بعد كتاب «دم ونفوذ، من النفط إلى الغاز»، تعمل الباحثة أمل أبو موسى على كتاب عن اليمن يلقي أضواء حمراً على خلفيات الصراع حوله ويركّز على الخطط الإسرائيلية للسيطرة على البحر الأحمر والممرات المائية في ما يشبه كماشة حول الدول العربية. وقد أتيحت لي فرصة، من أجل تقديم الكتاب، للاطلاع على المراحل التي قطعتها المؤلّفة في أبحاثها حول هذه المسألة التي تشكّل الخلفية الحقيقية للصراع حول اليمن.تعرّفنا أبو موسى في بحثها إلى بلاد ذات تاريخ عريق قيل فيها إنها كانت يوماً من أقدم المناطق المأهولة في العالم القديم، ومن أكبر الممالك في القرن التاسع عشر قبل الميلاد، وقد نشأت فيها حضارات سبأ، وحميَر، ومعين، وعرفت بملكتها بلقيس التي اشتهرت بثرائها الفاحش، كما بسدها الأعجوبة الذي لقب محيطه بـ«الجنتين»
ويندر أن نجد مكاناً مثله في التاريخ يقع ضحية موقعه الجغرافي. فهو ممر تجاري للقوافل، وخاصرة الخليج العربي المفتوحة على العالم، وقد تزاحمت دول كثيرة على وضع يدها عليه بما فيها إسرائيل، وهي الأخطر؛ ذلك أن اليمن يتحكم بمضيق باب المندب الذي يربط المحيط الهندي وخليج عدن بالبحر الأحمر، ثم بالبحر الأبيض المتوسط عبر قناة السويس. وهو ممر رئيسي للنفط والبضائع من الشرق الأقصى والهند والخليج العربي وشرق أفريقيا إلى موانئ البحر الأحمر، فقناة السويس، فالبحر الأبيض المتوسط وشمال أوروبا، وصولاً إلى أميركا.
في إطار السعي إلى السيطرة على البحار السبعة، عملت دول كثيرة على وضع يدها على هذا الممر الحيوي الذي يعبره نحو ثلث الإنتاج العالمي للنفط. وتزداد أهميته الاستراتيجية لتداخله مع مضيق هرمز وقناة السويس. وزاد طمع هذه الدول به بعد اكتشاف النفط والغاز في أنحاء عدة من اليمن. وإذ تعذّرت السيطرة على باب المندب من دون وضع اليد على اليمن الذي عرف بـ«السعيد»، لجمال طبيعته وبساطة عيش أهله، شُنّت عليه حروب عدة كانت آخرها «عاصفة الحزم» التي قادتها السعودية وأدت حتى كتابة هذه السطور إلى سقوط آلاف القتلى، ونشر وباء الكوليرا ومعاناة نحو سبعة ملايين من الجوع. وبين أبرز الضحايا آلاف الأطفال الذين كانوا يسقطون تحت وابل صواريخ الطائرات والقنابل الحارقة والمدمرة بمعدل ثلاثة أطفال يومياً.

صمود أسطوري
ورغم شراسة هذه الحرب وبشاعتها، فإن الشعب اليمني قاومها، وواجه الطائرات وصواريخها بصدور عارية وبإيمان لا يتزحزح، متمسكاً بأرضه مفضّلاً الاستشهاد فيها على هجرها والنزوح عنها وتحقيق أمنية العدوان الذي يريد الأرض من دون شعبها! ولطالما راهن الطامعون باليمن وثروته وموقعه الاستراتيجي على إدمان شعبه عشبة القات التي تُشعر بالنشوة فينسى اليمني مشكلاته.
تريد إسرائيل أن تصبح سيدة البحر الأحمر والمشرفة على حركة باب المندب


وكان مندوبو اليمن، في زمن الإمامة، يعبِّرون عن هذه الحالة بالنوم في المحافل العربية والدولية، حتى باتوا مضرب مثل في العالم... إلى أن جاء يوم من عام 1962، عندما حطت طائرة في مطار واشنطن وأطلت من بابها سيدة مكتملة الأناقة، ترتدي زياً عصرياً، وتعتمر قبعة ذات طراز رفيع، ويقف إلى جانبها رجل في قمة أناقته. وإذ سئل موظفو المطار من يكون هذان الضيفان الأنيقان، أجابوا أنهما المندوب الدائم للجمهورية اليمنية، المولودة حديثاً، لدى الأمم المتحدة: السفير الصديق محسن العيني وزوجته الأديبة والقصصية عزيزة أبو اللحوم. وفي السنة التالية، قدّم العيني أوراق اعتماده إلى الرئيس جون كينيدي كأول سفير للجمهورية اليمنية لدى الولايات المتحدة. وإذا كانت من فضيلة أمل أبو موسى، فهي أنها نجحت في تقديم صورة صادقة عن بلد عريق مثل اليمن، لم يبق في العالم دولة إلا حاولت إيجاد موطئ قدم فيه أو الجزر المحيطة به، من السعودية والإمارات إلى مصر وقطر وأميركا وروسيا والصين واليابان وإيطاليا وإيران، كما كان مسرحاً لصراعات سياسية شتى، ليبرالية واشتراكية وشيوعية، إضافة إلى حركات إسلامية متنوعة من اليزيديين والحوثيين، إلى «القاعدة» و«داعش» اللتين وجدتا في اليمن بيئة حاضنة خصوصاً بعد انتقال زعيم الأولى، أسامة بن لادن، إليها من أفغانستان.

العين الإسرائيلية
لكن الكاتبة قد فتّحت عيوننا، في الوقت نفسه، على واقع شديد الخطورة في منطقة البحر الأحمر، نادراً ما توقف عنده الباحثون والسياسيون ألا وهو الوجود الإسرائيلي في المنطقة والخطط التي وضعتها الدولة العبرية من أجل تحويل البحر الأحمر «بحيرة يهودية». وأظهرت الأبحاث التي أجرتها المؤلفة أن إسرائيل قد خططت منذ عام 1948 للهيمنة على البحر الأحمر من خلال رؤية استراتيجية ترمي إلى التفلت من محاصرة العرب لها تمهيداً لمحاصرتها هي لهم. وكان ديفيد بن غوريون، وهو أول رئيس حكومة للدولة العبرية، صرح عام 1948 بأن على إسرائيل «السيطرة على نقاط استراتيجية في البحر الأحمر هي ذات أهمية قصوى بالنسبة إلى إسرائيل لأنها تساعدها على التخلص من أي محاولة لمحاصرتها وتطويقها، كما ستشكل قاعدة انطلاق عسكرية لمهاجمة أعدائنا في عقر دارهم، قبل أن يبادروا إلى مهاجمتنا».
تحقيقاً لهذا الهدف احتلت إسرائيل عام 1949 قرية أم الرشراش المصرية على خليج العقبة، ثم حولتها إلى ميناء عرف بـ«ميناء إيلات» بعد اتفاق الهدنة في رودس ليكون ممراً تجارياً حرّاً إلى المحيط الهندي. وصرح الجنرال إسحاق رابين آنذاك: «لقد احتللنا القرية من أجل الحصول على ميناء على البحر الأحمر يربط إسرائيل بالبحار والمحيطات الشرقية... إن سلاحي الجو والبحر الإسرائيليين سيؤمنان سلامة هذا الطريق، وعلينا أن نستعد لمستقبل تستطيع فيه أساطيلنا البحرية والحربية تحطيم الحصار المفروض علينا، وأن نفرض حصاراً بدورنا على بعض الدول العربية أقوى من الحصار الذي فرضته علينا. أي مطلوب منا تحويل البحر الأحمر إلى بحيرة يهودية تدريجياً».
وفي عدوان 1956، تحققت لإسرائيل حرية الملاحة في مضائق تيران. وعلى الإثر، صرح بن غوريون: «هدفنا هو السيطرة على سيناء بأكملها حتى قناة السويس وخليجه، وهذه السيطرة ضرورية لتأمين مصالحنا في البحر الأحمر»، ثم كانت حرب 1967 فاحتلت إسرائيل سيناء وجزيرتي صنافير وتيران اللتين تنازلت عنها مصر أخيراً إلى السعودية. وما إن بسطت سيطرتها على الجهة الشرقية للمدخل الشمالي للبحر الأحمر، حتى راحت تعمل لوضع يدها على الجهة الغربية بغية الوصول إلى الجهة الجنوبية حيث باب المندب.
وفي خطوة هي الأخطر، استطاعت إسرائيل إقناع اريتريا أن تؤجرها جزيرة دهلك لتقيم عليها قاعدة عسكرية هي الأولى خارج فلسطين المحتلة. ولم تلبث معاهدة كامب ديفيد أن أمنت لها الجهة الغربية، كما أفادت تل أبيب لاحقاً من استقلال اريتريا عام 1993 لتجدد عقد إيجار جزيرة دهلك وتغري سلطاتها بتأجيرها جزيرتي حالب وفاطمة وتقيم قاعدة عسكرية على كل منهما. لم تكتف إسرائيل بهذه الجزر الثلاث، بل أقنعت المسؤولين الاريتريين بتأجيرها جزيرتين أخريين هما سنشيان التي نصبت فيها راداراً عملاقاً، وميرا القريبة جداً من جزيرة بريم اليمنية. وأتبعت ذلك باتفاق مع الحكومة الاريترية قضى باعتراف اسمرة بوجود عسكري إسرائيلي كامل في البلاد، وبحرية الحركة لـ«الموساد» على كامل أراضيها. ويقدر عدد الجنود الإسرائيليين في اريتريا بثلاثة آلاف مجهزين بأحدث الأعتدة يحرسون راداراً ضخماً لمراقبة السفن التي تعبر باب المنىدب من أعلى قمة على جبل امبا سويرا، التي يبلغ ارتفاعها 3000 متر عن سطح البحر.
بذلك، تصبح إسرائيل سيدة البحر الأحمر والمشرفة على الحركة في باب المندب الذي بات عملياً امتداداً لـ«أرض الميعاد» للشعب اليهودي الذي يزعم أنه «شعب الله المختار».