الأزمة الحالية في تركيا ليست فقط نتاج التناقضات في العلاقة مع الولايات المتحدة، هي قبل ذلك أزمة النظام الذي بنى شرعيته على أساس الخروج من الأزمات الاقتصادية التي كادت تودي بتركيا في مرحلة التقلُّبات السياسية عقب كلِّ انقلاب. حزب العدالة والتنمية أتى باسم القطيعة مع هذه المرحلة، ووعد بتحقيق الاستقرار السياسي، وتأمين عبورٍ سلسٍ بالبلاد إلى ضفّة الديمقراطية الناجزة. حصول ذلك كان يتطلَّب بالإضافة إلى حسم مسألة تدخُّل الجيش في الحياة السياسية إضعاف الأحزاب المنافِسة، إلى الحدّ الذي لا تعود تمثّل فيه أيَّ تهديد لحكم حزب أردوغان. حصل ذلك على مراحل، ولكنه كان كافياً لجعل المعارضة للحكم مقتصرة على دوائر محدّدة في اليسار التقليدي، منها حزب الشعب الجمهوري، قبل أن يظهر حزب الشعوب الديمقراطي كممثّل ليس فقط للأكراد، بل أيضاً لكلّ الشرائح التي همّشها حكم أردوغان.
غياب المعارَضة الاقتصادية
إضعاف الحياة السياسية بهذا الشكل جعل عَمَلَ المعارضة يقتصر على محاولة إثبات الوجود. لم تولِ أيٌّ من أحزابها حتى تلك التي تنتمي إلى اليسار الشأنَ الاقتصاديّ أيَّ أهمية، فتركت حزب العدالة والتنمية يفعل بالاقتصاد ما يشاء، وركَّزت في المقابل اهتمامَها على النيل من أردوغان سياسياً. وفي الأثناء كان الرجل يزداد قوَّةً وجماهيريةً على المستوى السياسي، وفي الاقتصاد، ينفِّذ ما وعَدَ به لجهة جعل تركيا جنّةً للمستثمرين الأجانب. قبل حكم العدالة والتنمية كانت البلاد لا تزال تحتفظ بقطاع عامٍّ قويّ، ولم تكن قد وصلت بعد إلى حدّ الاندماج شبه الكامل في النظام الرأسمالي الدولي. صحيح أنّ عدم الاستقرار السياسي كان يؤثِّر سلباً بالنموّ، ولا يسمح بتحقيق التراكم المطلوب اقتصادياً، لكن احتفاظ الدولة بالقدرة على التدخّل كان يحدّ من تأثير ذلك بالشرائح الأكثر فقراً، فيحصل توزيع يسمح بوصول الدخل أو الثروة إلى الجميع تقريباً. لكن بعد وصول «العدالة والتنمية» إلى الحكم وشروعه في تطبيق إصلاحات نيوليبرالية واسعة في الاقتصاد أصبح من الصعب معاودة فعل ذلك مجدداً. الاستقرار الذي أتى به أردوغان وصحبه كان على حساب هذه الوجهة تحديداً، ولمصلحة شرائح مستفيدة من اندماج تركيا في أسواق المال الدولية. نشأت بفعل ذلك، وفي غياب أيِّ معارضة اقتصادية تذكر، نخبة جديدة تركَّز جلُّ اهتمامها على تحقيق معدّلات نموّ كبيرة تسمح للبلاد بإحداث طفرة اقتصادية. وقد حصل ذلك بالفعل، ولكن دون ربط النموّ المتحقِّق بالإنتاج أو بالتوزيع، ومن دون قدرة فعلية للدولة على السيطرة على حركة الرساميل المتدفِّقة بكثافة على البلاد بفعل إصلاحات أردوغان. عدم القدرة على التحكُّم بالعملية الاقتصادية سمح للرساميل الأجنبية بالاستحواذ على الحصّة الأكبر من الدخل الوطني، وأضعف بالتالي مناعة الاقتصاد تجاه أي هزّة تحدث حين تنتهي الطفرة أو تتأثّر بعامل سياسي معيّن.

قوّة عامل التبعية
انكشاف الاقتصاد التركي بهذا الشكل لا يسمح له بالقدرة على حماية نفسه حين تُفرض عقوبات معيّنة أو تُمنع البلاد من الوصول إلى أسواق المال. لا يستطيع أردوغان في هذه الحالة ادعاء قوّة الاقتصاد أو قدرته على تنويع الموارد ومصادر التبادل، وحتى لو أُتيحَ له ذلك جزئياً بسبب العلاقة مع روسيا أو الصين، فإنّ التشريعات النيوليبرالية التي أقرّها حزبه لا تساعد على حصول ذلك، وتقف حائلاً بين الإرادة السياسية المستجِدّة والقدرة الفعلية على فكّ الارتباط مع الغرب اقتصادياً. التكامل مع هذه البلدان في إطار إقليمي كـ«البريكس» أو الاتحاد الاقتصادي الأوراسي يتطلّب حصول تشريعات متماثلة لجهة القدرة على مجابهة الغرب حين يلجأ هذا الأخير إلى الضغط السياسي عبر أدوات مثل العقوبات أو سواها. تركيا لا تفتقر فحسب إلى هذا النوع من التشريعات، بل يُعتبَر اقتصادها بعد انعطافه نحو النيوليبرالية الأقلّ قدرةً من بين اقتصادات دول الإقليم على تأمين مصادر الاكتفاء الذاتي حين تتعرّض البلاد لأزمة اقتصادية أو حصار من النوع الذي تفرضه الولايات المتحدة عليها حالياً. لو كانت قدرة الدولة على التدخّل لا تزال موجودة لما انهارت الليرة التركية بهذا الشكل السريع، ولما اضطُرَّ أردوغان إلى الاستعانة بحلفاء مثل قطر لإيجاد مخرج له من هذه الورطة. اللجوء إلى هذه الدولة الحليفة أو تلك يوفِّر مخرجاً بالطبع، لكن الأزمة لن تُحلّ بالاستدانة، حتى لو لم يكن الطرف الدائن جهةً اقتصاديةً رأسمالية كصندوق النقد الدولي. حين تلجأ الدول إلى فعل ذلك تكون فعلياً في حالة عجز، ليس فقط عن إيفاء ديونها أو عن منع انهيار سعر العملة، بل أيضاً عن توفير الحدّ الأدنى الممكن من الاستقرار الاقتصادي، وهو الحدّ الذي يسمح «لعملية الإنتاج» بالاستمرار.

خاتمة
وصول تركيا إلى هذا الدرك يعني أنّ النموذج الاقتصادي الذي أفضت إليه إصلاحات اردوغان النيوليبرالية قد أوشك على الانهيار، وهذا يتطلّب بالدرجة الأولى وجود معارضة تضع الشأن الاقتصادي على رأس أولوياتها بدلاً من الانشغال بمناوشات سياسوية ضيقة لا أفق ممكناً لها غير النيل من الرجل سياسياً. في النهاية، استعادة تركيا حياتها السياسية لا تكون بمقايضة النظام السياسي المستقرّ بالتبعية الاقتصادية الكاملة كما فعل أردوغان، بل بجعل فكّ الارتباط مع الغرب اقتصادياً أساساً لبناء نظام سياسي لا يرتهن استقراره بالحالة النيوليبرالية، ولا بجعل سعر صرف العملة الوطنية محدِّداً لمتانة هذا الاقتصاد أو ذاك.
* كاتب سوري