في 3 شباط 1930، تمّ تأسيس الحزب الشيوعي للهند الصينية. من رحم هذا الحزب، الذي جرى حله بعد هزيمة اليابانيين عام 1945، أتت التنظيمات الشيوعية في فييتنام وكمبوديا ولاوس. في الصراع ضد الأميركيين وحلفائهم في فييتنام الجنوبية وكمبوديا ولاوس، كانت التنظيمات (الفيتكونغ ــــ الخمير الحمر ــــ الباتت لاو) التي يقودها الشيوعيون تحت إشراف هوشي منه في فييتنام الشمالية، منخرطة في الصراع منذ أوائل الستينيات. عندما بدأ انهيار حلفاء واشنطن عام 1975، لم يستغرق الأمر أكثر من أربعة أشهر لسقوط كمبوديا (17 نيسان) وفييتنام الجنوبية (30 نيسان) ولاوس (23 آب) لحسم صراع استغرق أكثر من عقد ونصف عقد من الزمن. في علم السياسة، كان الأمر الأخير يشبه سقوط أحجار الدومينو عندما أحدث تغيير واحد سلسلة من التغييرات المجاورة بالتعاقب. في الأزمة السورية، هناك شيء شبيه: قادت هزيمة المعارضة المسلحة في حلب ــــ كانون الأول 2016 إلى الغوطة ــــ نيسان 2018 وإلى حوران ــــ تموز 2018. من المتوقع أن تكون حلقات إدلب وشرق الفرات بفواصل زمنية أقل عن فواصل المحطات الثلاث الأولى.كان يمكن لهزيمة المسلحين في حلب أن تكون هزيمة فقط للسلاح المعارض وللخط الإسلامي الذي كان ظلاً للمسلحين لو كان هناك خط معارض سلميّ ــــ تسووي ــــ ديموقراطي موازٍ، كما كانت الحال مع «هيئة التنسيق» في مواجهة «المجلس» و«الائتلاف» والتنظيمات المسلحة بين عامَي 2011 و2015. لم تستطع «هيئة التنسيق» أن تحافظ على هذا الخط أو أن تبرزه كخط مواز بعد انخراطها في «مؤتمر الرياض 1» في كانون الأول 2015 وما أعقبه من تشكيل «الهيئة العليا للمفاوضات»، حيث ضعف تمايزها رغم أن تلك «الهيئة» ليست تحالفاً سياسياً، بل هي كيان تفاوضيّ وظيفي تم استحداثه وفق مقررات لقاء فيينا في تشرين الثاني 2015، ثم صادق عليه في الشهر التالي القرار الدولي 2254. لو حافظت هيئة التنسيق على تمايزها وفق مقاييس 2011 ــــ 2015، لكان من الممكن أن لا تكون هناك سوى هزيمة للإسلاميين ولخط السلاح المعارض ومن والاهما فقط، وليس هزيمة للمعارضة السورية كلها كما هي الحال الآن في صيف عام 2018.
منذ بداية الحراك السوري المعارض، منذ درعا 18 آذار 2011، كان هناك خطان معارضان. خط إسقاط النظام عبر استجلاب التدخل العسكري الخارجي والسلاح المعارض، وكان الثاني عود ثقاب لاستجلاب الأول بعد إشعال الحريق. انخرط في هذا الخط الإسلاميون و«إعلان دمشق» الذين أسسوا «المجلس الوطني» في 2 تشرين الأول 2011، ثم وريثه «الائتلاف» عام 2012، وقد لاقى هذا الخط تأييداً من كثير من التنسيقيات ومن الفصائل المسلحة. الخط الثاني هو خط يرفض التدخل العسكري الخارجي وخط السلاح المعارض، ويقول بأن الحراك المعارض والأزمة السورية العامة يمكن أن يتيحا مجالاً للضغط على السلطة السورية من أجل عقد تسوية بين المعارضة والسلطة تتيح المجال لتعبيد طريق انتقالي نحو تغيير جذري في الأوضاع السورية القائمة باتجاه نظام سياسي جديد. كان هذا ما طرحته «هيئة التنسيق» في مؤتمر حلبون يوم 17 أيلول 2011، وقد تزامن هذا مع طرح المبادرة العربية وتلاقى معها بالمضمون، ثم مع بيان «جنيف 1» في 30 حزيران 2012. في خريف 2011، رفض «المجلس» المبادرة العربية، وفي مؤتمر القاهرة للمعارضة السورية (2 و3 تموز 2012) رفض «المجلس» تضمين البيان الختامي للمؤتمر موافقة على بيان «جنيف 1» الصادر قبل ثلاثة أيام. كان «المجلس» مدعوماً من تركيا وقطر، وإلى حد «ما» واشنطن وباريس، وكان الإسلاميون الذين يقودونه يظنون بأن وصول الإسلاميين إلى السلطة في تونس والقاهرة «سيتثلث» في دمشق. كان دخول طهران في دعم السلطة السورية، ثم موسكو منذ «فيتو» 4 تشرين الأول 2011، مع الحذر السعودي المتوجس من صعود الإخوان المسلمين إلى السلطة في تونس ومصر، يقول بأن هذا التثليث مستحيل التحقق سورياً، وخاصة مع القاعدة الاجتماعية القوية للسلطة السورية التي شملت الفئات الغنية والوسطى من سُنّة المدن وكل الأقليات، ما عدا الأكراد، إضافة إلى تماسك بنية أجهزة السلطة في دمشق. على الأرجح، كانت واشنطن تدرك ذلك ولا تريد أن يتكرر ما حصل بمصر في سوريا، وكانت لا تريد من انخراطها في الصراع السوري أكثر من الضغط على دمشق للابتعاد عن طهران. وهذا هو ما كانت تريده العاصمة الأميركية في أزمة عامَي 2005 ــــ 2006 لما طرح أميركياً مطلب «تغيير سلوك النظام السوري وليس تغييره»، وهو ما لم تقرأه المعارضة بشكل صحيح لما كان تأسيس «إعلان دمشق» في 16 تشرين الأول 2005 مبنياً على توقع سقوط السلطة السورية. وعلى الأغلب، كان تقرب الدوحة وأنقرة وباريس من دمشق في فترة 2007 ــــ 2010 هدفه إبعاد العاصمة السورية عن إيران.
الخطأ نفسه في قراءة الممكنات السياسية الذي ارتكبه علي البيانوني ورياض الترك عام 2005. عاد رياض الشقفة ورياض الترك لتكراره عام 2011. لم يكفّ الأخيران عن الاستمرار في هذه القراءة لما اتفقت واشنطن وموسكو على تسليم الأخيرة الملف السوري منذ اتفاق موسكو في 7 أيار 2013 ونزع يدي تركيا من أن تكون وكيلة واشنطن في الملف السوري، وهو ما تزامن مع موافقة باراك أوباما على انقلاب السيسي على حكم جماعة الإخوان المسلمين في مصر يوم 3 يوليو 2013. تكرس اتفاق 7 أيار 2013 في اتفاق «الكيماوي السوري» الذي تجسد في القرار 2118 الذي قاد إلى «جنيف 2» (كانون الثاني 2014) ثم في الدخول العسكري الروسي في 30 أيلول 2015 الذي قاد إلى القرار 2254 الذي انبنى عليه «جنيف 3». منذ اتفاق «الكيماوي» (14 أيلول 2013)، تم تبليغ دولي لـ«الائتلاف» و«هيئة التنسيق» بأن واشنطن قد تخلت عن مطلب تغيير الرئيس السوري. فشل «جنيف 2» بسبب التشاحن الروسي ــــ الأميركي مع اندلاع الأزمة الأوكرانية في شباط 2014، وفشل «جنيف 3» بسبب «الرباعي» (رياض حجاب ــــ فاروق طيفور ــــ جورج صبرة ــــ سهير الأتاسي) الذين قادوا عملية متعمدة، مع سكوت متعدد الأسباب من باقي أعضاء «الهيئة العليا للمفاوضات» وأعضاء الوفد المفاوض المعارض، لتفشيل المفاوضات بدعم تركي ــــ قطري، وإيقافها من طرف واحد في نيسان 2016، في وقت كان قد اتفق فيه بين واشنطن وموسكو على أنه في حال استنفاد فترة ستة أشهر من المفاوضات من دون التوصل الى حل بين طرفَي المفاوضات السورية، أي في نهاية تموز 2016، أن يقوم الأميركيون والروس بتقديم حل مفروض على طراز حل دايتون في يوغوسلافيا عام 1995. وقد كان تغيير «جبهة النصرة» لاسمها في 28 تموز 2016، وهو ما كان متواطئاً فيه رياض حجاب، ثم البدء بعد أيام قليلة بالهجوم على الراموسة جنوبي حلب سوى من أجل تفشيل هذا المخطط الأميركي ــــ الروسي في مراهنة على مجيء هيلاري كلينتون للرئاسة الأميركية التي كانت توحي باتجاه الانقلاب على التفاهمات التي عقدها أوباما مع موسكو منذ 7 أيار 2013 عقب تركها منصب وزيرة الخارجية.
كان ما جرى في حلب والغوطة وحوران تنفيذاً للتفاهمات الأميركية ــــ الروسية، وأيضاً التركية ــــ الروسية بعد انقلاب إردوغان على سياساته السابقة واتجاهه نحو موسكو منذ لقائه مع بوتين في 9 آب 2016. توحي تفاهمات بوتين ــــ ترامب حول سوريا خلال السنة ونصف السنة الماضية بأن هناك خلافاً بينهما لم يحل بعد حول الوجود العسكري الإيراني والقوات الموالية لإيران في سوريا فقط، وأن هناك تفويضاً أميركياً لموسكو في الملف السوري، وما الوجود الأميركي في شرق الفرات سوى لمقايضة إنهائه، مقابل موافقة موسكو على مواجهة طهران في سوريا. هذه التفاهمات الأميركية ــــ الروسية لن تقفز فوق بند «الانتقال السياسي نحو نظام حكم جديد» الذي قال به القرار 2254، حسب ما توحي الكثير من المؤشرات، باتجاه «حكومة وحدة وطنية» تقود إلى تغييرات في الحكومة وليس في نظام الحكم. ليس مهماً أن يتم هذا الانتقال عبر «هيئة حكم انتقالية» أو عبر «دستور جديد» يضع نظاماً جديداً للحكم يتم الوصول إليه عبر الانتخابات.
هناك انتصار روسي في سوريا وهزيمة للمعارضة التي فشلت في تحقيق كل ما أعلنته عبر رأسها الذي كان هو «المجلس» ثم «الائتلاف». كان بإمكان هذه الهزيمة أن لا تكون لكل المعارضة السورية لو كانت هيئة التنسيق قادرة الآن على أن تزيح «الائتلاف» عن مقود مركب المعارضة السورية، وهو ما لا توحي به المؤشرات القائمة. ليس هناك منتصر سوري في سوريا. إن استطاعت المعارضة أن تلمّ شتاتها بعيداً عن الإسلاميين (قادة الهزيمة مرتين)، فمن الممكن أن تجعل الرياح الدولية تلك الهزيمة ليست مترجمة ميكانيكياً في التسوية السورية النهائية للأزمة.
* كاتب سوري