تأتي الذكرى السبعين على ما تمّت تسميته «النكبة الفلسطينية» أو اختصاراً في المفهوم الشعبي «النكبة» وسط تراجع مخيف لأهمية القضية الفلسطينية والاهتمام الجاد بها، في ضوء تطور نكبات محيطة إن كان في العراق أو سوريا أو ليبيا وآخرها اليمن، وغيرها من البلاد العربية التي تعيش حالة فقدان الوزن وانحلال إطارات الدول التي نشأت بعد اتفاقات سايكس - بيكو في نهاية الحرب العالمية الأولى. من المفيد في هذه المناسبة التفحّص الموضوعي لواقع القضية الفلسطينية ومحاولة العدو الإسرائيلي السيطرة على أرض فلسطين التاريخية عبر استمرار عمليات القضم التدريجي للأرض برغم كل الاتفاقات التي أُقيمت وما زالت تحت مسمّى ما عُرف بأوسلو.
أولاً: في طبيعة المواجهة
أي في موضع الصراع: إنّ أي متفحص للصراع الذي جرى ويجري على أرض فلسطين لا بدّ أن يطرح السؤال: ما طبيعة الصراع وما هي القوى المتصارعة؟ ويعبّر عنه بطريقة شعبية دارجة «شو قضيتك؟». في رأينا إن أول مهمة أمام القوى الفلسطينية الحيّة هي في وضع تحديد مدى مشروع المواجهة كي تستطيع استكشاف وسائل وتكتيكات خيارات البدائل. هنا لا بد من العودة قليلاً إلى الوراء لتفحّص تاريخ تأسيس الكيان الصهيوني على أرض فلسطين التاريخية والمنطقة العربية المحيطة.
قراءة في تاريخ الصراع: إنّ أي متتبع للصراع على منطقة المشرق العربي في العصر الحديث لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار التطور التاريخي الحديث للمنطقة الذي يمكن سرد أبرز محطاته بالتالي:
■ تبلور الأطماع الغربية في ساحل شرق المتوسط منذ منتصف القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث ابتدأ النفوذ الأوروبي بالتعاظم وفرض صلاحيات واسعة للقناصل والبعثات الدبلوماسية الأوروبية والأميركية وللشركات التجارية بالإضافة إلى وصول البعثات التبشيرية والتعليمية إلى الشرق، ما أدّى إلى خلق بيئة متآلفة ومرتبطة بالمصالح الخارجية. كما أنّ ازدياد وتطوّر التعليم سمح بوجود فئات متعلمة بدأت تشعر بأهمية الحاجة إلى وجود ثقافة متحررة من الهيمنة العثمانية وإلى بدء ظهور الجمعيات السياسية السرية والصحف السياسية والعلمية في ما عُرف بعصر النهضة.
■ ترافق ذلك مع تطور اجتماعي وقومي في دول أوروبا الشرقية بدءاً من غرب روسيا وعمليات التحريض وازديادها في روسيا ودول أوروبا الشرقية للجاليات اليهودية في ما عرف بحملات «Pogroms» (كانت محاولة اغتيال قيصر روسيا على يد فتاه يهودية أحد تلك الأسباب)، وإلى بدء الدعوة بين الجاليات اليهودية الشرق أوروبية للهجرة إلى فلسطين أو غيرها في ما عرف بجمعيات «محبي صهيون»، وإنشاء أول مستعمرة على أرض فلسطين في روش بينا في الجليل الأعلى عام 1882. أتى لاحقاً بروز دعوة هرتزل لإنشاء «دولة اليهود»، وتبعها تأسيس المنظمة الصهيونية العالمية لتحقيق ذلك الهدف.
■ أدّى وقوع المشرق العربي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى تحت الاستعمار الكولونيالي البريطاني والفرنسي في ما عُرف بالانتداب الذي فُرض من عصبة الأمم. حرصت الحركة الصهيونية حينها على أن يتضّمن صك الانتداب على فلسطين من عصبة الأمم ملاحظة إنشاء كيان لليهود في فلسطين. ترافق ذلك مع بدء الاكتشافات النفطية والأهمية الاقتصادية الاستراتيجية للمنطقة للاقتصاد العالمي، حيث تمّ مدّ أول خط نفطي من كركوك إلى ميناء حيفا في فلسطين في ثلاثينيات القرن الماضي ليربط المنطقة العربية جغرافياً واقتصادياً من جديد، إضافة إلى تاريخها السابق المشترك (تمّت تهيئة ميناء حيفا وافتتاحه في أواسط ثلاثينيات القرن العشرين وبناء مصفاة النفط الحديثة لاستقبال النفط من مدينة كركوك في العراق)، ما جعل المنطقة ذات أهمية استراتيجية كبيرة للعالم الصناعي الغربي المهيمن وربطها بصراعات السيطرة العالمية على تلك المادة الاستراتيجية. الملاحظ هنا أن خريطة الخط جعلته يمر في الأراضي كافة التي كانت تهيمن عليها بريطانيا العظمى، ولاحقاً تم إنشاء خط ثانوي يمر عبر سوريا إلى ميناء مدينة بانياس ثم طرابلس لمراعاة احتياجات الفرنسيين.
■ شكّل الانتداب البريطاني لأرض فلسطين بقرار من «عصبة الأمم»، البيئة الضامنة الحامية لنشوء كيان «تحت الدولة» للوجود اليهودي المنظم تحت حكم الانتداب، ولم يكن إنشاء الوكالة اليهودية عام 1929 (كحكومة محلية ممثلة للجالية اليهودية) والبنك الاستعماري في فلسطين إلا أدوات استخدمها قادة المنظمة الصهيونية العالمية لتنظيم أمور الجالية اليهودية المحلية، ولشراء والسيطرة على أهم المواقع الزراعية في فلسطين مثل مرج ابن عامر ومستوطنات حول بحيرة الحولة وبحيرة طبريا. تمّ التركيز في هذه المرحلة على أكثر الأراضي خصوبة في فلسطين التي كان يملكها في حالات عدة عائلات غير فلسطينية. استخدم القادة الصهاينة مفهوم «العمل العبري» لطرد الفلاحين العرب الفلسطينيين من على الأراضي التي عملوا عليها منذ أقدم السنين. لذلك أولى عمليات التطهير العرقي في فلسطين بدأت منذ ثلاثينيات القرن الماضي وتبلورت لاحقاً في ما عُرف لاحقاً «الخطة دالت». تولّى قيادة المنظمة الصهيونية في تلك الفترة حاييم وايزمان الذي كان عالماً كيميائياً حاز جائزة لاختراعه مادة الاسيتون ما ساعد بريطانيا العظمى على استخدام النيتروغليسيرين في صناعة المتفجرات، الشيء الذي ساهم في المجهود الحربي البريطاني حينئذ. كما كان الممول الحقيقي لمشروع تأسيس الوجود الصهيوني على أرض فلسطين الثري اليهودي المالي روتشيلد الذي موّل إنشاء مدينة تل أبيب في ضاحية من ضواحي مدينة يافا الفلسطينية.
ما قبل إقامة إسرائيل احتوت فلسطين أكبر وجود عسكري بريطاني خارج بريطانيا بعد الهند


■ أدى تنامي الهجرة اليهودية إلى فلسطين إلى مجموعة انتفاضات من السكان العرب الفلسطينيين، وأتت «هبّة البُراق» عام 1929 ولاحقاً ثورة القسام عام 1935، وأخيراً ثورة الأعوام 1936- 1939 التي كانت بالفعل ثورة شعبية مسلّحة، واستطاعت المقاومة الشعبية السيطرة على بعض المدن الفلسطينية كاملة ما اضطّر القوات البريطانية المحتلة إلى استدعاء عشرة آلاف جندي من قواتها المتمركزة في الهند. هكذا احتوت فلسطين على أكبر وجود عسكري بريطاني خارج بريطانيا بعد الهند.
■ أدّى ذلك من جهة الوجود الصهيوني اليهودي في فلسطين إلى إنشاء «كتائب البوليس اليهودي» لحماية المستوطنات، التي كانت الكتائب المسلحة الأولى لتشكيلات قوات الدفاع اليهودية «الهاجاناه». كما كان لتأسيس «الكتائب الليلية» لترهيب وقتل الفلاحين الفلسطينيين من قبل الضابط البريطاني المتصهين أورد ونغيت، البدايات الأولى لسياسات الترهيب والطرد وتدمير القرى المنهجي، التي مُورست بحق الفلاحين الفلسطينيين للضغط عليهم وإرهابهم لترك أراضيهم. طوّر وينغيت لاحقاً هذا المفهوم خلال الحرب العالمية الثانية بابتداع سياسية «خلف خطوط العدو» ومارسها خلف خطوط اليابانيّين في جنوب شرق آسيا.
■ أدّى انتهاء الحرب العالمية الثانية وخروج بريطانيا وفرنسا منهكتين من الحرب إلى استبدال المنظمة الصهيونية العالمية لتحالفها الاستراتيجي من بريطانيا إلى الولايات المتحدة التي خرجت من الحرب العالمية الثانية كقوة عظمى مع الاتحاد السوفياتي. من اللافت هنا الوعي المبكر لدى القادة الصهاينة لضرورة وجود حليف دولي كبير لمشروعهم المتشكّل على أرض فلسطين، لذلك عُقد المؤتمر الصهيوني السادس عشر في مدينة بلتيمور الأميركية عام 1942، أي قبل انتهاء الحرب العالمية الثانية بثلاث سنوات. بدأ مذذاك التأثير الكبير للجالية اليهودية الأميركية وللوبي الصهيوني المحلّي في دعم وإنجاح المخطط الصهيوني على أرض فلسطين.
■ أدى التمويل والدعم الغربي للمشروع الصهيوني المتبلور على أرض فلسطين جزءاً من الدعم الغربي لمشروع «الترانسفير» لليهود من أوروبا الشرقية، الذي طبّقه لاحقاً أدولف هتلر خلال الحرب العالمية الثانية. وهكذا نرى أنّ الأهداف «غير السامية» تلاقت مع أهداف الصهيونية في تأسيس دولة إسرائيل على أرض فلسطين. إن هذا الموضوع لم يتم التطرق إليه كفايةَ على الجانب العربي والفلسطيني، وهو جزء من فهم تاريخ طبيعة المشروع المتبلور على أرض فلسطين، وكيفية التعامل معه. لاحقاً استفاد الكيان الصهيوني من «التعويضات» المالية الألمانية التي قدمتها حكومات ألمانيا الغربية ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى الكيان الصهيوني في دعم المشروع الصهيوني.
■ وعى قادة الكيان الإسرائيلي (بن غوريون بالأخص) أهمية وجود سلاح ردعي استراتيجي لضمان بقاء الكيان المستولد. ولهذا كان هدف الحصول على هذا السلاح عاملاً مهماً في الصراعات التي جرت في المنطقة منذ منتصف القرن العشرين. كما كان التصدي لحركات التحرر الوطني في البلاد العربية جزءاً من قدرة الكيان الصهيوني على ابتزاز دول الاستعمار القديم للحصول على هذا السلاح. والمثل الأكثر سطوعاً هو ما جرى بعد قرار الرئيس المصري جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس لتمويل عملية بناء السد العالي. إذ تم الاتفاق الثلاثي على شن عدوان عليه من بريطانيا، وفرنسا وإسرائيل في ما عُرف بالعدوان الثلاثي. كان الثمن الذي دفع حينذاك مقابل اشتراك إسرائيل هو مفاعل ديمونا الذي حصلت عليه من فرنسا المتضررة من دعم عبد الناصر لثورة الجزائر.
■ إن الاستعراض السابق مع ما تبعه من حروب عربية إسرائيلية يشير إلى أن الدور الصهيوني في المنطقة لم يكن أبداً محصوراً بالسيطرة على أرض فلسطين التاريخية، ولكن تجاوز ذلك في التأثير على كامل المساحة العربية والتمدد إلى المناطق المحيطة بها أيضاً لناحية المدى الاستراتيجي والتوسع إلى القارة الأفريقية والتحالف مع أكثر الأنظمة رجعية مثل نظام جنوب أفريقيا ونظام الشاه في إيران قبل الثورة... الخ.
■ من الملاحظ أنه خلال عقد الثمانينيات انتقل الثقل الاستراتيجي في المنطقة من مصر وبلاد الشام، وفي ضوء هزيمة عام 1967 إلى دول الخليج العربي والعراق خاصة بعد انتصار الثورة الإيرانية والتهديد الذي شكلته لدول الخليج والعراق، وهذا ما أدى إلى الحرب العراقية – الإيرانية في عقد الثمانينيات ثم ما تبعها من حرب الخليج الأولى ثم الثانية حينما أطلق صدام حسين صورايخ سكود على الكيان الصهيوني، وما تبع ذلك من احتلال للعراق عام 2003 لإخراجه من الصراع وتفكيك الجيش العراقي تحت مسمى «اجتثاث البعث». إن كل هذه المجريات قد نقلت الثقل الاستراتيجي في المنطقة من بلاد الشام ومصر إلى دول النفط، مع تراكم الريع النفطي والمردود المالي الناتج عنه. وما أزمة الحكم في سوريا ودور المال النفطي في تمويل ذلك الصراع إلا دليل على ذلك التعاظم.

ثانياً: ما العمل؟
• الظرف التاريخي العالمي: قراءة في الواقع السياسي العالمي قراءة في تغيير العالم «تعدد أساليب المواجهة والظرف التاريخي الذي تمر به القضية الفلسطينية».
• الدور الاستراتيجي لإسرائيل في المنطقة: ليس من الخفي على أحد الدور الاستراتيجي للكيان الإسرائيلي في المنطقة بدءاً من تحديد المصطلحات انتهاءً بربط مشروعه بالمشروع الغربي في المنطقة عبر العلاقة التي استطاع صياغتها مع السياسيات والمصالح الأوروبية والأميركية في المنطقة، وليس شعار محاربة «الإرهاب» الذي أطلق من شارون بعد أحداث أيلول 2001، إلا محاولة لربط وتصوير الصراع بين الغرب الصناعي المتقدم في مواجهة «ثقافة الإرهاب» المستندة إلى الثقافة الإسلامية العربية وتحت شعار صراع الحضارات الذي أُطلق في بداية القرن الحالي.
• التجارب الثورية الأخرى: لقد استمرّ احتلال الجزائر نحو مئة وثلاثين عاماً، كما استَعمرت الإمبراطورية البريطانية ميناء عدن الجنوبي لفترة مماثلة، وبينما قاتل الشعب الفيتنامي وقيادته الاحتلالين الفرنسي ثمّ الأميركي واستطاع بنجاح تحقيق استقلاله بصورة أذهلت العالم كلّه. كما أنّ الهند والصين حققتا نجاحات مماثلة بعد الحرب العالمية الثانية مستندتين إلى خصائص التاريخ والجغرافية الطبيعية والبشرية لمجتمعيهما.
• في الصراع الثقافي: اختلاط المقدّس باليومي وطغيان ثقافة الاستشهاد على القراءة الهادئة، فالعوامل المقدّسة هي إحدى عوامل الصراع، لكن من الخطأ القاتل طغيانه على القراءة الهادئة والعلمية لتاريخ الصراع، لأنّ ذلك العامل يعني صراعاً لا ينتهي بين أصوليات، بينما قضية الشعب الفلسطيني هي قضية أعقد الاحتلالات في التاريخ، حيث يتداخل التاريخي بالثقافي «المقدّس». في رأينا إنه لمن الضروري فصل كل تلك العلاقات والتركيز على الجانب الأساسي والحقيقي للمشكلة الفلسطينية وهي قضية احتلال الأرض الفلسطينية والطرد المنهجي للفلسطينيين من أرضهم وسرقة مواردهم و«دفعهم إلى الصحراء»، أي استكمال عملية التطهير العرقي بحقهم. من المهم جداً التأكيد على القضية الفلسطينية كقضية شعب وضع تحت الاحتلال رغماً عنه، حيث يتم تهميشه على أرضه وطرده بطريقة منهجية ومخططة مسبقاً. في رأينا هذا هو جوهر التمييز العنصري تجاهه، بينما يتمتع المحتل لأرضه بكل الثروات الطبيعية في فلسطين وآخرها الغاز!

بعض الأساليب الممكنة
أولاً: إعادة الاعتبار إلى تاريخ الصراع ووضعه ضمن إطاره التاريخي الحقيقي، للاستفادة من دروس وعبر الماضي والاستفادة من الكفاءات الفلسطينية المنتشرة في العالم العربي وخارجه.
ثانياً: إعادة الاعتبار إلى «منظمة التحرير» التي تمّ تهميشها وإلحاقها بالسلطة، وذلك كي تستطيع الاهتمام وتأطير الفلسطينيين، داخل فلسطين وخارجها، من جديد حول قضيتهم.
ثالثاً: الاهتمام بالجانب الحقوقي والقانوني للفلسطينيين الموجودين على أرضهم، وقف عمليات طردهم من أماكن سكنهم ورزقهم وتوثيق كل تلك المحاولات وذلك بالاستفادة من كل وثائق الأرشيف الممكنة ومراكز الدراسات الحالية والقائمة والاعتماد عليها.
رابعاً: إعادة ربط القضية الفلسطينية بالقضية العربية وخطط الصراع العالمي على المنطقة ومواردها ومنافذها.
* كاتبة فلسطينية