لكيان العدو الإسرائيلي تاريخ طويل من الإجرام، وقد بُني حتى على معاناة اليهود أنفسهم، منهم مثلاً يهود العراق الذين كانوا يتمتعون بمكانة مميّزة عن سائر الأقليّات في الدول العربية، واخترعت طرق عجيبة لنقلهم، فيما اقتُلع الفلسطينيون من أرضهم بالدم والترهيب. لنعد قليلاً في الذاكرة. استقرّ اليهود في بلاد ما بين النهرين منذ نحو ثلاثة آلاف سنة، وهي منطقة مهمة اقتصادياً وطبيعياً، وتشكّل صلة وصل ما بين الشرق والغرب. لذا حاولت كل مملكة وإمبراطورية عظيمة في حقبات متفرقة من التاريخ فتح هذه البلاد. لكن بعد سقوط نينوى، عاصمة الدولة الأشورية، ارتحل هؤلاء اليهود إلى مختلف أرجاء العالم، وتوجه معظمهم إلى بابل. فتح الفرس بابل بقيادة قورش الذي أسّس الإمبراطورية الفارسية الجديدة. بذل الفرس أقصى جهودهم لكسب ثقة اليهود، ثم قرر قورش شنّ هجوم على القدس، فهاجر إليها بعض أصحاب الثروات والفنيين اليهود. أدت هذه الهجرة إلى خلق علاقة وثيقة بين بابل والقدس، ولم يحدث الهجوم عليها. شهد المجتمع اليهودي تقدماً كبيراً في الفترة التي حكم فيها الفرس. كان يهود العراق يعيشون بترف ورخاء، واندمجوا مع المواطنين الآخرين في البلاد في أنماط الحياة كافة، وهم في الواقع شكّلوا دولة داخل الدولة. لم يترك اليهود العراق عندما ادّعى القائد الفارسي أنّه المسيح المنتظر، واعداً بإعادة بناء «هيكل أورشليم» (لم يتبعه إلّا ثلث اليهود). بعد قرون ازدهر اليهود في عهد الخلفاء العباسيين، في ظل حقبة عُرفت بـ«العصر الذهبي» لديهم. وأصرّوا على البقاء في العراق، خاصةً أثناء احتلال المغول. أيضاً رفض اليهود مغادرة العراق، باستثناء 90 عائلة، عندما بدأ القادة العثمانيون يقيدون حياتهم ويحوّلونها إلى جحيم. حتى بعد مجزرة بغداد عام 1941 (التي نظمها البريطانيون) لم يغادر أي يهودي العراق. لكن تحالف الحكومة العراقية مع الناشطين البريطانيين وقادة الحركة الصهيونية، أدّى إلى ضرب جذور اليهود في العراق، من أجل ترحيلهم إلى فلسطين. وفي هذا السياق، قال عزرا مناشيم، وهو عضو يهودي في مجلس الشيوخ الأميركي، إن «اليهود عاشوا في العراق منذ نحو 2500 سنة. ولد سلفنا إبراهيم على هذه الأرض (ثم عرض تاريخ اليهود في العراق)، وسيكون بالتالي من الصعب عليهم ترك هذه البلاد. لكن بما أنهم قرروا فعل ذلك، فسيكون ذلك نتيجة الضغط والاضطهاد».في أواخر العشرينيات، أُنشئت في بغداد مكتبة «سميت اتش-ابر». تضمنت هذه المكتبة كتباً باللغة العبرية عن تاريخ اليهودية في العالم. جذبت هذه المكتبة عدداً كبيراً من شباب اليهود المثقفين الذين وجدوا وسائل لتنظيم أمسيات عن الثقافة والتقاليد، بخاصة في الأعياد اليهودية. بعد ذلك، قام العديد من الناشطين الصهاينة بزيارة العراق، كما قدم العديد منهم من فلسطين بحجة تعليم اليهودية. فشلت كل هذه النشاطات في نقل اليهود من العراق إلى فلسطين (خلال تلك الفترة، لم يتجاوز عدد الشباب العراقيين الذين استوطنوا فلسطين 25 شخصاً، معظمهم كانوا شباناً فارين من الخدمة العسكرية العراقية). ذكر نعيم جلعادي (كاتب يهودي معادٍ للصهيونية من أصل عراقي) (1) في كتابه «فضائح بن غوريون» (2) الأساليب الإجرامية التي اتبعها الصهاينة لإخراج الفلسطينيين من أرضهم، لكي يتسع المكان ليهود العالم أجمع. اهتم الصهاينة كثيراً بجلب يهود البلدان الإسلامية، وذلك لحاجتهم إلى اليد العاملة الرخيصة، ولا سيما للعمل في المزارع، الذي يعدُّ دون مستوى يهود أوروبا الشرقية المتمدنين. لقد احتاجوا إلى آلاف اليهود الشرقيين ليزرعوا ما ترك الفلسطينيون خلفهم، بعد أن طردتهم القوات الصهيونية عام 1948.
كانت القوات الصهيونية تُخلي القرى العربية من سكانها، غالباً بفعل التهديد أو بإرداء عشرات العرب العُزَّل قتلى، عبرة لغيرهم. ولكي يضمنوا عدم عودة العرب إلى هذه القرى وعدم عيشهم فيها، كانوا يضعون بكتيريا «التيفوس والدوزنطاريا» في آبار المياه ويجرفون منازل العرب. كانت عكا تتمتع بموقع ممتاز يتيح لها الدفاع عن نفسها بقلة من المسلحين، لذا وضعت «الهاغانا» بكتيريا في النبع الذي يصبّ في البلدة، وتمكنت القوات الصهيونية تالياً من الاستيلاء عليها. عندما أُعلنت دولة إسرائيل، سارع اليهود الفقراء إلى التخلي عن حياتهم في العراق وتقديم طلب مغادرة إلى الكيان الإسرائيلي. أخذ عدد المهاجرين يزداد إلى أن راوح ما بين 600 و700 مهاجر في اليوم الواحد.
المجرمون الحقيقيون هم القادة الصهاينة، الذين طردوا الفلسطينيين إلى الدول الإسلامية، واستقدموا اليهود من الدول نفسها. بعد طرد ما يقارب 750 ألف فلسطيني من أرضهم، أخذ الصهاينة يبحثون في الدول الإسلامية عن اليهود لتأمين اليد العاملة الرخيصة. وكان اهتمام الصهاينة منصبّاً على هجرة اليهود الشرقيين إلى فلسطين، حتى لو عنى ذلك التعاون مع النازيين. واستُخدِمَت طريقتان لهذا الهدف، فاليهود غير المتعلمين رُويت لهم أخبار عن إسرائيل توراتية يبصر فيها الأعمى ويسير فيها المشلول، وتبلغ فيها البصلة حجم البطيخة. أما اليهود المتعلمون فرُميت عليهم القنابل. حيث ذكر «ولبر كرين ايفلاند» (مسؤول المخابرات المركزية الأميركية في الشرق الأوسط من عام 1950 إلى عام 1980) في كتابه «حبال من رمال» أن الصهاينة ألقوا القنابل على المكتبة العامة الأميركية وفي الكنائس اليهودية في العراق. كذلك نُشرت مناشير تحثّ اليهود على المغادرة إلى فلسطين، ومناشير أخرى معادية لليهود والأميركيين، ليتبيّن لاحقاً أن كل ذلك كان من صنع الحركة الصهيونية السرية.
وشركاؤهم في الجريمة هم القادة البريطانيون. فلطالما عملت بريطانيا بما يتناسب مع مصالحها الاستعمارية. لذلك، أرسل وزير خارجيتها آرثر بلفور رسالته الشهيرة عام 1917 إلى «اللورد روتشيلد» مقابل الدعم الصهيوني في الحرب العالمية الأولى. وبذلك تكون بريطانيا شريكة في المهمات الإجرامية للحركة الصهيونية. لم يتوقف الأمر على بريطانيا والحركة الصهيونية. فقد أعلن نوري السعيد وضع خطة تبادل، حيث يُرسَل اليهود العراقيون إلى فلسطين من طريق الأردن، ويستقبل العراق عدداً من اللاجئين الفلسطينيين. ولما لم تنجح هذه الخطة، لرفض البريطانيين، استخدم أسلوب تحويل حياة اليهود العراقيين إلى جحيم، حيث طردوا من وظائفهم وحرّم على التجار اليهود الاستيراد والتصدير، وأخذت الشرطة تعتقل اليهود لأتفه الأسباب، ما أجبرهم على المغادرة. وبذلك، يكون القادة العراقيون شركاء في الجرم. خلال عام 1942، صدر تقرير عن كهربة جدران حيين يهوديين في العراق. وفي العام نفسه صدر تقرير عن منع يهود النمسا من شراء البن، والكاكاو والفاكهة (كل ذلك لإجبار اليهود على الهجرة إلى فلسطين).
عندما وصلت سفينة «باتريا» إلى الكيان الإسرائيلي، كانت «الوكالة اليهودية» تمتلك قرابة 29 ألف تأشيرة دخول، كان بوسعها استخدام هذه التأشيرات لإدخال اليهود على متن السفينة. لكن «الهاغانا» فخّخت السفينة وتفجيرها، حيث مات 257 شخصاً، وقد ذكرت الوكالة أن العملية قام بها الركاب أنفسهم من باب الاحتجاج. رفضت الوكالة تقديم تأشيرات دخول لسفينة «ستورما» حيث كانت الوكالة تمتلك 25 ألف تأشيرة دخول (3)، ولكنها رفضت تقديمها للركاب. جُرّت السفينة بواسطة قارب سريع تابع للشرطة التركية إلى عرض البحر وغرقت في ظروف غامضة (4). قتل قرابة 1200 شخص نتيجة غرق السفينتين. استفاد الصهاينة من غرق «ستورما» حيث جذبوا التعاطف العالمي والدعم بغية فتح أبواب فلسطين. حصل كل ذلك الهتك بأرواح البشر بسبب الأهداف المشبوهة للحركة الصهيونية. ألقى «بن غوريون» (أول رئيس وزراء إسرائيلي) خطابات عنصرية عن اليهود القادمين من الدول الإسلامية، قائلاً إنهم «أفاكي آدم» أي أقل من البشر. وهذه المعاملة ما زالت مستمرة إلى يومنا هذا، إذ إن هؤلاء اليهود يُعَدّون مواطنين من الدرجة الثانية.
اعتُقل أحد أفراد الحركة الصهيونية (5)، وقد أطلع الشرطة العراقية على اثني عشر مخزناً للذخيرة، يحتوي على مئات القنابل اليدوية، عشرات المسدسات، مدافع رشاشة، عبوات ناسفة، فضلاً عن المواد الكيميائية لتجميع قنابل المولوتوف، القنابل المحرقة والقنابل الغازية. قارن المحقق القنابل الموجودة في المخازن مع الشظايا في أماكن الانفجارات ليجد أنها متطابقة. لقد قام الصهاينة بمساعدة بريطانيا وبعض القادة العراقيين، بكل هذه الأعمال الإجرامية ضد أشخاص كانوا يعدّونهم أبناء دولتهم. فهل تحالف الرؤساء العرب والحكومات العربية سيضمن مصالح الدول العربية، أم هذا التطبيع سيخدم كيان العدو ومصالح الاستعمار في المنطقة؟

هوامش:
(1) في الحقيقة اسم الكاتب هو نعيم خلاصجي ولكنه غيّر اسمه بسبب التمييز في الكيان الإسرائيلي بين يهود أوروبا الشرقية ويهود الدول العربية والإسلامية.
(2) لم يتمكن خلاصجي من نشر كتابه في الكيان الإسرائيلي أو حتى في الولايات المتحدة، وقد نشره بماله الخاص.
(3) في مطلع شباط 1942، وصلت سفينة ستروما إلى إسطنبول، وكان على متنها 769 مهاجراً. رفضت سلطة الانتداب البريطانية السماح للسفينة بأن ترسو في مرفأ حيفا.
(4) عانت السفينة قبل غرقها من نقص في المواد الحيوية، بما فيها الماء.
(5) المعتقل هو شالوم صالح، وهو المسؤول عن مخازن الأسلحة الصهيونية، وقد اعتقل في 10 حزيران 1951 إبان وجوده في كنيس «ماسودا شيم توف».
* كاتب لبناني