لقد أدرك النظام، منذ بداية انطلاقة الحراك الشعبي في سوريا، في منتصف آذار من عام 2011 خطورة الحراك الشعبي السلمي ضده في حال استمراره، لذلك لجأ إلى قمعه بالقوة، وبلا تردد، وحصر خروجه من الجوامع، وكانت هذه أول محاولة لتطييفه. خطورة الحراك السلمي الشعبي على النظام كانت تأتي من جوانب عدة؛ منها أنه كان سيعيد السياسة إلى المجتمع عن طريق تشكيل منابر سياسية في الساحات والميادين والشوارع، ما كان سوف يفسح في المجال لولادة قوى سياسية جديدة، وقادة جدد، تتجاوز القوى التقليدية التي كانت موجودة كأخويات سياسية من كونها أحزاباً، جراء القمع المزمن لها وعليها، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى كان سيعزز من اللحمة الوطنية ويعطي للحراك طابعاً وطنياً عاماً، من خلال مشاركة كل القوى المجتمعية فيه، بغض النظر عن انتماءاتها الأهلية، وهذا ما كان قد بدأ يتحقق جزئياً في اللاذقية، لكنه عبّر عن نفسه بصورة حاسمة في حماه، وفي غير مدينة سورية. ومن جهة ثالثة كان سيسقط في يد النظام، ولن يستطيع تحريك آلته القمعية ضد جموع الشعب، لأنه في هذه الحالة سوف يتجابه مع حاضنته الاجتماعية التي لطالما ادّعى أنه يدافع عنها.
لقد بادر النظام في اللاذقية، ذات الحساسية الخاصة بالنسبة إليه، منذ الأيام الأولى للحراك الشعبي فيها، الى تخويف المكونات الأهلية الطائفية والمذهبية بعضها من البعض الآخر، فكان يرسل مجموعات من أجهزته الأمنية، أو شبيحته إلى أحياء المدينة المختلفة لبث الذعر بين قاطنيها، فكان يخوّف العلويين من السنّة، والسنّة من العلويين، والمسيحيين من السنّة والعلويين معاً، بل كان يرسل من يندسّ بين المصلّين في الجوامع في أيام الجمع ليرفعوا شعارات طائفية فجة عند خروجهم لإعطاء انطباع بطائفية الحراك، وقد نجح للأسف في ذلك إلى حد كبير.
في حمص التي بدأ الحراك الشعبي فيها وطنياً، بمشاركة مختلف البنى الأهلية، عمد النظام مباشرة إلى تعميد تدخله فيه بالدم لحرفه عن مساره الوطني، من خلال تحريك بعض شبيحته أو أجهزته الأمنية للاعتداء تارة على العلويين، وتارة أخرى على السنّة، واتهام كل طرف منهما للطرف الآخر بالبدء بالاعتداء، بل شجع الخطف المتبادل بينهم، وفي كثير من الأحيان، كانت أجهزته الأمنية هي التي تقوم بعمليات الخطف، ومن ثم الترويج أن هذا الطرف أو ذاك هو من قام بها، في لعبة بشعة كادت أن تحول الصراع المصطنع بينهم إلى صراع طائفي ومذهبي. ورغم النجاح الملحوظ للمواطنين ونخبهم الاجتماعية والسياسية في الحؤول دون تحول الصراع إلى حرب أهلية مذهبية، مع ذلك لا بد من الاعتراف بأن النظام قد حقق بعض النجاح في خلق توترات بين المكونات الأهلية في حمص، ساهمت في عزلة بعضهم عن البعض الآخر.
في حماه أيضاً، بدأ الحراك فيها وطنياً، لكن هنا على خلاف المدن الأخرى، لم تتدخل الأجهزة الأمنية وشبيحة النظام مباشرة لقمع التظاهرات، نظراً إلى حساسية وضع المدينة، لذلك سرعان ما تحولت التظاهرات فيها إلى تظاهرات جماهيرية كبيرة شارك فيها مئات الآلاف من المواطنين من مختلف البنى الاجتماعية المدنية والأهلية.
خلال الأشهر الستة الأولى من الحراك الشعبي السلمي في سوريا، كان الحراك ذا طابع وطني وكان في طريقه لكي يصير وطنياً بامتياز، عندما أخذ المواطنون السوريون من مختلف الانتماءات الأهلية والمدنية بالمشاركة فيه بكثافة، وإن بدرجات مختلفة. غير أن قرار النظام بقمعه بالقوة، ودفعه إلى مغادرة ساحات التظاهر السلمي إلى ميادين القتال، خوفاً من اتساع نطاقه من جهة، ومن تحوله إلى حراك وطني كفرض عين، بعدما كان ذا طابع وطني كفرض كفاية من جهة ثانية، حال دون استكمال هذه التحولات.
اليوم، يمكن القول، بأسف شديد، إنّ النظام نجح نجاحاً باهراً بدفعه الناس إلى حمل السلاح، مستفيداً من قدرة السلاح على الإغواء، ومن الارتداد إلى بناهم الأهلية، وإعادة إنعاش دورها الفاعل في ساحة الصراع السياسي والعسكري. ساعده في ذلك الخدمات الجليلة التي قدّمها له بعض المعارضين في الخارج الذين شجعوا بدورهم المواطنين على حمل السلاح، وكذلك تدخلات بعض الدول العربية والأجنبية التي أرادت الاستفادة من الحراك الشعبي السوري لتحقيق أجنداتها الخاصة. واقع الحال في سوريا اليوم يقول إنّ الصراع المسلح هو بين طرفين، لكل منهما حاضنته الاجتماعية. فمن جهة، تقف القوى الجهادية والتكفيرية على اختلاف مسمياتها، وهي تقاتل تحت رايات إسلامية واضحة، غاب عنها جميع مطالب الشعب في الحرية والكرامة والدولة الديموقراطية المدنية التعددية. ويشكل المجتمع الريفي السني وأشكال وجوده الأهلية العائلية والعشائرية والقبلية والإقوامية وحتى الجهوية، الحاضنة الرئيسية له.
ومن جهة أخرى، يقف النظام بكل ثقله العسكري والأمني، مستفيداً من إعادة شد لحمة حاضنته الاجتماعية الأقلوية حوله، ومستعيناً بخدمات عسكرية وسياسية من حلفائه وخصوصاً الإيرانيين، وهو يقاتل من أجل البقاء في السلطة وإعادة إنتاج نفسه من جديد. اليوم، الصراع في سوريا هو صراع بين استبدادين: استبداد «علماني» واقعي، واستبداد ديني محتمل، إنه صراع على السلطة. في هذه المعادلة، يقدم النظام نفسه كمحارب ضد الإرهاب ويطالب العالم بدعمه، لأنه يقاتل نيابة عنهم، أما المعارضة المسلحة فإنها تقدم نفسها على أنها تريد إسقاط النظام من أجل بناء النظام الإسلامي.
في هذه المعادلة المعقدة والصعبة، ورغم كل الذي جرى من قتل وتدمير، فإن كثيراً من الدول المتورطة في الصراع سوف تكون أكثر تفهماً للنظام من المعارضة، لأن همها في نهاية المطاف يتركز على تأمين مصالحها، لا على مطالب الشعب السوري العادلة، التي كاد أن يقضي عليها الصراع المسلح. وإذا كان ثمة فرصة لتحقيق بعض هذه المطالب، وخصوصاً الانتقال إلى نظام ديموقراطي حقيقي، فهي تلك التي يؤمنها مؤتمر «جنيف 2». لكن ذلك يشترط أن تركز المعارضة على هذا الهدف في المفاوضات، لا على رغبات وشعارات غير قابلة للتحقق.
* رئيس مكتب الإعلام
في «هيئة التنسيق الوطنية» السورية