بدا الضيق واضحاً في قسمات وجه حافظ الأسد، لكنه كتم انفعالاته، وظل يستمع بصبر إلى محدّثه المصري أنور السادات، وهو يشرح له خطته للذهاب إلى «بيت إسرائيل»، ليعرض على نواب الكنيست صفقته الكبرى للسلام. ولم يستطع الرئيس السوري أن يكبح رغبته في تسفيه «التخبيص الساداتي»، فسأله: «مين اللي يضمن لك أن بيغن رح يرجّع لك الأراضي العربية المحتلة، من دون قيد ولا شرط؟! وشو اللي يؤكّد لك إن الإسرائيليين رح يقبلوا السلام اللي بدّك تعرضه عليهم؟». أخذ السادات يهز رأسه، علامة على تفهّمه لهواجس الأسد، ثم قال: «شوف يا حافظ. أنا راجل بطبعي أمين. ما أقدرش أكذب عليك، وأقول لك إن عندي تأكيدات وضمانات. بس أنا جسّيت نبض الجماعة، وواثق إنهم مستعدين يقبلوا صفقة كاملة للسلام مع العرب، ويرجّعوا الأراضي اللي احتلوها عام 67». ابتسم حافظ الأسد بتهكم، ثم قال: «يعني انت واثق من الإسرائيليين، بس ما عندك ضمان! وكل اللي عندك مجرد جس نبض. وعَ ها الأساس حامل حالك، ورايح ع إسرائيل!». انتقل الضيق من هذه اللهجة التهكمية إلى أنور السادات، فارتفع صوته، وهو يقول: «جرى إيه يا حافظ؟! ما تفهم بقى! أنا عايز أحشرهم، وأوَرّي للعالم كله إن العرب طلّاب سلام، ومش طلّاب حرب. وإذا اليهود قبلوا يرجعوا لنا أرضنا، كان بها. وإذا رفضوا فساعتها هينفضحوا قدام الناس كلهم. وحيعرف العالم أجمع مين اللي عرض السلام، ومين اللي رفضه». رمق حافظ الأسد جليسه بحدة، ثم قال له بصوت بدا فيه صدى الغيظ الذي يختلج في صدره: «هاذ اللي رايح لتعرضه في إسرائيل ما اسمه سلام، هذا اسمه استسلام. والإسرائيليين مو فرقانة معهم شو رح يقولوا الناس عنهم. والأوْلى أنك تهتم بشو رح يقول الناس عنك لما تروح عند العدو».
«أنا وشعبي تعبنا، يا حافظ»
بدت كلمات الأسد لضيفه شديدة القسوة، وساد صمت خانق لبرهة قصيرة في قاعة الاستقبال الصغيرة، في قصر المهاجرين. وحاول الرئيس السوري أن يليّن كلماته الحادة قليلاً، لكنه لم يفلح، ومضى يقول للسادات: «يا أخي، اسمح لي اتكلم معك بصراحة: الناس مو رح يقولوا استسلام وبس.. رح يقولوا خيانة كمان!». وسكت حافظ الأسد قليلاً، ثم أردف قائلاً: «وأنا بحكم الرفقة والشراكة اللي بيناتنا في حرب تشرين، ما برضى لك هالوضع المهين اللي رح تحط نفسك فيه». بلغ التوتر مداه على وجه السادات، ولمعت عيناه بالغضب، فارتفع صوته حانقاً وهو يقول: «مين هم اللي يقدروا يتهموني بالخيانة؟! الأقزام اللي عمرهم ما حاربوا، ولا عرفوا إيه هي كلفة الحرب؟! أنا مسؤول عن شعبي. وشعبي تعب من الحرب، يا حافظ. الناس طهقت. وأنا كمان تعبت زيهم، وحاسس بيهم». رد الأسد قائلاً: «الشعوب ما بتتعب من التضحية لمّا تكون في سبيل تحقيق أهدافها. لكن الشعوب تتعب إذا ضاعت أهدافها... كفاح الأمم طويل، وممتد، وعمره ما بيتوقف. ومسؤوليتنا القومية أنو نقود أمتنا لتحقيق أهدافها». تأفّف السادات: «رجعنا لسيرة القومية والأممية وخطابات البعثية. أهو الكلام ده هو اللي عطّلنا، وجابنا ل ورا».
ظل الأسد يستمع بصبر إلى محدّثه المصري، وهو يشرح له خطته للذهاب إلى «بيت إسرائيل»

قال الأسد، وهو يكظم غيظه: «مش عاجبك كلام البعثيّة، بس عاجبك كلام الأميركان. أنا عارف إنو الأميركان هني اللي شجعوك لتروح ع إسرائيل». ابتسم السادات، وقال ساخراً: « لا، لا انت مش فاهم حاجة خالص. إيه رأيك بقى إن الأمريكان اتفاجأوا بالمبادرة اللي أعلنت عنها في مجلس الشعب المصري، زي ما انت تفاجأت في دمشق، بالضبط!».

«الشر دخل، وملأ الدار كلها»
أخذ صبر حافظ الأسد على ضيفه ينفد، ولم يعد يطيق مجاملته أكثر مما حاول، فقال له بغضب: «سماع يا أنور. اللي بدك تعمله اسمه استهتار وخفة. وأنا صبرت كتير على تصرفاتك». وسكت الأسد قليلاً، ثم أضاف قائلاً: «بتتذكر، لمّا كنا نحضّر مع بعض لحرب تشرين. أنا رضيت إنك تقود المعركة العسكرية والسياسية. وبخضمّ المعركة اتهمتني إني حاولت وقف إطلاق النار، من ورا ظهرك. وأثبتلك، بالميدان، إنك غلطان. وتجاوزت عن إساءتك إلي. وبالمقابل، رحت إنت وقّفت إطلاق النار فعليّاً، من دون ما تستشيرني، ولا تخبّرني. وما حكينا شي وقتها، ومشي الحال! بعدين، تفاوضت مع كيسنجر وحدك، ووصلت معو لاتفاق منفرد، من غير ما تعلمني. ومو هيك وبس، ضغطت على فيصل ليوقف حظر النفط، واستجابلك، من دون ما تهتم بمصلحة الجبهة السورية اللي كانت تحارب وقتها لوحدها. بلعناها، وما قلنا شي! وهلق بدك تروح ع إسرائيل عشان تعقد صلح منفرد. والله هيك كتير! كتير! كتير!». اكفهرّ وجه السادات، وقال: «انت ليه قلبك أسود، يا حافظ؟! احنا مش اتصالحنا في الكويت، بعد الحرب، وسوّينا وقتها الخلافات دي؟! لازم يعني تسمعني الاسطوانة المشروخة إياها؟!». قال الأسد: «والله، أنا حاولت كتير أنسى هالماضي معك. بس إنت دايماً بتذكرني فيه. يا أخي، إنت رجل غريب، دايماً مستعجل: استعجلت على وقف إطلاق النار، ووقفته بلحظة حرجة كتير إلي. واستعجلت على فك الارتباط، ولو قبلت تخلّي في سينا حالة الاشتباك، مثل اللي كانت في الجولان، ما كنا خسرنا مكاسب حرب تشرين. وبعدين استعجلت تروح لمؤتمر جنيف لتعمل صلح. وهلق مستعجل لتروح ع إسرائيل من غير ضمانات، ولا تحضيرات!!». وصل ضيق السادات من تقريع الأسد له إلى حدّ جعله يقف، ويعبّر عن رغبته في إنهاء هذا الجدال، وقال لمضيفه: «اسمع يا حافظ، أنا موش جاي لعندك عشان أتخانق معاك. أنا جيت لك عشان أقنعك تيجي معاي لإسرائيل. أو على الأقل تخليني أتكلم باسم سوريا مع الإسرائيليين، وأحاول أرجع لك أرضك. إذا قبلت ده، كان بها. وإذا مش قابل، ما علش. ويا دار ما دخلك شر». وردّ الأسد، وهو يكاد يتميّز من الغيظ: «الشر، يا أنور، دخل. وملا الدار كلها!» (1).

«اعتقله... يا سيادة الرئيس»
كانت الليلة الفاصلة بين يومي 16 و17 تشرين الثاني/ نوفمبر 1977، مثيرة حقاً. فبينما كان الرئيس المصري يستريح في مقر الضيافة في دمشق، بعد لقائه العاصف مع نظيره السوري، عقد الأسد اجتماعاً عاجلاً مع قيادة حزب البعث الحاكم في البلاد. وروى الرئيس لأعضاء القيادة ما حصل بينه وبين السادات. ثم طلب من رفاقه أن يشيروا عليه في ما يخصّ هذا الأمر الخطير الذي يزمع عليه رئيس مصر، والذي لم يسبقه إليه أحد من قبل. وبلغ الشطط بوزير الخارجية السوري عبد الحليم خدام حدّاً جعله يقترح على قائده أن يعتقل السادات، في دمشق، لكي يُمنع بالقوة من السفر إلى إسرائيل، واقتراف فضيحة قومية. ولم يقبل الأسد هذا المقترح الغريب، ورد على وزيره قائلاً: «إن اعتقالنا لرئيس عربي سيكون بالفعل هو الفضيحة القومية التي نخشى من وقوعها». وتحمس أفراد آخرون في القيادة السورية، من بينهم وزير الدفاع مصطفى طلاس، لفكرة احتجاز السادات، إلى درجة جعلت حافظ الأسد يفكر بجدية في إحدى اللحظات بحبس الزعيم المصري، ومنعه من مغادرة دمشق (2). لكنّ الرئيس السوري سرعان ما نحّى هذه الفرضية جانباً، وحاجج أصحابها قائلاً إنه ليس له الحق ولا القدرة على أن يحتجز زعيم دولة عربية أخرى، مهما كانت أسبابه أو دوافعه لاتخاذ مثل هذا القرار. وإنّ مثل هذه الخطوة ستفسّر على أنها إساءة خطيرة لمصر الشقيقة ولشعبها، قبل أن تفسّر بكونها عملية ردع لقائد عربي أرعن.

اقترح عبد الحليم على قائده أن يعتقل الرئيس المصري في دمشق


في صباح اليوم التالي، غالب الرئيس حافظ الأسد مشاعره ومواجعه، وقرّر أن يودّع أنور السادات بالبروتوكول الرسمي اللائق. وجلس الرئيس السوري صامتاً بجانب ضيفه المصري في السيارة التي أقلّتهما إلى مطار دمشق الدولي. ولقد طال الصمت بينهما، وثقلت وطأته حتى صار أكثر تعبيراً من كل الكلام. وعندما دخل الزعيمان إلى قاعة التشريفات في المطار، سأل الأسد السادات إن كان قد أخذ بعين الاعتبار مواقف الدول العربية التي ستدين زيارته لإسرائيل، لا محالة. وأجاب السادات بأنه لا يولي لمن يَغضب أو يَرضى من حكام العرب اهتماماً كبيراً. وإنّ أكثرهم - في السر- يؤيد مسعاه لكسر الحاجز النفسي مع الإسرائيليين (3). ولم يكتفِ الأسد بالإشارة إلى ردود فعل العرب، وسأل السادات عن موقف الشعب المصري من الزيارة التي ينوي القيام بها إلى الكيان الصهيوني. وردّ السادات على هذا التعريض المستتر في كلام الرئيس السوري، قائلاً: «ما تشغلش بالك بالشعب المصري، يا حافظ. مصر كلها معاي». وابتسم الأسد باستهزاء، قبل أن يضيف ساخراً: «كلّها... كلّها؟!». وهز السادات رأسه علامة التأكيد، وقال: «أيوه، يا حافظ. كلها، كلها! وبنسبة مية بالمية، كمان. أولادي مؤمنين بالسلام، ويؤيدوني حتى لو رحت لآخر الدنيا عشان أجيبهولهم». ولم يرِد الأسد أن يضيف تعليقاً جديداً على كلام السادات الواثق إلى حدّ الغرور. كان يحسّ بمرارة كبيرة، وبخيبة شديدة من هذا الرجل الذي ارتضاه شريكاً، رغم أنه يختلف عنه، في كل شيء. وأحسّ الرئيس السوري بشيء من الدوار، وكان هذا من أعراض مرض السكري الذي يعاني منه. واعتذر الأسد لنظيره المصري بأنه لا يستطيع توديعه أمام سلم الطائرة. ولم يبالِ السادات بهذا، وأكمل سيره ومن معه من المرافقين على مدرج المطار. وأما الأسد فقد جلس على أحد المقاعد، في قاعة التشريفات، وطلب كوباً من الماء يروي به عطشه، ويخفف به غيظه.
كان الاختلاف بين شخصيتي الرئيسين السوري والمصري شديداً وحادّاً. ولم يكن مستغرباً أن يظهر التنافر بينهما سريعاً. ولا شك أنّ حافظ الأسد كان يضيق ذرعاً بتفرّد حاكم مصر، وتقلّبه، وخداعه، وتباهيه، ونزواته. وأما السادات فلم يكن أقل ضيقاً بعناد حاكم الشام، وطموحه، ومطالبه، وارتباطاته، وتصلبه. ومن العجيب أنّ كل ذلك النفور بين الرجلين لم يعجّل الخصومة بينهما. فقد ظلَّا، لسنوات، يحاولان تجنب الصدام قدر ما أمكنهما، وتأجيل القطيعة ما وسعهما. على أنّ المراضاة والممالأة لم تعودا ممكنتين، بعد تلك الليلة البائسة التي قضاها السادات في دمشق، وإصراره على تنفيذ مخططه، في «إسرائيل». وما إن حلّقت طائرة الرئيس المصري عائدة به إلى بلاده حتى انطلقت إذاعة دمشق في قصفها العنيف للرجل ولنظامه. وكان ذلك القصف إيذاناً بنهاية شراكة قلقة، وبدء عداوة سافرة.

«خلّيه يغور...»
حينما حطّت الطائرة بالرئيس المصري في مطار الإسماعيلية، لم يجد أنّ كل الناس في مصر توافقه، وتؤيد مبادرته لزيارة «إسرائيل». وفي قاعة التشريفات مدّ حسني مبارك إلى السادات مظروفاً مغلقاً، قال إنّ وزير الخارجية إسماعيل فهمي كلّفه بإيصاله للرئيس بنفسه. وفتح السادات المظروف ففوجئ أنه يتضمن استقالة وزير خارجيته (3). كانت تلك أول خيبة رجاء للسادات في أحد أعضاء فريق حكومته. وحينما رأى حسني مبارك علامات الانزعاج بادية على الرئيس، بعدما قرأ استقالة إسماعيل فهمي، سعى لكي يوغر صدره أكثر ضد وزير خارجيته المستقيل. وأعلمه أنه حاول بكل جهده أن يقنع فهمي للمجيء من القاهرة لأجل استقبال الرئيس في المطار، بل إنه عرض عليه إيصاله بهيليكوبتر إلى الإسماعيلية، لكنّ الرجل رفض بتصميم عجيب. ولم يجد السادات سوى أن يقول معلقاً: «اللي مش عايز يروح معايا لإسرائيل، ما يلزمنيش. خليه يغور...».
في المساء، أعلنت الإذاعة المصرية نبأ استقالة وزير الخارجية إسماعيل فهمي، وتعيين وزير الدولة للشؤون الخارجية محمد رياض بديلاً منه. ولم تمضِ ساعات قليلة حتى أعلن رياض استقالته هو الآخر. كانت تلك الاستقالات المتتالية نذير شؤم بأن الرحلة إلى «إسرائيل» تحُفّها الكثير من العوائق والمشاكل. ولم يجد السادات بديلاً من بطرس غالي ليعيّنه وزيراً للشؤون الخارجية. وقبل الدكتور غالي المهمة الموكلة إليه بسرور. وكذلك بدأت الاستعدادات تتسارع لإتمام أغرب زيارة في تاريخ القرن العشرين.
(يتبع)

الهوامش:
(1) روى الرئيس السوري حافظ الأسد للكاتب المصري محمد حسنين هيكل، تفاصيل الحوار الذي دار بينه وبين السادات. وقد دوّن هيكل ذلك الحوار التاريخي بين الزعيمين في الجزء الثاني من كتابه «المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل: عواصف الحرب وعواصف السلام» (منشورات دار «الشروق» المصرية - 1996)، في الصفحات من 364 إلى 366.
(2) باتريك سيل: الأسد - الصراع على الشرق الأوسط (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر- بيروت- 1988) ص: 494.
(3) كان تقدير أنور السادات صحيحاً حينما لمّح إلى أن بعض حكام العرب يرحبون بزيارته إلى «إسرائيل»، ويباركونها. ومثلا فإنّ الملك حسين عاهل الأردن تحمّس جداً لزيارة السادات لكيان العدو، وأصرّ أن يبعث رسالة إلى نظيره المصري يهنّئه فيها على هذه «الخطوة الشجاعة». وأما الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة فقد جاهر بأن خطوة السادات ذكية وصحيحة. وكان الحسن الثاني ملك المغرب هو عرّاب الزيارة ومهندسها. وكان موقف حاكم قطر الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني هو الأكثر طرافة، فالشيخ القطري لم يجد ما يقوله للتعبير عن إعجابه الشديد بفعلة السادات سوى لفظ «فحل»، ذي الدلالة الجنسية المحض!
(4) كان نص استقالة وزير الخارجية المصري إسماعيل فهمي، بحسب ما ذكره في كتابه «التفاوض من أجل السلام فى الشرق الأوسط» (مكتبة مدبولي- 1985)، كالتالي: «نظراً للظروف الحالية التى تواجه مصر والعالم العربي، وبسبب التطورات غير العادية وغير المنتظرة التي ستحدث مؤثرة فى القضية العربية، أقدم استقالتي لسيادتكم مقتنعاً تمام الاقتناع بأنني لا أستطيع الاستمرار فى مكاني، ولا أستطيع أن أتحمل كذلك المسؤولية الناتجة عن التطورات الجديدة».
* كاتب عربي