسة على التشكيك بروايته عن سنوات الأسر، رغم التناقضات الكبيرة فيها والمبالغات الواضحة (الجميع يعلم بأن بين ما يرويه السجناء والأسرى عن حياتهم في الداخل وبين ما جرى في الواقع مسافة، وقد أُعطي ماكين الحرية الكاملة ليصوغ روايته كما يريد - ولو كنت أسيراً لدى العدوّ وخرجت، لم يكن هناك شهودٌ من أبناء جلدتي عن أيام السجن، فسأدّعي بالطبع أنني كنت بطلاًَ، وأني تعرضت لتعذيبٍ لم يحصل مثله في التاريخ، وقد صمدت بصلابة وصفعت المحقّق).
ليس الغريب أن يكون هناك عربٌ مفتونين بماكين، فهذا أصبح «نمطاً» مكرّساً بين نخب الجنوب، التي ظلّت إلى البارحة تترحّم على جورج بوش وغزواته. المشكلة هي أنّهم يرجّعون هذه السياسات إلى شخصيات وصفاتها (بوش حازم، أوباما «جبان»، الخ)، ولا يفهمون أنّ الإمبراطورية لها منطقها الخاص، وأنّ «زمن بوش» هو الذي مضى، والحنين لن يرجعه. دعوات ماكين لغزو سوريا كانت تجري فيما هو وحزبه خارج البيت الأبيض، وليس لكلامه أي تبعات تنفيذية أو سياسية حقيقية، الرجل كان مجرّد سيناتور لأريزونا. وأنت، حين تعزّي بماكين وتتأسف عليه، فإنّ هذا لا يعود إلى صفات ماكين ودوره المتخيّل، بل يكشف عن شخصيتك أنت.