قرار المقاطعة العربية لإسرائيل والحركة الصهيونية هو قرار شعبي في المقام الأول منذ عام 1945، ثم صار قراراً رسمياً في شهر أيار 1951 عندما قرر مجلس جامعة الدول العربية إنشاء مكاتب إقليمية في الدول العربية لفرض حصار اقتصادي على إسرائيل..كان مجلس الجامعة قد قرّر في كانون الأول 1945 حظر دخول السلع والمنتجات اليهودية في فلسطين إلى الدول العربية، باعتبار أن إباحة دخولها يؤدي إلى تحقيق الأغراض السياسية التوسعية للصهيونية العالمية.
تكرس هذا النهج ــــ في رفض أي شكل من أشكال التطبيع ــــ مع الثورة المصرية منذ عام 1952، حيث اعتبر الرئيس جمال عبد الناصر أن مواجهة إسرائيل لا تكون فقط بالسلاح، وإنما بالحصار واعتبارها جسماً غريباً في المنطقة العربية. ولم يرضخ لمطلب التطبيع، على الرغم من هزيمة الجيش المصري في حرب 1967، فرفع شعار: لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف بإسرائيل.
استمرت هذه السياسة العربية الرسمية حتى توقيع اتفاقيات «كامب دايفيد» بين مصر وإسرائيل في عام 1978، التي فتحت باب التطبيع المصري ــــ الإسرائيلي في جميع المجالات. هذا على الرغم من الرفض الشعبي المصري لكل أنواع التطبيع، ما دفع قادة إسرائيل إلى الحديث عن «السلام البارد» مع الجانب المصري.
تجدر ملاحظة الاتصالات السرية، والعلاقات السرية، التي نشأت بين حكومات عربية وحكومات إسرائيلية، فضلاً عن علاقات بين أفراد في السلطات العربية الحاكمة ومسؤولين إسرائيليين. بيد أن هذه العلاقات كانت خجولة، ومغلّفة بالحياء ولو بالحد الأدنى، ولا يجري تداولها في وسائل الإعلام.
وعندما وقّع الإسرائيليون والفلسطينيون في عام 1993 صيغة إعلان المبادئ المتعلقة بالحكم الذاتي والانسحاب من غزة وأريحا، أو ما اصطلح على تسميته» إتفاق أوسلو»، سارعت الإدارة الأميركية الى مطالبة الحكومات العربية بإلغاء المقاطعة العربية والدخول في عمليات التطبيع. وكلنا يذكر كيف أن الوفود الإسرائيلية بعيد مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط طالبت الوفود اللبنانية والسورية والأردنية والفلسطينية بالتطبيع. وعلى الرغم من توقيع» وادي عربة» بين إسرائيل والأردن في عام 1994 وما دعا إليه من تطبيع شرق أوسطي واضح، فضلاً عما تحدث فيه اتفاق أوسلو، فإن عمليات التطبيع بقيت محدودة طالما أن إسرائيل لم تلتزم بنظرية «الأرض في مقابل السلام»، أي الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة في حرب 1967، كما لم تعطِ أي إشارات إيجابية للجانب الفلسطيني تدل على إمكانية قيام دولة فلسطينية ولو بعد حين!
الإستيطان الإسرائيلي يتمادى في الضفة الغربية والقدس، وصولاً إلى التهويد، وكيف إذا أمعنّا النظر في دور جدار الفصل العنصري داخل الضفة الغربية الذي اعتبرته محكمة العدل الدولية في لاهاي مناقضاً للشرعية الدولية؟
أين وعد إسحق رابين لياسر عرفات بوقف الاستيطان؟
أين الوعد الأول بإقامة دولة فلسطينية في عام 1995؟
وأين الوعد الثاني في عام 2000؟ وهكذا في عام 2003 بعيد الاحتلال الأميركي للعراق؟
وأخطر ما حصل هو ما قرره المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في غزة بين 22 و24 نيسان 1996، لجهة تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني! نعم تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني، ميثاق التاريخ والجغرافيا. إنه تعديل للوطن والهوية، وهذا أمر غير مسبوق، ولم يحصل في النزاعات والصراعات الدولية!
سقطت الرهانات العربية والدولية على نجاح عملية التسوية السلمية


السؤال المطروح هنا: ماذا أعطت إسرائيل في المقابل؟ لا شيء، بل محاصرة ياسر عرفات في رام الله، والتوسع في الإستيطان، ومصادرة أراضٍ ومياه فلسطينية، وصولاً إلى لجان أمنية مشتركة لمحاصرة الفلسطينيين ومنعهم من المقاومة، وليس لمنع المستوطنين من التوسّع الاستيطاني في الضفة الغربية. وفوق كل ذلك تهويد القدس الشرقية واعتقال كل مناضل فلسطيني داخل الضفة والقطاع.
أما الانسحاب الإسرائيلي من غزة، فإنه لم يفض إلى استقلال هذا القطاع الذي بقي محاصراً من دون مطار ومرفأ بحري، بل مصادرة كل علاقاته الخارجية بما في ذلك الحركة التجارية وحركة انتقال الأفراد!
في عام 1994، وتحت وهم السلام الموعود، راحت دول عربية تُسقط المقاطعة الاقتصادية بغير سند قانوني (عربي أو دولي)، ومن دون أن تقرر جامعة الدول العربية هذا الإجراء. حتى إذا جاءت القمة العربية بالقاهرة سنة 1996، ودعت الى تجميد التطبيع، كانت الدولة العبرية قد اخترقت بعض الأسواق العربية اقتصادياً في المغرب العربي والخليج، وفتحت آفاق التطبيع مع اليابان والصين والهند ودول وسط آسيا، ناهيك بالاتفاق الفاتيكاني ــــ الإسرائيلي تحت عنوان فضفاض هو إحلال السلام في الشرق الأوسط، وأيّ سلام؟
اللافت في مجمل علاقات التطبيع إصرار المفاوض الإسرائيلي على ترك مصير القدس إلى آخر مراحل المفاوضات العربية ــــ الإسرائيلية، بالتزامن مع تهويد القدس بصورة تدريجية من دون أن تتمكن الرعاية الأردنية ولا لجنة القدس المنبثقة عن منظمة التعاون الإسلامي من تحرير القدس، ولا وقف أعمال الإستيطان فيها.
واكب كل ذلك، ضغط إسرائيلي وأميركي على الدول العربية، بل وعلى الدول كافة، من خلال عقد مجموعة مؤتمرات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (هذه التسمية هي أميركية إسرائيلية) تحت عنوانَي: السلام والتطبيع.
وكثيراً ما تقدم مطلب التطبيع الإسرائيلي على عمليات السلام، والوعود بإقامة أسواق شرق أوسطية، وطرق مواصلات شرق أوسطية، وبناء سدود للمياه على نهرَي الأردن واليرموك، وتحلية مياه البحر، وإقامة مشاريع سياحية، ومد أنابيب النفط والغاز من الخليج إلى حيفا، وإنشاء مصرف استثمار الشرق الأوسط.
والأخطر من كل ذلك، وقوع خلاف بين الحكومات العربية حيال العلاقة مع إسرائيل، فإسرائيل ليست عدواً عند بعض الحكومات (كذا)، مع ما يحمل ذلك من تصدّع للجبهة الداخلية الفلسطينية والجبهات العربية، وهذا هو جوهر التطبيع الذي تريده الدولة العبرية. حتى إن البيئة الدولية الخارجية صارت محكومة بمعادلة مفادها أن تحسين العلاقات مع إسرائيل هو شرط لتنمية العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية. ولا عجب في ذلك طالما أن التوازن الدولي ــــ العالمي سقط مع انهيار الاتحاد السوفياتي، وتراجع النظام الإقليمي العربي بعيد كامب دايفيد المصرية الإسرائيلية ووقوع الحرب العراقية ــــ الإيرانية، ثم الغزو العراقي للكويت وما تبعه من قيام أوسع تحالف دولي منذ الحرب العالمية الثانية لتدمير الجيش العراقي واستدعاء الحكومات العربية الى مؤتمر مدريد للسلام الموعود، وحضّها على تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
وعلى الرغم من جميع المحاولات الدبلوماسية التي سعت إلى تطبيق قرارات مجلس الأمن الخاصة بالصراع العربي الإسرائيلي وقضية فلسطين. محاولات اسكندينافية ونمسوية وأوروبية، إضافة الى محاولات عدد من النخب الفلسطينية مع الأحزاب اليسارية الإسرائيلية، عدا عما رافقها من محاولات أفريقية وإسلامية (في العالم الإسلامي) وآسيوية...
كل ذلك لم يفض الى ضغوط مضادة في مواجهة الضغوط الأميركية والإسرائيلية المتوالية لتغيير مسار الصراع واستبداله بالتطبيع وقبول أمر الواقع الإسرائيلي، أي احتلال الأراضي الفلسطينية والعربية وتشريد شعب فلسطين.
بتعبير آخر، سقطت الرهانات العربية والدولية على نجاح عملية التسوية السلمية وإحلال السلام بالتفاوض وقبول التطبيع. وكان التطبيع ولا يزال ورقة إسرائيلية ضاغطة من دون أن تعترف الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بالحقوق العربية وقرارات الشرعية الدولية.
أما وأن الشرعية الدولية تهاوت مع تراجع دور الأمم المتحدة تحت ضغوط القوة العسكرية والتكنولوجية والدبلوماسية والسياسية وغيرها، فإن التطبيع صار مطلباً عند عدد من الحكومات العربية، في الوقت الذي أعادت فيه معظم الدول الأفريقية والآسيوية علاقاتها مع الدولة العبرية.
ثمة رأي دولي مفاده أن عملية التعامل مع إسرائيل أمر واقع طالما أن أصحاب القضية اعترفوا وطبّعوا، فهل نكون ملكيين أكثر من الملك؟
غير أن هذا الرأي لا يلتفت الى أصحاب الأرض، الى شعب فلسطين، ولا يعترف بأحقية مقاومة الإحتلال في فلسطين والبلاد العربية وأطراف المعمورة، ويُسقط من حسابه قرارات الأمم المتحدة، وكأننا نعيش مرحلة الغزو المسلح التي عرفتها البشرية منذ غابر الأزمان!
وعليه، فإن مطلب المقاومة: المقاومة المسلحة والمقاومة المدنية، وكل أشكال مقاومة التطبيع، هو مطلب حقٌ، ومطلب شرعي وأخلاقي وإنساني. أما عمليات التطبيع فإنها مرفوضة ومدانة، وهي تعبير عن سقوط الحياء عند المطالبين بها.
التطبيع مرفوض في الشرع والوضع، ومخاطره جسيمة، ومعروفة عند قطاعات واسعة من الرأي العام العالمي، بما فيها الرأي العام الغربي. أما المتورطون من العرب، على اختلاف مسؤولياتهم ومواقعهم، فهم واهمون، بل هم مستسلمون لشريعة القوة. ومتى كانت شريعة القوة مظهراً عصرياً وإنسانياً؟
*وزير ورئيس سابق للجامعة اللبنانية