إلى وقتٍ ليس ببعيد، كانت المحاصصة تهمة ومأخذاً على المشاركين في منظومتها والمساهمين، سراً، غالباً، في تكريسها أساساً لتوزُّع السلطة والنفوذ والإدارة والموازنة في الدولة اللبنانية. ينطبق ذلك، خصوصاً، على مرحلة ما بعد إقرار «اتفاق الطائف» لعام 1989 وتكريس بنوده الإصلاحية في الدستور اللبناني بموجب القانون الدستوري رقم 21/9/1990. ذلك أن دستور «الطائف»، وقُبيل ذلك اتفاقه، قد اشتقا معادلة جديدة للحكم وممارسة السلطة، من خلال إلغاء هيمنة رئاسة الجمهورية على القرار في البلاد ونقل سلطة القرار التنفيذي في الدولة إلى مجلس الوزراء مجتمعاً. في امتداد ذلك وبالتكامل معه أُقرَّت آلية واضحة وحاسمة لإلغاء الطائفية السياسية والوظيفية على مرحلتين: مرحلة أولى فورية مباشرة، يُلغى بموجبها القيد الطائفي من كل وظائف الدولة، في كل الأسلاك، باستثناء الفئة الأولى. ومرحلة ثانية، انتقالية و«مؤقتة»، منوط إنجازها بأول مجلس نيابي يعتمد المناصفة الطائفية ريثما يُنشأ مجلس نيابي خارج القيد الطائفي، مقروناً بإنشاء «مجلس شيوخ» محدّد الصلاحيات للنظر في الشؤون المصيرية. ضمناً، رُحِّلَت «المناصفة» إلى هذا المجلس المستحدث الذي، فيه، وحده، يُعبَّر عن الهواجس والاعتبارات الطائفية، ويجري احتواؤها في نطاق الصيغة الجديدة المُحرَّرة من القيد الطائفي.لم يتعامل أحد، تقريباً، مع تعديلات الدستور المذكورة وسواها، ومع الدستور عموماً، باعتباره، نصاً واجب التطبيق كما هو الأمر في الدول المستقلة والمستقرة والمتطورة. لا سلطة الوصاية السورية، التي كانت تدير البلاد، فعلت ذلك، ولا القوى المحلية الشريكة لها طالبت بهذا الأمر. طبعاً، هناك من رفض اتفاق «الطائف» من أساسه، وبالتالي، «إعطاء توقيعه» كالعماد عون الذي كان، على الأقل، يطالب ببلوغ سدة الرئاسة الأولى (من دون شرط من نوع تقديم تنازل أساسي في سلطة تلك الرئاسة، في انتظار توازنات داخلية وإقليمية مختلفة). لم يكن خصوم العماد عون بعيدين أيضاً عن الاحتكام إلى ميزان القوى في حقل التطبيق. وهكذا فقد أُخضِع «اتفاق الطائف» ونصوصه الإصلاحية، خصوصاً، لحسابات القوى الأكثر نفوذاً وتأثيراً ولمصالحها، ما حوَّل تلك النصوص إلى هياكل فارغة. عزَّز من هذا الأمر تواطؤ عام على التنكر للإصلاح بأفق التخلص من القيد الطائفي، وهكذا أصبح النص في مكان والتطبيق في مكان متعارض غالباً. إخضاع النص لموازين القوى (والتلويح به كـ«فزَّيعة» أحياناً لاستدراج سكوت فريق أو موافقته)، أدى إلى استبدال هيمنة بأخرى من ذات الطبيعة الطائفية. عزَّز ذلك من نشوء شعور جديد بـ«الغبن» وأعطى مشروعية لحركة اعتراض ثابر على تغذيتها العماد ميشال عون وتياره حتى برزت ظروف مواتية خصوصاً بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وانسحاب القوات السورية مرغمة من لبنان في أواخر نيسان من عام 2005.
عدم احترام الدستور تفاقم بعد الانسحاب السوري لمصلحة تعزيز النزوع لتحويل المؤقت إلى دائم في الدستور، ومن ثم إطلاق الصراع على النفوذ والمواقع السياسية والإدارية إلى مداه الأقصى. اتخذ ذلك، بعد عودة العماد ميشال عون عام 2005 والالتفاف الشعبي حوله، طابع المطالبة بالشراكة و«الحقوق» وتكريس «المناصفة» المؤقتة في نصوص دستورية دائمة، وخصوصاً بعد تسلُّم عون مقاليد رئاسة الجمهورية في 31 تشرين الأول من عام 2016. فاقم ذلك، في يوميات السياسة اللبنانية، عملية تداول، مكشوفة ومباشرة، للمفردات الطائفية والمذهبية. تجلى ذلك في محاولة إقرار قانون انتخابات طائفي مخالف للدستور كلياً (المشروع الأرثوذكسي). الصراع الدائر على «الصلاحيات» الذي تعزَّز مع رئاسة العماد ميشال عون ومع التعبئة الشاملة (في الداخل والخارج) التي يقودها تياره، وكذلك الأمر بالنسبة إلى انفراط عقدي كل من تحالف 8 و14 آذار، نقل الصراع، في المرحلة الأخيرة، خصوصاً، إلى صراع شامل على السلطة، وليس على توازناتها فقط. أبرز اللاعبين وأنشطهم، في هذا الحقل: التيار العوني.
في السوق، الآن، الحصص، والحصص فقط. إنها تحجب، أحياناً، حتى التزامات أطراف داخلية بشأن صراعات المنطقة واستقطاباتها. لا يتردد أحد في المطالبة بحصة. لا يشعر أحد بالإحراج من هذا الإمعان في التنكر للدستور وللمصالح الوطنية المهدَّدة، إلى الحد الأقصى، بسبب الانقسام الداخلي، وتحديداً الانقسام الطائفي والمذهبي وبسبب الفئويات المنفلتة دون ضوابط. اقتران ذلك بتفاقم العجز والشلل، وبتمادي النهب والصفقات والفساد والهدر... سيؤدي حتماً إلى أزمات كبيرة وداهمة أبرزها الأزمة الاقتصاية، ما يجعل البلد مكشوفاً تماماً، أيضاً، أمام مشاريع خبيثة يحملها ويمثلها، حالياً، مشروع «صفقة القرن»، الأميركي الصهيوني الذي يتوسل تغذية مناخ التقسيم والتفتيت، بالاحتراب والعصبات والفتن، في المنطقة: داخل دولها وفي ما بينها.
هذا الخطر قائم وليس تهويلياً. إقامة كيانات، بهويات طائفية وإثنية وقومية، مسألة قابلة للتطبيق من ضمن صفقات سيكون فيها الطرف العربي، بحكم الانقسام والتبعية والضعف... الطرف الأكثر عجزاً وتضرراً. سيمرّ ذلك حتماً بتسعير ما هو قائم من صراع مؤسس على العصبيات المذهبية والطائفية والقومية... سقوط أو تراجع بعض حلقات هذا المشروع (المنظمات الإرهابية) لا يعني أبداً عدم إيجاد أدوات أخرى. تقدَّم الصراع المذهبي عامل شديد الخطورة ما لم يجرِ احتواؤه ومحاصرة خطره وأضراره في أضيق نطاق ممكن. ليس في الأفق الآن، ما يشير إلى ذلك الاحتمال. يستمر الصراع تحت العنوان المذهبي متأججاً ومتوسعاً تغذيه مصالح كبرى إقليمية ودولية.
مزيد من المحاصصة يعني، بالضرورة، مزيداً من الانقسام والدويلات والتبعية والنهب والفساد والعجز والفشل...
هذا وضع كارثي عموماً. وهو في لبنان يحتاج إلى صحوة استثنائية لكي لا تتبدد نجاحات وتضحيات نستعيد في هذه الأيام بعض صفحاتها الخالدات في ذكرى هزيمة العدو الصهيوني وحلفائه عام 2006.
* كاتب وسياسي لبناني