تشهد صفحات التواصل الإجتماعي منذ أيام جدلاً آخذاً بالإتساع على خلفية جمع
تواقيع في منطقة النبطية لتقديمها لمحافظ المدينة محمود المولى بغية إلغاء التراخيص الممنوحة لمحلات بيع المشروبات الكحولية وعددها لا يتجاوز الثمانية، وهي موجودة بغالبيتها في بلدة كفرّمان ذات الخلفية التاريخية اليسارية. ويحتجّ القيّمون على جمع هذه التواقيع بأن بيع الخمور في منطقة غالبيتها من المسلمين يعدّ تعديّاً على العقائد والتشريعات المقدّسة التي تحرّم بيع وشراء وشرب أي نوع من أنواع المسكرات.
النبطية ليست الرقّة
قطعاً لكنّها أيضاً ليست البصرة ولا مدينة الصدر

من نافل القول إنّ التشيّع في مدينة النبطية ليس أمراً طارئاً بل هو أصيل أصالة المدينة، لا بل هي بالذات اكتسبت شرف كونها «مدينة الحسين» وفيها تقام المراسم العاشورائية الأكثر وجدانية وحماسة ربّما بين كل المدن الشيعية بعد النجف وكربلاء. ومع ذلك فإنّها أيضاً وتاريخياً تعد من المدن الأكثر تنوّعاً وتسامحاً من الناحية العقائدية، ففيها يتعايش المؤمنون والشيوعيون وأزلام الإقطاع السابق والملحدون دون أن تخرج يوماً على صفحات الإعلام كمدينة تناقضات في تصارع غير مدني. ففي شوارعها تختلط المحجبة بغير المحجبة والملتزم شرعياً بالعلماني والملتزم بولاية الفقيه أو بالشيرازي فضلاً عن نسبة كبيرة من المقيمين السوريين من مختلف الأطياف. المتجوّل اليوم في ناحية كفرّمان لا يلحظ أي تغيير، فمحلات بيع الخمور تمارس عملها المعتاد وهي تستقبل زبائنها بشكل اعتيادي، ولا يبدو أنّ الحملة التي تنظمّها بعض الجماعات لمنع بيع الخمور ترقى لمستوى تهديد جديّ كالشروع في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في مجتمع متنوّع، ولئن
كان هذا المجتمع في أغلبيته يتبنى الخطاب السياسي الشيعي بشقيه حزب الله
وحركة أمل، فإنّ نسبة كبيرة منه ترى الإسلام على طريقتها وتمارس طرق عيش
لا يمكن معها أن تقبل أي مثال إسلامي يُفرض عليها، وأي محاولة من هذا
النوع لا شكّ للعارف بالتركيبة الإجتماعية والثقافية للمدينة وللمنطقة، ستؤدي إلى تدمير تلك التوازانات المعّقدة ودخول معترك المُضطهد والمضطهد، الجالد والجلاد وهذا لن يكون في مصلحة أحد. فالنبطية بخصوصيتها اللبنانية شأنها شأن أي مدينة شيعية
لبنانية ليست الرقّة قطعاً، ولا يمكن أن تكون، لكنّها أيضاً ليست البصرة ولا
مدينة الصدر في بغداد. وعلى الرغم من أنّ القيّمين على الحملة يستدعون من
التراث الشيعي ومن «الكافي» أحاديث في منتهى الخطورة كحديث «من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد الثالثة فاقتلوه»، يستدعي خصومهم من التراث الرافضي ذاته «الخمرة لا تفسد الدين ما يفسد الدين هو نكران الولاية». في كل الأحوال لن يكون الجدل إلّا عقيماً حين يتعلق الأمر بالنصوص الشرعية وتعقيدات الأحكام الفقهية، فهناك أمور أكثر إلحاحاً تواجهها مدينة النبطية وقراها وهو شحّ المياه حتى في فصل الشتاء. فربّما لو تيسّر للناس ماء سهل يشربونه لأقلعوا عن شرب الخمور وهو ما يجب أن يسعى له محافظ المدينة التي ورثت عن كربلاء عطشها في زمن اليزيديين. واحتساء الخمرة كما هو معروف لم يكن أكبر سيئات يزيد، فهناك جرائم تجري كلّ يوم واغتصاب لحقوق البشر والحجر يُفترض بـ«الغيارى» أن يهتموا بشأنها بدلاً من التلهي بالقشور، ونذكرّهم بقول السيد المسيح عليه السلام في الإنجيل المقدّس؛ «ليس ما يدخل جوف الإنسان يدنّسه بل ما يخرج منه».
* كاتب لبناني