لا ينفّكُ الزمن يُربِك في الإنسان وعيهُ لحقيقة وجوده؛ الأشخاص والأحداث والأفكارُ كلّها رهنٌ بهذا المفهوم المُعقّد.طوراً أخرجَ الفلاسفة الزمن حتى عن كونهِ وجوداً حقيقيّاً إلى جعلِهِ مفهوماً اعتباريّاً ليس إلا، ونحا آخرون إلى أنّهُ عارض للمتغيّرات دون الثابتات؛ ولعلّ «الفكرة» في جوهرها ثابتٌ من جهةِ استدامة الأثر؛ والمفكّرون كذلك. ثماني سنواتٍ اكتملت على غياب المرجع الشيعيّ المجدّد محمد حسين فضل الله عن منبرهِ وقلمه؛ وجمهورِهِ الذي أكسَبَهُ ذائقة الانفتاح وحرص العقلنة. الذكرى المُحياةُ كُلَّ عامٍ تطرحُ سؤالَ الحضورِ ذاته، هل غابَ الرجلُ فعلاً في فكره ودوره؛ أم أنّهُ حاضرٌ بكلّ أبعادِ الحضور؟ وهل من الإنصاف أيضاً القول بتساوي الحضور والغياب؟ الأسئلةُ منوطَةٌ باستدامة الأثر؛ وهو ما تجدرُ دراستهُ بموضوعيّة متوخّاة.

شيعيّة فضل الله
لا تفوتُ الحريصَ معرفةُ أنّ البيئة الفكرية الشيعيّة ليست في أفضل حالاتها؛ وصراعُ القيادة ما بين الفقيه والشارع يكادُ يحكمُ بالجمودِ المرّ على أغلب المُنتج الدينيّ الذي يُقدّم اليوم. الفكرُ في الوسط الشيعيّ مشوبٌ بالفقهِ إلى درجةٍ عالية؛ وهو ما يضعُ خيوطَ القيادة الاجتماعيّة في يدٍ واحدة. محاباةُ الشارع في ميول الطقسنة والغرائبيّات ولا عقلنة المرويّات، وصولاً إلى التسامح في الدليل وفوضى القداسات... وغيرها الكثير من الظواهر المقلقة؛ جعلَ العملَ الفقاهيّ مقيّداً أمام كثيرٍ من التوجهات الرائجة. في هذه البيئة القاسية، أصرّ فضل الله أن يستفزّ الوعي الشيعيّ العام بكسر شيعيّته؛ وإدماجه التكوينيّ بالهويّة الإسلاميّة الجامعة؛ ولطالما كان هذا حِرصُهُ حتى لحظات كلامه الأخيرة: أوصيكم بالإسلام، نحن لا نعيش ذواتنا أو مذاهبنا أو خطوطنا الضيّقة؛ اخرجوا من ذلك كلّه إلى رحابة الإسلام. يستطيع المتقصّي لحدّة الزوايا في وعي البيئة الشيعيّة أن يُدرك حساسية هذه النقطة؛ إذ ليسَ من اليسيرِ أبداً ترويض العقليّة المجبولةِ بدور المعارضة والتمرّد منذُ ما يزيدُ على الألف عام. الثوريّةُ فيها ذات حدّين؛ رفضٌ مستميتٌ للعبث من الخارج، وحساسيةٌ عاليةٌ للتجديد من الداخل.
وبينَ هذين النصلين يكونُ الدورُ الحداثويُّ بالغ الحساسيّة والحرج. لم يكن الرجلُ وحيداً في نبض مواجهته هذا، إنّما ـــ والموضوعيّة تقتضي الإشارة ـــ لعلهُ كانَ وحيداً في حجمِ الضريبة التي حملها، إن في حياته أو بعدَ وفاته.
دفعَ فضل الله ثمناً وافياً مُقابل تجديده، وحصدَ في المُقابل مناخاً قابلاً بالفعل للانفتاح والبناء عليه في مشروع تغييرٍ حقيقيّ، وإن كان بعيد المدى. لم يتميّز السيّد باعتدال أفكاره وانفتاح آرائه فحسب؛ بل بكونه مؤسساً لنهجٍ معرفيٍّ مُعتدلٍ في مقاربة «الآخر» الديني والاجتماعي.
في مُحادثة وصديقٍ مخضرمٍ في الحزب التركيّ الحاكم قبل قرابة العامين؛ والحديثُ يجولُ عن شتات الجهدِ الفكريّ الإسلاميّ؛ قالَ لي بإكبار: «لقد قرأتُ من بيئتكم كتب فضل الله، وأكادُ أجزمُ أنّ الرجل ليس شيعيّاً كما ينظرُ أهلُ السنّة للشيعة؛ إنّهُ ينازعني إسلاميّتي دونَ أن يطلُبَ منّي أن أكونَ شيعيّاً كذلك. يتضح لي جليّاً أنهُ إسلاميٌّ أبعد ما يكون عن الانقسامات والمذاهب». هذا الأثرُ البعيدُ لفكر السيّد ليسَ نافِلةً من القول، بقدر ما هو تركةٌ معرفيّةٌ كان من الجدارة بمكان حفظها والبناء عليها.

جرأة الفقيه
حكمَ السيّد فضل الله على نفسه بالطريق العَسِر؛ إذ أصرّ على مسؤوليّة الفقيه في كسرِ المشهورات الخاطئة، الذي لا يرتهن لذوق الجمهور أو ميوله الطقوسيّة، وعمدَ إلى مُماسّةِ عددٍ من نقاط الحساسيّة غير الثابتة في التاريخ الشيعيّ.
يلومُهُ البعضُ على جُرأةٍ استنزفت رصيداً في الشارع أو السياسة أو الإعلام وحتّى منابر المساجد؛ في حينِ يرى هو أنْ لا وقتَ ولا مساحةَ لمُجاملةِ الخرافيين أو الطقوسيين. من يقرأ تاريخ الفقاهة الشيعيّة في المئتين الأخيرتين يُدركُ جيّداً فداحة هذا التحدّي وضرورته. الفتاوى الفقهيّة الجريئة التي اتخذها لم تكن في واقع الحال ذات حجمٍ تجديديٍّ ضخم؛ بقدر ما كانت كسراً لجمودٍ مستفحلٍ وتراكُمٍ في تقديس هذ الجمود. والتجربة الجريئة هذهِ فتحت باباً لأصوات فقهيّةٍ تُسمعُ اليوم بصخبٍ إيجابيٍّ لافِت. البيئة التي لطالما سكنها شبحُ «الفقه المعلّق» باتت تسمعُ نبضاً نقديّاً معقولاً؛ وشيئاً من الجرأة والرقابة التي يُمارسها المثقّف الملتزم على جانبٍ من الخطاب الدينيّ. أما على مستوى قيم التعايش والانفتاح؛ ومنطلقاتها في التنظير لفقه المجتمع؛ فهي قفزةٌ نوعيّةٌ كلّفت صاحبها الكثيرَ من حماسةِ البيئة المسكونة ـــ ككل المذهبيّات الإسلاميّة ـــ بهاجس التعصّب والهروب إلى الجزء بدل الكلّ. موجةُ التجديد التي أطلقها فضل الله أكبر بكثير من حجم مؤسساته على أهميّة دورها، ومن الإجحاف بمكانٍ تقييد هذا التراث ببعض الثغَر التي قد يقع فيها أيٌّ من الذين يُحسَبونَ أو يَحسِبونَ أنفسهم عليها.
كما لا ريبَ أنّ على البيئة التي تحملُ عنوان السيّد وفكرَهُ؛ أن تبني على تجربته لا أن تعتاشَ على مخزونها، وأن تجعلَ من الاسم مداراً للبحث ومنهجة الفكر لا عنواناً للقداسة.

الأنا، والرسالة
في سنٍّ مُبكرةٍ خُضنا جُرأة السؤال المباشر للسيّد عما يُحبُّ قولَهُ للناس بعد وفاته. بدائيّةُ السؤالِ لم تمنع الرجل الرّحبَ من الابتسام والإجابة للكاميرا المتواضعة التي كنّا قد نصبناها أمامه، وهو ما استحال لاحقاً إلى وصيّةٍ أخيرةٍ ذاعت واشتهرت، ويراها الزائر لضريحه اليوم منقوشةً على جدارٍ رُخاميٍّ أسودَ يلاصقُ مرقده.
أجابنا آنذاك: «أقولُ لهم بعد وفاتي: حاولوا أن تفهموني جيداً، فإذا كان البعض لم يفهمني في حياتي؛ لأن التهاويل والانفعالات والتعقيدات قد حجبت وضوحَ الرؤية؛ لكن عندما يغيب الإنسانُ عن الساحة ويشعر الآخرون بالأمن من تعقيدات وجوده عليهم، يمكن أن يفهموه أكثر وأن يستفيدوا من تجربته أكثر». كانَ يعيشُ هاجس الفائدة بعيداً عن اعتبار ذاته. الصورةُ التي تركها السيد في الوعي العام لبيئته لم تمسّها حساسيّات الخطوط من حيث الشكل كثيراً.
المنفتحُ فكراً، البارع خطاباً، الدمِثُ في مماسّته لجمهورهِ وذوبانه بين الناس، وحتّى لينهِ في الردّ على مُخالفيه؛ استطاعَ ببراعةٍ أن يحفر انطباعاً جمعيّاً لا تخدشه الاختلافات والمواقف القبْليّة.
أمثالُ هذا العقل الثريّ تمثّل أحدَ مصاديق القول العلويّ في نهج البلاغة؛ يصفُ فيه نماذج المجدّدين لمسيرة الدين العاقلة، إذ يقول: «وَمَا بَرِحَ لِلَّهِ عَزَّتْ آلَاؤُهُ فِي الْبُرْهَةِ بَعْدَ الْبُرْهَةِ وَفِي أَزْمَانِ الْفَتَرَاتِ عِبَادٌ نَاجَاهُمْ فِي فِكْرِهِمْ وَكَلَّمَهُمْ فِي ذَاتِ عُقُولِهِمْ فَاسْتَصْبَحُوا بِنُورِ يَقَظَةٍ فِي الْأَبْصَارِ وَالْأَسْمَاعِ وَالْأَفْئِدَةِ،... بِمَنْزِلَةِ الْأَدِلَّةِ فِي الْفَلَوَات». غايةُ القولِ إنّ مشروعيّة السؤال عن حضور المجدّد وتراثه الحيّ يشوبها الكثيرُ أمام حجم الإنجاز واستدامته. بل لعلّ الأجدرَ بالبحث هو مشروعيّة السؤالِ عن غيابه.
* باحث وأستاذ حوزوي