تتصف سرديّة بن رودس، في كتابه «العالم كما هو»، بفصل عميق بين فريقيْن في هيئة حكم باراك أوباما في السياسة الخارجيّة: الفريق التقليدي النافذ وفريق بن رودس وسامنتا باور والجيل الجديد من الخبراء في شؤون الشرق الأوسط. طبعاً الفصل بين الفريقيْن مصطنع لأن كليْهما يتفقان على توجّهات الحروب والسياسات الأساسيّة. سامنتا باور، صوت الليبراليّة الإنسانيّة الفائقة الحساسيّة، كانت تنتقد الاحتلال الإسرائيلي عندما عملت في الصحافة، إلى أن عيّنها أوباما في إدارته، فقامت على جولات اعتذاريّة عن نقدها السابق وسجدت أمام اللوبي الصهيوني، خصوصاً بعد تعيينها سفيرةً للولايات المتحدة في الأمم المتحدة (في جولة لها في أفريقيا، سحقت سيّارة من قافلة سيّارات هذه الإنسانيّة طفلاً أفريقيّاً في الكاميرون، اسمه توسان بروة، لكنها عوّضت عن قتله بدفع ١٧٠٠ دولار لعائلته). وتبيّن الخلاف المصطنع بين الفريقيْن في التصدّي لموضوع مصر في ٢٠١١.يظهر جهل رودس في شؤون الشرق الأوسط (وهو الذي جعل أوباما منه خبيراً، وعيّنه أخيراً مستشاراً له حتى في سنوات التقاعد) في كل صفحة يتطرّق فيها إلى المنطقة. هو يصف شرارة الانتفاضة في مصر بأنها كناية عن عمليّات إحراق ذاتي على غرار البوعزيزي (ص.٩٩). ويحاول رودس أن يبدو من فريق الخبراء المُشمئزّين من حكم الطغاة في العالم العربي، لكنه لا يذكر بالاسم إلّا تلك الحكومات التي لا تقع في دائرة التحالف مع الحكومة الأميركيّة، أو الطغاة الذين سقطوا (هو ضد حسني مبارك، لكن بعد سقوطه فقط، مثله مثل أوباما وفريقه الذي جهد كي يجعل من عمر سليمان عقدة آمال الشباب المصريين، كما أنهم جعلوا من الثمانيني، الباجي قائد السبسي، ممثّلاً عن تطلّعات الشباب التونسي المُنتفض). عند هؤلاء، التغيير يُختصَر باستبدال طاغية مُوال لأميركا مكروه، بآخر جديد غير مكروه. لا يذكر رودس تطلّعات التغيير إلا في سوريا وليبيا فقط، كأن الشعب البحريني واليمني والأردني والمغربي والسعودي لا يستحق التغيير السياسي.
لكن وصف رودس يعطينا صورة عن عمليّة صنع القرار على المستوى الرفيع: أجهزة المخابرات لم تكن تتوقّع الانتفاضات العربيّة وهي خفّفت حجمها ووقعها، كما أن القادة النافذين في الإدارة، من أمثال هيلاري وجو بايدن نفوا أن يكون مبارك ديكتاتوراً، وسعوا للحفاظ عليه (كما سعت دولة العدوّ والسعوديّة والإمارات، ويعترف رودس أن الحكومتيْن الأخيرتيْن خشيتا من امتداد الانتفاضات إلى بلديهما). الملك السعودي اتصل على عجل بأوباما وانتقد التصريحات الأميركيّة لعدم تعاطفها مع مبارك، ووصف عبدالله المحتجّين بأنهم لا يختلفون عن حزب الله و«القاعدة» و«حماس» و«الإخوان». (ص. ١٠٢) (يغفل رودس عن قصد ما روته «نيويورك تايمز» عن أن بنيامين نتنياهو كان ناشطاً أيضاً مثله مثل الملك السعودي في حثّ أوباما على تأييد مبارك). ويعترف رودس بأن كلام أوباما العلني لم يتطابق مع كلامه في مكتبه، إذ قال إنه يفضّل «رجل غوغل» (وائل غنيم) على مبارك (ص.١٠٠). أما الخبير الحكومي المتمرّس في شؤون المنطقة، جون برينان (الذي جعله أوباما في ٢٠١٣ مديراً لوكالة المخابرات المركزيّة)، فكان صريحاً في حجته بدعم مبارك، مشدّداً على أن «مصر ليست مستعدّة بعد للديموقراطيّة وأن شعبها ليست له تجربة في سياسة مختلفة عن حساب «المجموع صفر»» (ص.١٠٦).
حماسة رودس واضحة في الحثّ على تأجيج الحرب في سوريا وعلى تسليح «الثوّار»


والإدارة التي فعلت المستحيل من أجل الحفاظ على الطغاة العرب في عصر الانتفاضات تسرق فضل إسقاطهم من شعوبهم: هي رأت أنها هي التي أسقطت مبارك، وأنها أسقطت القذّافي (هي بالفعل أسقطت القذّافي الذي كان يمكن أن يستمرّ نظامه أكثر لو لم يعتبر «الناتو» أن إسقاطه من مهمّات حماية الحلف). وتلاقت مصالح الإدارة الأميركيّة مع مصالح الأنظمة الخليجيّة (المُقَرِّرة)، وأعلم «زعماء عرب» (وهو مصطلح تفضّله أميركا في إشارتها للطغاة العرب الموالين لها) هيلاري كلينتون أنهم مستعدّون للمساهمة في جهد غربي «لمعاقبة القذّافي» (ص. ١١١) (لأن معاقبة الظلم والقمع هو من اختصاص الطغاة في الخليج). لكن رودس لا يعترف بحقيقة أن معظم التقارير الغربيّة والعربيّة والأرقام عن ضحايا القمع في ليبيا كان مبالغاً فيها إلى درجة مذهلة، وأن عدد القتلى جراء قلب النظام الليبي فاق عدد القتلى في حقبة الانتفاضة وقمع النظام. أما سامنتا باور، فالأرقام والحقائق لا تعني لها شيئاً؛ هي قالت إن ما جرى من قصف للنظام في إجدابيّة ماثلَ ما جرى في راوندا، حيث مات نحو 800,000 من السكّان. لكن تعبئة الرأي العالم العالمي ضروري عندما يتأهّب الغرب للعدوان. والدعاية السياسيّة هي اختصاص أميركي في ساعات العدوان: الخبراء القانونيّون في البيت الأبيض أبلغوا المسؤولين فيه بضرورة تجنّب ذكر كلمة «حرب»، فيما كانت أميركا تستعدّ للحرب على ليبيا (ص.١١٨).
الأشنع في الرواية الليبراليّة عن استعمار أميركا الحربي منطقتنا أنها تريد الشيء وعكسه: هي تريد أن تقمع بالقوّة أي تحرّك ديموقراطي في العالم العربي وأن تفرض بالقوّة نظام طغيان إقليمياً واحتلالاً إسرائيلياً، لكنها في الوقت عينه تريد أن تسرق فضل أي تحرّك شعبي تحرّري عندما يحدث في أي بلد عربي. لرودس هذا نظريّة صفيقة عن اندلاع الانتفاضات العربيّة، إذ هو يقول (ناسباً الفكرة إلى امرأة فلسطينيّة يعرفها، وشهادة المُخبر المحلّي المفيد ضروريّة للاستعمار للشعور بالاعتزاز) أن سبب اندلاع الانتفاضات لا يعود إلى قرار الشعوب بمواجهة الظلم والتخلّص من الطغاة، بل يعود إلى تأثّر العرب الشديد بخطبة أوباما في القاهرة (مَن يذكرها؟) إذ إنها - حسب رودس هذا - ألهمت الشعوب العربيّة برمّتها (ص.٦١). وطريف كيف أن مستشار أوباما يوحي أن أبواب البيت الأبيض مفتوحة للعرب (سوريّون وليبيّون وفلسطينيّون)، كأن هذا إشارة انفتاح سياسي، فيما هي لا تفتح هذه الأبواب إلا أمام مطيعها، مثل ذلك الليبي الذي صادفه رودس خارج البيت الأبيض وهو يعبّر عن شكره لحكومة أميركا لعدوانها على بلاده.
وأوباما الذي لم يتوقّف عن خوض غمار حروب وتدخّلات عسكريّة وحماية طغاة بالقوّة، وجد متسعاً من الوقت كي يمضي في قطار «التسوية» الذي انطلق عام ١٩٧٠ ولم يتوقّف عن الصفير مذّاك. هو زاد على قائمة التنازلات الفلسطينيّة والعربيّة المطلوبة (مقابل الاعتراف بجزء من إنسانيّة الشعب الفلسطيني) مطلبَ الاعتراف بيهوديّة الدولة، أي المطالبة الرسميّة برمي أي طفل فلسطيني مولود يمكن أن تؤدّي ولادته إلى تغيير في ديموغرافيا الأكثريّة اليهوديّة التي لم تتحقّق إلا بفعل التطهير العرقي. أما عن حق العودة، فاتفقت إدارة أوباما على أحقيّة الحلّ الذي يمنع عودة اللاجئين على أن يقيموا في الضفّة والقطاع لو أرادوا. يا لسخاء الراعي الأميركي وإنسانيّته! لكن رودس يعترف أنه رغم اعتراضه على سياسات نتنياهو، فإنه «على علم» بالعواطف التي ينطلق منها الموقف الصهيوني الليكودي (ص. ١٤٥). لا، وهذا الليبرالي لا يتورّع عن اجترار الخطاب الصهيوني التقليدي عن بناء «دولة أمّة في الصحراء»، إذ إن الشعب الفلسطيني كان يعيش تحت الرمال وكانت زراعة الزيتون في المخيّلة فقط (يقول المؤرّخ بشارة دوماني في كتابه عن جبل نابلس إنه لم يكن هناك بقعة خصبة لم يزرع الفلسطينيّون فيها قبل قدوم الصهيونيّة). ورودس، الذي وصف «دعم إسرائيل» بـ«دينه العلماني»، يصف غولدا مئير بـ«العادلة». أما عن الوضع السوري، فالصهاينة من أمثال رودس يهرقون أنهاراً من الدموع ويريدون منكم أن تصدّقوا أن عاطفتهم الحارّة عن سوريا، المشوبة بالحماسة الكبيرة لتدخّل عسكري لنصرة أصدقاء أميركا الديموقراطيّين بين الثوّار، هي عاطفة صادقة لا غرضَ فيها ولا مصلحة. إنها الإنسانيّة المحض. يقول رودس في كذبة أكبر من المعتاد إن الموقف هو «موقف أخلاقي» (ص.١٥٧) ووصف الديكتاتور لا ينطبق في المصطلح السياسي الأميركي الرسمي إلا على مَن لا يدور في الفلك الأميركي. وكان طريفاً عندما أعلن جورج بوش اتفاق حكومته مع نظام القذافي لتسليم أسلحة الدمار الشامل لأنه للمرّة الأولى لم يقرن اسم القذّافي بـ«المجرم» و«الطاغية»، وتحوّل الرجل بين ليلة وضحاها إلى «الرئيس القذّافي» في الخطاب الأميركي الرسمي. ويصف رودس مقتل القذّافي (بعد اغتصابه في شرجه) كأنها عمليّة «نظيفة»، إذ يقول: «الثوار جرّوه من مخبئه وقتلوه» (ص. ١٥٨) كاد أن يقول إنهم قتلوه وهم يلبسون قفازات حريريّة.
حماسة الكاتب واضحة في الحثّ على تأجيج الحرب في سوريا وعلى تسليح «الثوّار» (الليبراليّين والعلمانيّين، حتماً، وإن كان هذا المسؤول الأميركي أكثر صراحة من غيره في التعبير عن إعجابه وتأييده لـ«القاعدة» في سوريا، كما سيرد). وفي ٢٠١٢، تلقّى أوباما تقريراً يحضّ على تقديم العوْن العسكري «للمعارضة السوريّة» على قول رودس، في حقبة كانت فيها الإدارة تصرّ على أن «الثورة» في سوريا سلميّة. ومن المضحك للمواطن العربي وغير العربي أن يُقرن اسم سياسات أميركا بـ«الثورة»، أي ثورة في أي مكان في العالم، لما في تاريخ أميركا من العراقة في محاربة الثورات على أنواعها. وقد لعب ديفيد بتريوس دوراً في دفع قرار التسليح، وكان ينسّق مع وسام الحسن حتى أيّامه الأخيرة في هذا الشأن (كانت آخر زيارة للحسن إلى واشنطن بناء على استدعاء من بتريوس، ومن المستبعد أن يكون اللقاء من أجل التباحث في شأن الخلاف بين مصطفى علّوش وأحمد فتفت). وكانت حجّة بتريوس أن التسليح يؤدّي إلى «بناء علاقة مع المعارضة» (أملاً بوصولها إلى السلطة) مع اعترافه بأن العوْن العسكري لن يغيّر في وجهة الحرب (لم يشرح رودس سبب ذلك) (ص.١٩٧). ويقرّ رودس (من دون أن يشرح إذا كان موقفه معبّراً عن فريق عريض في الإدارة) بأنه عارضَ تصنيف «النصرة» كمنظمّة إرهابيّة من الإدارة الأميركيّة لأن «النصرة كانت ربما أقوى قوّة مقاتلة في صفوف المعارضة وكان واضحاً أن المعارضة الأكثر اعتدالاً كانت تقاتل جنباً إلى جنب مع «النصرة». وقد حاججتُ بأن تصنيف «النصرة» كإرهابيّين سينفّر نفس الناس الذين نريد مساعدتَهم، كما أن ذلك يُقلّل من حوافز النصرة لتجنّب الارتباطات المتطرّفة» (ص. ١٩٧). ومن الملاحظ أن توصيف رودس ينفي عن «النصرة» صفة التطرّف. وعندما تجد أن مسؤولاً أميركيّاً رفيعاً يدافع عن «النصرة» في اجتماعات سياسيّة في البيت الأبيض، وينفي عنها صفة الإرهاب، لا تستغرب نزوع الكثير من العرب لنظريّة المؤامرة (الصائبة في كثير من الأحيان) عن علاقة أميركا نفسها بـ«الإرهاب» المحلّي المتسربل بزي الإسلام. ويعترف رودس أيضاً أنه كان من دعاة التدخّل الأميركي العسكري المباشر في سوريا، لكنه يقول إنه كان وحيداً في دعوته مع سامنتا (باور) وجيك (المتحدث باسم البيت الأبيض). وهذا تجلٍّ لفكرة أن الليبراليّة الغربيّة أكثر عدوانيّة وأكثر وحشيّة في طلب التدخّل العسكري في الشرق الأوسط من المحافظين في كثير من الأحيان، أو قلْ إنها تتفق في ذلك مع المحافظين الجدد، وإن كانت سمعتها أنضر منهم في بلادنا.

يقرّ رودس بأنه عارضَ تصنيف «النصرة» إرهابيّة لأنها «كانت ربما أقوى قوّة في المعارضة»


ويتضّح للقارئ مدى النفوذ الإسرائيلي على قلب صنع القرار الأميركي في ما يتعلّق بكل مجريات الشرق الأوسط. ونتنياهو يتحدّى أوباما في عقر داره في الكونغرس، وهو «يعظ» الرئيس الأميركي بشأن مطالب إسرائيل، فيما لا يعترض أوباما بل يرسل مساعديه لمراضاة اللوبي الإسرائيلي ولخنق المطالب الفلسطينيّة التي لا يمكن أن تتقلّص أكثر مما تقلّصت في زمن محمود عبّاس وزمرة الاختلاس والاحتلال في رام الله. ويعترف رودس أن موضوع تشديد العقوبات على إيران ترأس جدول المباحثات بين الحكومة الأميركيّة والصين واليابان وكوريا الجنوبيّة والهند والدول الأوروبيّة في عاميْ ٢٠١١ و٢٠١٢. وكانت الحكومة الأميركيّة تشدّد العقوبات من ناحية وتنصح حكومة العدوّ بعدم الاعتداء على إيران من ناحية ثانية وذلك خشية أن تُجرّ الحكومة الأميركيّة إلى حرب إقليميّة ضد دولة «أكبر وأقوى وأكثر تطوّراً» (ص. ١٧٣) من العراق في عهد صدّام حسين. وبرغم كل خدمات أميركا للعدوّ، فإن نتنياهو كان دائماً يعترض أن أفعال أميركا (في خدمة إسرائيل) لا تكفي. وفيما كان نتنياهو يحرّض للحرب مع إيران، كانت إدارة أوباما تحاول أن تكسب بعض أعضاء الكونغرس الذين، وفق وصف رودس، «يخشون من الاختلاف مع إسرائيل».
وكلام أميركا المعسول عن الشعب المصري - بعد لا قبل سقوط مبارك - تناقض مع موقفها بعد انقلاب عبد الفتاح السيسي. يعترف رودس بذلك ويتظاهر بالانزعاج جراء ذلك. وعندما طرح موضوع مصر مع أوباما ذات يوم، حول القمع الجاري في مصر، نهره أوباما بالقول: «إن أولويّتنا هي الاستقرار ودعم المجلس العسكري. وحتى لو تعرّضنا للانتقاد، فإنني لا أكترث للحشد في ساحة التحرير أو لنيك كريستوف» (ص.١٧٤) (الأخير معلّق في «نيويورك تايمز» يشتهر بعلكه عن الديموقراطيّة مع حب كبير للحروب الأميركيّة). ولا يختلف أوباما عن سابقيه في أولويّات الاعتبار السياسي على الشأن الأخلاقي في كل القرارات: فعندما أثار معه رودس موضوع بورما، أجابه أوباما بصراحة: «ليس هناك من يكترث لبورما في أوهايو» (وولاية أوهايو مركزيّة في الفوز في الانتخابات الرئاسيّة). ويضفي رودس على نفسه مسحة أخلاقيّة عبر الإقرار باختلافه مع أوباما لأنه، كما كتب، وجد تناقضاً بين قناعاته والسياسات المُنتهجة. لكن رودس ينسى تناقضاته في مواقفه ليس فقط من الاحتلال الإسرائيلي، بل في صمته في كتابه عن القمع في البحرين واليمن وغيرهما من البلدان التي يحكمها طغاة من أصدقاء أميركا. حتى أوباما في مداخلاته الداخليّة ضد الليبراليّين من دعاة التدخّل العسكري في سوريا أشار إلى التناقض في المواقف عندما علّق بأن الذين يحثّون الإدارة على التدخّل العسكري في سوريا صامتون عن مقتل الملايين في جمهوريّة الكونغو.
وعمل رودس بنشاط للتحضير لأوّل زيارة لأوباما بعد انتخابه في ٢٠١٢ في دولة الاحتلال الإسرائيلي. وهو أرادَ من الزيارة أن تكون من أجل «تكريم الصهيونيّة»، عبر زيارة قبر هرتزل وإبراز «الارتباط التاريخي اليهودي بالأرض» (الخالية من السكّان، طبعاً، إلى أن غزاها الفلسطينيّون في مطلع القرن العشرين ردّاً على الهجرة الصهيونيّة، كما ورد في كتاب جون بتيرز، وغيرها). ولا تتوقّف سرديّة رودس عن الربط بين عدوان وإرهاب دولة الاحتلال والمحرقة، إذ يقول «إن تاريخ إسرائيل ليس عادياً أبداً. إن الهم الأمني متجذّر في تاريخ من معاداة الساميّة المستمرّ إلى يومنا». (ص. ٢٠١). وبجملة واحدة، يُقرّر رودس أن الكفاح الفلسطيني المسلّح ليس إلا استمراراً لسياق بدأ في التاريخ السحيق ومرّ في المحرقة النازيّة إلى أن تسلّم مشعل النازيّة الفلسطينيّون الثوّار. وفي رحلة إلى رام الله بالطوّافة، يقارن رودس بين وضع المستوطنات التي ذكّرت هذا الرجل الأبيض بأوروبا و«البلدات الفلسطينيّة التي بدت رثّة» (ص. ٢٠١).
لا يخفي المسؤولون الأميركيّون فرحتهم من انقلاب السيسي. ورودس يحاول أن يلوم السعوديّة والإمارات على انقلاب السيسي كأنهما حكومتان مستقلتان في قرارهما. يروي رودس ويقول: «هذه المرّة، كانت لدينا إشارات أن العسكرية المصريّة - بدعم من حكومتيْ الإمارات والسعوديّة ـ كانت تحرّك القلاقل، محضّرةً للانقلاب» (ص.٢٠٣) على حكم مرسي المنتخب. واتهم رودس حكومتيْ الإمارات والسعوديّة بشنّ حملة دعائيّة ضد سفيرة أميركا في مصر، آن بترسن، لأنها تعاملت مع الحكومة المنتخبة (لا يمكن نفي أن فترة حكم مرسي كانت أكثر ديموقراطيّة وانفتاحاً في حريّة النقد في التاريخ المصري). ويحاول رودس أن يزوّر الوقائع فيزعم أن انقلاب السعوديّة والإمارات ضد مرسي لم يكن متوافقاً مع السياسة الأميركيّة، كأن الحكومة الأميركيّة تريّثت قبل رعاية ودعم حكم الطاغية السيسي. أكثر من ذلك، رفضت الحكومة الأميركيّة أن تصف ما جرى في مصر على يد السيسي بأنه «انقلاب»، كأن السيسي وصل على متن صندوق اقتراع، أو كأن مرسي غادر المقرّ الرئاسي طوعاً.
وفي القسم المتعلّق بالسلاح الكيمائي في آب ٢٠١٣ وخطوط أوباما الحمراء (التي عاد وتناساها بعد الاتفاق على تسليم النظام السوري لسلاحه الكيمائي)، يرد في سرديّة رودس أن مدير الاستخبارات الوطنيّة (أي الجهاز الذي ينسّق بين ١٧ جهاز استخبارات أميركي)، جيم كلابر، لم يجزم بمسؤوليّة النظام السوري عن استعمال السلاح الكيمائي في تلك المرّة، لكنه لم يجزم ببراءته أيضاً. قال كلابر إن حكم أجهزة المخابرات «ليس قاطعاً أو جازماً» (ص.٢٢٨) (استعمل كلابر نفس التعبير الأميركي المحكي الذي كان جورج تنيت قد استعمله للجزم بحيازة العراق على أسلحة الدمار الشمال قبل غزو العراق في 2003). وهذا الحكم من أجهزة الاستخبارات لم يتسرّب إلى الإعلام، لأن الحكومة الأميركيّة جزمت بمسؤوليّة النظام في حينه. ويظهر التلاعب السياسي بالقرارات الأميركيّة العسكريّة: الجمهوريّون يحضّون على الديبلوماسيّة عندما ينزع الرئيس الديموقراطي نحو الحرب، كما ينزع الديموقراطيّون نحو التصلّب إذا ما نزعَ رئيس جمهوري نحو الديبلوماسيّة.
ليس هذا الكتاب عديم الفائدة. قد أقرّرُ فرضَ نتفٍ منه في مادة «العلاقات الدوليّة» لكن ليس لأسباب استبطان دوافع الكتاب، وإنما بهدف تفكيكها وفضح النيات الأميركيّة وسترها وراء حجم كثيف من الدعاية والخطاب السياسي الموجّه في أكثره إلى شعوب العالم. هذا الكتاب يصف كيف تطوّع أميركا العالم وفق مصالحها، ومصالح دولة العدو الإسرائيلي. تجثم منظمة «إيباك» بثقل في ثنايا الكتاب، إذ إن مراعاتها تدخل في صلب القرار السياسي الرئاسي. يحتاج الرئيس الأميركي أن يتصل بنتنياهو في محاولة لكسب موافقته على الاتفاق النووي بين الدول الستّ وإيران. ليست هذه سياسة إمبراطوريّة مُلزمة، لكنها سياسة إمبراطوريّة تنظر بقلق إلى بوادر نقد أو معارضة من دولة احتلال لا تقوم لها قائمة - لا في الحرب ولا في السلم - من دون الدعم المالي والعسكري الأميركي. وهذه المراعاة لا تختلف البتّة بين إدارتيْن.
*كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)