يستمرّ وثائقي محطة «العربيّة» في سرد النكبة من وجهة النظر الإسرائيليّة المليئة بالأكاذيب والمُراوغة. فيمرُّ على إعلان دولة «إسرائيل» كأنه إعلانُ استقلال لشعب تحرّرَ من احتلال أجنبي. ومرَّ الوثائقي مرور الكرام على خطة «داليت» التي أسهبَ وليد الخالدي في الكتابة عنها (1) قبل أعوام طويلة من بروز المؤرّخين الجدد في دولة العدوّ (2). وخطة «دي» هي الخطة العليا للسيطرة العسكريّة الأكبر على الأراضي العربيّة ــ أي تلك الممنوحة للعرب حسب قرار التقسيم ــ وباسم قرار الأمم المتحدة. ولم يكن «الدفاع» عن اليهود إلا اسماً آخر للهجوم على العرب واحتلال أرضهم، كما حدث في الجليل (3).وكان الإعلام الصهيوني والإعلام الغربي برمّته يردّدُ عبر عقودٍ طويلة الكذبة الصفيقة عن أن شعب فلسطين هجر وطنه بناءً على إلحاح رسمي من الأنظمة العربيّة (واعتمدت الكذبة تلك على جملة واحدة وردت في مذكّرات خالد العظم (4) التي صدرت في ١٩٧٢). لكن هذه المزاعم تبدّدت عبر السنوات بعد نشر دراسات محّصت في ملخّصات الإذاعة البريطانيّة وناقضت ما قاله الصهاينة. وكان وليد الخالدي سبّاقاً في دحض الكذبة في مقالة له في عام ١٩٥٩ (5). ويمكن الرجوع إلى مجموعتيْن لرصد الإذاعات العربيّة في عام ١٩٤٨، واحدة كانت من قبل الـ«بي. بي. سي»، والأخرى من قبل المخابرات الأميركيّة. وفي المجموعتيْن ليس هناك أي دليل ــ ولا دليل ــ على أنه كان هناك أمرٌ عربيٌّ للشعب الفلسطيني كي يغادرَ أرضه (6).
لكن الموضوع حُسمَ بعد نشر وثائق «الأرشيف الصهيوني» وكتابات المؤرّخين الجدد وأوراق بن غوريون التي أثبتت بصورة قاطعة أن الصهاينة وضعوا خططاً محدّدة لطرد الشعب الفلسطيني من أرضه. وكانت المجازر في هذا السياق، أي إنها لم تكن عفويّة أو «بنت ساعتها» بقدر ما كانت جزءاً من خطة الترهيب والطرد. ومناحيم بيغن كان صريحاً في كتابه «التمرّد» عن نتائج مجزرة دير ياسين: «المجزرة لم تكن مُبرَّرة، لكن لم يكن لتقوم قائمة لدولة إسرائيل من دون النصر في دير ياسين... الذعر عمَّ العرب في أرض إسرائيل وفرّ العرب مذعورين، صائحين «دير ياسين، دير ياسين». ولا يمكن التقليل من الأهميّة السياسيّة والاقتصاديّة لهذا التطوّر» (7).
وكانت خطة «غيمل» (أو خطة «سي») موضوعة كي تسبق خطة «دي» زمنيّاً. أما خطة «غيمل»، فكانت تقضي بـ«شراء الوقت لتعبئة القوّات الضروريّة لتطبيق الخطة دي. وتقوم القوّات الصهيونيّة بالسيطرة على النقاط الاستراتيجيّة التي يخليها الجيش البريطاني، ثم تقوم القوّات الصهيونيّة بإرهاب السكّان العرب والقضاء على قدرتهم على المقاومة، وتحطيم أي تمركز عربي، وإفقاد توازن القوّات العربيّة» (8). وشمل التخطيط الصهيوني احتمال ألّا تكون خطة «دي» ضروريّة إذا ما تهاوت المقاومة الفلسطينيّة أمام الحملة الصهيونيّة لإنشاء دولة الاحتلال، لكن ذلك لم يحدثْ. المقاومة الفلسطينيّة استدعت اللجوء إلى خطة «دي». والخطأ التأريخي ــ الدعائي الأكبر الذي يرد في الروايات الصهيونيّة، بما فيها هذا الوثائقي الإسرائيلي الذي تبنّته محطة «العربيّة»، أن الحركة الصهيونيّة أعلنت بهدوء وسكينة «دولتَها» في ١٥ أيّار ١٩٤٨، فما كان من العرب إلّا أن «غزوا» فلسطين، ما سبّبَ الحرب العربيّة - الإسرائيليّة الأولى. الحقيقة أن الحرب بين العرب واليهود لم تتوقّف بين تشرين الأول ١٩٤٧ و١٥ أيّار ١٩٤٨، لكن الإقرار بذلك ينسف عماد الرواية الصهيونيّة وتسويغها لعنفها ولطردها للسكّان الأصليّين. وكان الوضع العسكري العربي متماسكاً حتى آذار، وكان هذا يهدّد الموقف الأميركي. وطُبِّقَت خطة «دي» في آذار ١٩٤٨. ولم يخطئ المؤرّخ إيلان بابييه عندما وصف الخطّة بـ«مخطط للتطهير العرقي» وأنه هدفَ إلى «تدمير الأماكن الريفيّة والمدينيّة لفلسطين» (9). ولا ينكر المدير السابق للاستخبارات العسكريّة الإسرائيليّة، يهوشفات هركبي، هذه الخطة، وهو يُعطي تعريفاً صهيونيّاً مُغرضاً للمخطّط إذ يقول إنه لم يهدف إلا إلى السيطرة على البلدات العربيّة في داخل الدولة التي منحتها الأمم المتحدة لليهود (كأن قرارات الجمعيّة العامّة هي مُلزِمة في القانون الدولي، لكنها مُلزِمة فقط إذا كانت في صالح إسرائيل، بينما تبقى قرارات مجلس الأمن غير مُلزِمة ــ وهي ملزمة في القانون الدولي ــ إذا لم تكن في صالح إسرائيل) بالإضافة إلى بلدات عربيّة متاخمة لحدود الدولة اليهوديّة (10).
اعتمدت المحطة في تقريرها الإسرائيلي على شهادات يهود صهاينة فقط


ولو أن «العربيّة» التزمت فعلاً لا قولاً وعدَها بأنها اعتمدت على شهادة العرب واليهود معاً من دون «إيديولوجيّة أو تحزّب» لكانَ المرء أكثر تقبّلاً للمحاولة، مع أن التحالف الراهن بين النظام السعودي ودولة العدوّ يُحضّر المشاهد للأسوأ. لا، لم تعتمد المحطة في تقريرها الإسرائيلي على شهادة العرب واليهود، بل اعتمدت فقط على شهادات يهود صهاينة، من دون حتى الاستعانة بشهادات محايدين أو أشخاص عاصروا المرحلة ولم يكونوا عرباً. وكانت بعض الشهادات العربيّة التي وردت في الوثائقي من باب رفع العتب فقط. لكن دعك من مضمون الوثائقي: لماذا لم ترد فيه مثلاً شهادة الرائد البريطاني إدغار أوبلانس الذي يقول في شهادته الموثّقة: «كانت السياسة اليهوديّة في تشجيع العرب على ترك منازلهم واستعملوا وسائل الحرب النفسيّة بكثافة لحثّهم على ذلك. بعد ذلك، بعد أن استمرّت الحرب، طردوا العرب الذين تمسّكوا بقراهم» (11). وكان ديفيد بن غوريون نفسه أكثر صراحة من «العربيّة» في النيّات العدوانيّة للحركة الصهيونيّة، إذ يقول في روايته عن إنشاء الدولة: «وبحلول شهر نيسان، تحوّلت حربنا الاستقلاليّة بقوّة من الدفاع إلى الاعتداء» (12). والمحطة تقول إن الـ«هاغاناه» هي للدفاع عن النفس، فيما بن غوريون نفسه يقول: «أفضل دفاع هو الهجوم» (13).
وكما أن التقرير زوّرَ في نصّ وعد بلفور لخدمة الغرض الصهيوني، وزوَّر أيضاً في نص «الكتاب (البريطاني) الأبيض» لعام ١٩٣٩، فإنه زوّرَ في إعلان دولة إسرائيل وجعلَ منه وثيقة وديعة حالمة تعد الجميع بالسلام، فيما هي وثيقة عنصريّة تنطلق من منطق فرض السيطرة اليهوديّة على شعب أدنى مرتبة منه (وحتى وعود المساواة كانت في سياق مفهوم «انبياء اليهود» حسب النص الأصلي، وهي حصرت حق الهجرة باليهود فيما تحدّثت عن حقوق الآخرين بطريقة كوميديّة - تراجيديّة).
وتبلغ وقاحة التقرير حدّ اعتناق كل مصطلحات الدعاية السياسيّة الصهيونيّة المناقضة لحقائق التاريخ. يروي التقرير أن جيوش الدول العربيّة «المجاورة» (أي لدولة إسرائيل، صديقة المحطة) «غزت» المناطق الفلسطينيّة على إثر إعلان الدولة. لكن الحرب كانت جارية منذ العام الذي سبق إعلان الدولة، كذلك اعتدت جيوش العصابات الصهيونيّة على المناطق المخصّصة للكيان الفلسطيني (حسب قرار التقسيم) قبل ١٤ أيّار ١٩٤٨. وتعامل التقرير مع «إعلان الاستقلال» الصهيوني على أنه بادرة صداقة نحو الجيران، فيما كان هو إعلان حرب على العرب في فلسطين وعلى كل مَن يجرؤ على مؤازرتهم (للأسف، لم تكن ولا حكومة عربيّة ــ من دون استثناء ــ جديّة في مؤازرة شعب فلسطين، وإن كانت الدولة اللبنانيّة والأردنيّة آنذاك قد سجّلتا عاراً خاصّاً في التواطؤ ــ بأدوار مختلفة لكلٍّ منهما ــ مع المشروع الصهيوني). ولماذا لم يذكر التقرير أنه مِن بين الموقّعين الصهاينة على «إعلان الاستقلال» لم يكن بين الـ٣٧ رجلاً غير رجلٍ واحد فقط مولود في فلسطين؟ (14).
وأصرّ التقرير على التعامل مع اليهود ــ فقط اليهود في حرب كان قد بدأها الصهاينة قبل عقود طويلة ــ كضحايا، مُذكِّراً دوماً بالمحرقة كأنها وصمة عار على الجبين العربي. وأتوا بخبير إسرائيلي ليقول إنه كانت هناك شكوك في قدرة الصهاينة على الصمود بوجه الغزاة العرب، فيما كانت نتائج المعركة العسكريّة معروفة سلفاً، ليس فقط بسبب تواطؤ الأنظمة العربيّة وتخاذلها، بل بسبب التفاوت في القوّة العسكريّة بين الطرفيْن. وحتى لو أدخلنا في الحسبان الجيوش العربيّة ــ الغازية حسب التقرير ــ فإن جيوش دولة العدوّ فاقوا أعداد كل المسلّحين ضدّهم بنسبة تصل إلى ٣:١. وأفتى خبيران إسرائيليّان في التقرير بأن العرب شنّوا الحرب على اليهود المسالمين وخسروها. لكن مَن شنَّ الحرب على مَن؟ إن الكتابات الصهيونيّة الحديثة عن النكبة تقلّ صفاقةً في صهيونيّتها عن صهيونيّة محطة «العربيّة». والتقرير ذكّر المشاهد (المشاهدات عورات في حكم آل سعود) بأن طائرات مصريّة قصفت فلسطين، كأن ذلك يوحي بتفوّق عسكري عربي على اليهود. الغزوة العربيّة لم تكن فعّالة أساساً (وكانت المشاركة السعوديّة رمزيّة فيما كانت المشاركة اللبنانيّة خجولة، وتملّصت قيادة الجيش اللبناني من التزامها العربي وفق خطة الجامعة العربيّة 15). ولم يكن هناك تنسيق بين الجيوش القادمة، إلى درجة أنه حدثت عمليّات إطلاق نار بين عناصر الجيوش العربيّة المختلفة. الجيش الوحيد الذي كان على درجة أعلى من التدريب والإعداد هو الجيش الأردني، لكنه حافظ على مواقع دفاعيّة، ولم تكن أهدافه متعارضة مع أهداف العدوّ إلا في ما يتعلّق بالقدس (16). والتقرير أوحى أن محو فلسطين عن الخريطة لم يكن بسبب إنشاء دولة احتلاليّة عسكريّة على أرض فلسطين، بل إن ذلك كان قد حدث لأن الأردن ضمّ الضفة الغربيّة، ولأن مصر «احتلّت» غزة. أي إن التقرير لا يعترف في احتلال لفلسطين إلا بـ«الاحتلال» العربي لها.

ذكّر التقرير دوماً بالمحرقة كأنها وصمة عار على الجبين العربي


الجزء الثاني (والأخير) من التقرير يبدأ بمشهد لمهاجرين يهود إلى فلسطين وهم يرقصون ابتهاجاً، فيما يسمع المشاهد وقع أنين الكمان مع مشهد رفرفة علم الاحتلال، لإبراز التعاطف «الإنساني» مع احتلال فلسطين. وتعامل التقرير مع فتح أبواب الوطن المحتل أمام المهاجرين اليهود من كل أنحاء العالم على أنه عمل قانوني محض بسبب إلغاء الدولة الجديدة لقرار تحديد (وليس منع) الهجرة اليهوديّة من قبل الاستعمار البريطاني. ويتجاهل التقرير أن قرار فتح أبواب الهجرة اليهوديّة أمام يهود العالم تزامن مع قرار طرد الشعب الفلسطيني من أرضه ومنع عودة المطرودين من العودة بحجج وذرائع مختلفة، ولم تكترث دول الغرب ولا الأمم المتحدة بسماعها. التقرير يذكر أن نصف المهاجرين الجدد كانوا من الناجين من المحرقة (17)، كأن لا ملاذَ على هذا الكوكب للناجين إلا على أرض فلسطين وفي منازل طُرد سكّانها منها. والناجي من المحرقة لا يصبح معصوماً أخلاقيّاً، فهو (أو هي) يمكن أن يرتكب فظاعات (وهذا حدث طبعاً، إذ انضم بعض الناجين إلى الجيش الاحتلالي الإرهابي). وعلى طريقة الدعاية الصهيونيّة التقليديّة، يتجاهل التقرير الأرقام حول عدد السكّان عند إنشاء الكيان الغاصب وحول نسبة الأراضي التي كان اليهود يملكونها، خصوصاً أن فرية «بيع الأرض» لاحقت الشعب الفلسطيني في دول الشتاة، وساهم فيها عرب كثيرون من لبنان إلى السعوديّة (أخيراً حيث تنشر حسابات المباحث هذه الفرية). (طبعاً، إن نصف الأراضي المبيعة كانت مبيعة لملّاك غير فلسطينيّين، لبنانيّين وسوريّين، ونسبة الأراضي المبيعة لم تشكّل حتى أكثر من ٧٪ من مجمل أراضي فلسطين).
وبعد مرور التقرير على فعل إعلان الدولة الاحتلاليّة، تعامل مع فلسطين على أن أهلها هم اليهود فقط، وتناسى ما حلّ بشعب فلسطين. لا، حتى إنه تحدّث عن التقشّف الذي طاولَ حياتهم، في إشارة ربّما إلى ضرورة التعاطف مع المهاجرين. وعرض مشاهد للمحتلّين الصهاينة وهم يقفون بالصف لتلقّي كوبونات إعانة، فيما كان الشعب الفلسطيني يعيش في الخيم. وتطرّق التقرير عرضاً إلى هجرة اليهود اليمنيّين لأنه ركّز على المهاجرين «الراقين» من أصل أوروبي. لكن في الحديث عن هجرة اليهود اليمنيّين، يجب توضيح كيف تعامل المحتلّون الأوروبيّون معهم، خصوصاً أن نصف المهاجرين اليهود كانوا من اليهود العرب. الحقيقة أن اليهود الأوروبيّين الذين أسّسوا الدولة كنّوا ــ ويكنّون ــ احتقاراً عنصريّاً ضد المزراحيم. وقد تعاملت الدولة الجديدة التي فتحت ذراعيْها ليهود العالم ــ حسب إعلاناتها الدعائيّة ــ مع المهاجرين اليهود من اليمن كأنهم مصابون بالجذام. وقد عُزلوا في مخيّمات خاصّة بهم، بعيداً عن المدنيّة (18). ولم يُكشَف عن جرائم الدولة الجديدة ضد المهاجرين اليهود اليمنيّين إلا في السنوات الأخيرة. وقد كانوا أفقر اليهود، وكانت نسبة موت أطفالهم ٥٠٪. لكن «المجزرة» التي يتذكّرها يهود اليمن هي كيف أن اليهود الأوروبيّين كانوا يسرقون أطفالهم منهم، فيما كانت الدولة تُعلم أهلهم أنهم ماتوا. يُقدَّر عدد الأطفال اليمنيّين اليهود الذين «اختفوا» بالألف (19). وحتى عنصريّة بن غوريون (الذي كشفَ المؤرّخ توم سيغيف في كتابه الأخير عن بن غوريون أنه فكّرَ في إمكانيّة فرض تحويل السكّان العرب إلى الدين اليهودي)، والذي اعترف في يوميّاته بأن اليهود اليمنيّين يموتون «كالذباب»، لم يكن مهماً للتقرير أن يشير إليها. وحدها عنصريّة العرب ضد اليهود ــ حسب وصف الوثائقي ــ تستحق التنديد.
وكنّا نظنّ أن التقرير نسي العرب في الرواية التفصيليّة عن معاناة المهاجرين اليهود في فلسطين بعد احتلالها من جراء الأزمة الاقتصاديّة، لكنه تذكّر العرب خارج فلسطين وذكرَ تظاهرات لهم «معادية للسامية» في ١٩٤٨. لم يكن يجب تحميل كل اليهود أوزار سياسات إسرائيل وتبعاتها، لكن هذه دولة أعلنت أنها دولة لكل يهود العالم، أي إنها ربطت بين هويّتها وجرائمها وبين كل يهود العالم، وعليه فإن أي أذى لحق ويلحقُ باليهود يجب أن تُلام دولة الاحتلال عليه، من دون إعفاء مَن يقوم باعتداءات ضد يهود ــ فقط كونهم يهود ــ من مسؤوليّة أخلاقيّة وقانونيّة. ثم لماذا ننكر حقيقة اعتناق الكثير من اليهود العرب للصهيونيّة؟ (يعترف شاهد في التقرير بأن أغلب هؤلاء المهاجرين كانوا من الصهاينة). لكن الموضوع ليس بهذه البساطة. إن أوّل مهمات المخابرات الإسرائيليّة الفتيّة كانت في حثّ اليهود العرب على هجرة بلادهم العربيّة. الدافع طبعاً لم يكن حبّاً باليهود العرب أو تعبيراً عن أُخوّة دينيّة. لا، عند الأوروبيّين العنصريّين كان الدافع ديموغرافيّاً محضاً من أجل ترجيح الكفّة بصورة قاطعة لليهود في الدولة الجديدة. وصمّم الأوروبيّون على فصل عنصري (فعلي وإن كان غير مُعلن جهاراً) بين اليهود الأوروبيّين وذوي الأصل العربي. وهذا الفصل فصل سياسي (من حيث إقصاء المزراحيم عن النخبة السياسيّة ــ وهذا لا يزال سارياً حتى الساعة) واقتصادي (كانت الدولة الفتيّة بحاجة ليد عاملة أرخص). لكن التقرير نفى العنصريّة التي عانى منها المزراحيم، وقال إنهم فقط «واجهوا صعوبة في الاندماج» بسبب عوامل اللغة. كاد التقرير أن يعتنق العنصريّة الصهيونيّة الأوروبيّة ضد العرب أنفسهم. وحده جدعون ليفي تحدّث عن العنصريّة ضد اليهود العرب في الوثائقي (لكنّه أصرّ على «عدم الغوص في التفاصيل»).
استعملت الدولة اليهوديّة كل الوسائل لتحقيق الهجرة اليهوديّة من العالم العربي: عبر التحريض والتخويف وأعمال إرهابيّة. وقد حدثت تفجيرات إرهابيّة ضد أهداف يهوديّة في بغداد بين نيسان ١٩٥٠ وحزيران ١٩٥١. وقد ألقت الحكومة العراقيّة (الرجعيّة الموالية للغرب، وكان ذلك زمن نوري السعيد، حتى لا يُقال إن حزب «البعث» المُمانِع لفّقَ التهمة) على يهوديّيْن أُدينا بالمسؤوليّة عن التفجيرات وأُعدِما، وكانا ناشطيْن في شبكة صهيونيّة في بغداد (ربّما تسرّعت الحكومة في الإعدام لطمس التحقيق). وبصرف النظر عن ملابسات القضيّة، فإنّ من المؤكّد أن «الموساد» كان ناشطاً في بغداد يومها (تأسس «الموساد» رسميّاً في عام ١٩٤٩، لكن الحركة الصهيونيّة، عبر «الوكالة اليهوديّة» التي أسّسها حاييم وايزمن في عام ١٩٢٩، شغّلت جهاز مخابرات قوياً منذ أواخر عشرينيات القرن الماضي). تنفي الحكومة الإسرائيليّة مسؤوليّتها إلى اليوم عن تلك التفجيرات لكن المهاجرين العراقيّين اليهود كانوا على اقتناع بأن «الموساد» كان مسؤولاً عنها (20). وقد ساهمت الحكومات العربيّة في هجرة اليهود، إما في التواطؤ أو في الغباء أو في التقصير في حماية الأحياء اليهوديّة، أو في الفشل في مواجهة مخطّطات «الموساد» وكشفها. ولامَ التقرير «الرفض العربي لتقبّلهم في المنطقة» كمُسبِّب في الصراع، وتحدّثَ عن أعمال «تخريبيّة» مِن قِبل عرب في الخمسينيات في فلسطين.
(يتبع، في حلقة أخيرة)

المراجع:
(1) راجع «خطة داليت: الخطة العليا لغزو فلسطين»، «مجلّة الدراسات الفلسطينيّة» (الطبعة الانكليزيّة)، مجلّد ١٨، رقم ١، خريف ١٩٨٨.
(2) كان الخالدي أوّل مَن كتب عن خطة «داليت». راجع مقالته «خطة داليت» في «ميدل إيست فوروم»، نوفمبر ١٩٦١.
(3) وليد الخالدي، تحرير، «من المأوى إلى الاحتلال»، المقدمة، ص. ٧٩.
(4) خالد العظم، «مذكّرات»، جزء ١، ص. ٣٨٦-٣٨٧. والذي قاله العظم بصورة عامّة ومجازيّة عن تقصير العرب نحو الشعب الفلسطيني تحوّل عند الصهاينة في الغرب إلى مضبطة اتهام.
(5) وليد الخالدي، «لماذا غادر الفلسطينيّون»، «ميدل إيست فوروم»، ١٩٥٩، عدد ٧.
(6) راجع دراسة الصحافي الإيرلندي، أرسكين تشاليدرز، مجلّة «سبكتيتر»، ١١ أيّار ١٩٦١. وعاد الخالدي إلى الموضوع مرّة أخرى في «مجلّة الدراسات الفلسطينيّة» (النسخة الإنكليزيّة)، خريف ١٩٨٨، مجلّد ٩، رقم ٤.
(7) مناحيم بيغن، «التمرّد»، ص. ١٦٢-١٦٥.
(8) راجع خالدي في «من المأوى إلى الاحتلال»، ص. ٧٩.
(9) إيلان بابييه، «التطهير العرقي لفلسطين»، الفصل الخامس برمّته يغطّي مخطط «داليت» للتطهير العرقي.
(10) يهوشفوفات هركبي، «مواقف العرب نحو إسرائيل»، ص. ٣٦٦.
(11) إدغار أوبلانس، «الحرب العربيّة الاسرائيليّة، ١٩٤٨»، ص. ٦٤.
(12) ديفيد بن غوريون، «ولادة إسرائيل الثانية ومصيرها»، ص. ٢٩٦.
(13) المرجع نفسه، ٢٩١-٢٩٢.
(14) وليد الخالدي، «فلسطين والدراسات الفلسطينيّة: بعد قرن من الحرب العالميّة الأولى ووعد بلفور»، «مجلّة الدراسات الفلسطينيّة» (الانكليزيّة)، خريف ٢٠١٤ (مجلّد ٤٤، رقم ١)، ص. ١٤٣.
(15) راجع ماثيو هيوز، «القوّات اللبنانيّة المسلّحة والحرب العربيّة-الإسرائيليّة، ١٩٤٨-١٩٤٩»، «مجلّة الدراسات الفلسطينيّة» (الانكليزيّة)، شتاء ٢٠٠٥.
(16) راجع تشارلز دي سميث، «فلسطين والصراع العربي - الإسرائيلي»، ص. ٢٠١.
(17) الرقم الدقيق ترواح بين سنة وسنة، وبلغ نحو ٤٨.٦ بين أعوام ١٩٤٦ و١٩٥٣. راجع دراسة داليا أوفر، «الناجون من المحرقة كمهاجرين: حالة إسرائيل ومعتقلو قبرص»، «اليهوديّة الحديثة»، شباط ١٩٩٦.
(18) فضح المؤرّخ الإسرائيلي «الجديد» توم سيغيف عنصرّية المهاجرين الأوروبيّين اليهود ضد اليمنيّين اليهود في كتابه «١٩٤٩».
(19) راجع الفصل الخاص بالأطفال اليهود اليمنيّين لمئيرا فيس، في كتاب نانسي شيبر-هيوز ولوس فاكانت، تحرير، «تسليع الأجساد»، ص. ٩٣-١٠٠.
(20) صموئيل كلاوزنر، «هجرة اليهود من العراق، ١٩٤٨-١٩٥١»، «كونتبروري جوري»، مجلّد ١٩، عدد ١، ص. ١٨٠-١٨٥.

* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)