بعد أن تم إسقاط حكومة هاني الملقي، والإعلان عن تكليف عمر الرزاز بتشكيل الحكومة الجديدة، وتصريحه الواضح بسحب مشروع قرار ضريبة الدخل، توقفت الاحتجاجات في الأردن. هل انتهى كل شيء؟كانت النقابات قد أطلقت دعواتها للإضراب بمطلب واحد؛ وهو إسقاط مشروع قرار ضريبة الدخل، وهذا ما قد تحقق، كما أنها غير مستعدة لقيادة حراك اجتماعي واسع وشامل المطالب. التنظيمات والحراكات السياسية التي شاركت منذ اليوم الأول في الاحتجاجات قلِقت من توسع قاعدة الاحتجاج في الأيام الأخيرة، وفقدان السيطرة عليها بالحد الأدنى. الجهات المتصارعة في الدولة مع الفريق الليبرالي انتابها القلق نفسه، ففضلت وضع نقطة نهاية للاحتجاجات. جناحات أخرى في الدولة ارتأت إيقافه برسم اجتماع مكة، على اعتبار أن الرسالة المطلوبة قد وصلت إلى الجهات المانحة لدفع المزيد من المساعدات. هي إذن محطة استراحة مالت إليها جميع الأطراف، ولكن أي منها لا يملك دليلاً واحداً على أن الأردن عبَر الأزمة، ولا أن الناس الذين نزلوا إلى الشوارع قد حُلّت مشاكلهم أو على الأقل في طريقها جدياً إلى ذلك!
لا تفضل النقابات أو الأحزاب السياسية أو الحراكات الناشئة، مهما تمكنت من استقراء لسياسة الرزاز، المبادرة للاحتجاج مجدداً الآن، لا لشيء إلا لتتجنب تهمة المحاكمة على النوايا، ولكنها في حالة ترقب حقيقية لما سيصدر عن الحكومة الجديدة. في المرحلة القادمة كلما انتقلت تصريحات الحكومة من الشعارات إلى الإجراءات العملية سوف تتضح ملامح الاشتباك الاجتماعي أكثر.
في كل الأحوال؛ ما ينطبق على تكتيكات السياسة، لا ينطبق على البحث والإعلام، الذي يمتلك الحق في التعبير عن الاستقراء مسبقاً، ولفت الانتباه للخيارات الممكنة، والإجراءات المتوقعة. بمعنى آخر؛ من حقنا هنا أن نحاكم السياسة التي نتوقع أن ينتهجها الرزاز، والتي نعرفها عنه في أدبياته المنشورة، ولقاءاته الصحافية السابقة، وتصريحاته مؤخراً من موقعه كرئيس للحكومة.

الرزاز، من الريعية إلى الإنتاج
«من الريع إلى الإنتاج، الطريق الصعب نحو عقد اجتماعي عربي جديد»، عنوان الورقة التي قدمها الرزاز خلال اشتعال شرارة الربيع العربي، وقد كانت تصريحاته الصحافية الأخير متخمةً بتعبيراتها وأفكارها.
يعرض الرزاز في ورقته أسباب الأزمة الحقيقية – من وجهة نظره – للمجتمعات العربية، ويعتبر أن ثنائية الريع والاستبداد السياسي تكمن في مركز السببية للأزمات، فالدولة الريعية التي شمل بها الدول المعتمدة على الموارد الطبيعية أو الحوالات الخارجية أو المنح والمساعدات، تجبر الأفراد على الإذعان الكامل لسلطاتها مقابل ما تنفقه عليهم الدولة، ويشكّل ذلك الملمح الرئيس من ملامح العقد الاجتماعي العربي القائم، حيث تميل الدول العربية إلى الريعية؛ لأنها لا تضطر كثيراً لمراجعة ممثلي الشعب، وتعتمد على إيراداتها الريعية أكثر من الإيرادات الضريبية، وغير مضطرة للكشف عن إيراداتها وآليات إنفاقها (الإيرادات سر من أسرار النظام)، ويتغول فيها الأمن على السلطة التنفيذية، وتتغول الأخيرة على السلطة التشريعية، كما أن الأفراد يبحثون عن رضا الحاكم، للحصول على حصة أكبر من النفقات. كل ذلك برأي الرزاز حوّل الدول العربية من دول إنتاجية إلى دول تخصيصية، استكملت مشوراها في الريع عبر مشروع خصخصة مشوه، لم يدفع باتجاه المزيد من المنافسة، وإنما بقي محصوراً في حيز زواج الإمارة والتجارة، فتشكل قطاع خاص زبائني مستفيد من نمط الريع السابق، ويركز على العقارات وعقود مجزية مع القطاع العام. وكل ذلك أنجب قطاعاً خاصاً احتكارياً، لا تدخل معه منشآت جديدة إلى الأسواق، ولا تغادر منه المنشآت التي فقدت قدراتها التنافسية، أو بمعنى آخر تلكم التي تعفنت!
الوصفة التي يقدمها الرزاز في ورقته للانتقال من الريع إلى الإنتاج تعتمد على برنامج من سبع نقاط أساسية؛ التحول الديمقراطي، حاكمية رأس المال العام، من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الإنتاجي، من التهميش إلى التشغيل، من عنصر بشري مذعن إلى عنصر بشري خلاق، من محاصصة الريع إلى توزيع الدخل والحماية الاجتماعية، من تشرذم سيادي عربي إلى تكتل سيادي عربي.
التغنّي بنموذج دبي هو استخدام الريع لاستقطاب الاستثمار


يتفق الرزاز نظرياً مع «إجماع واشنطن» في اعتبار القطاع الخاص هو المحرك الرئيس للاقتصاد، وتكون الدولة مسؤولة عن حماية البلاد من التضخم وفق سياسات الاقتصاد الكلي، وتحرير التجارة الخارجية، وخصخصة القطاع العام (على طريقة مختلفة عن زواج الإمارة والتجارة). كما أنه يعتقد أن الطريقة الأسلم لتنمية الأرياف يكمن في تهيئتها كبيئة صالحة للاستثمار والأعمال، وفي سياق ذلك يجري دمج سكان الأرياف في بيئات العمل هناك، بدلاً من هجرتهم إلى المدن بحثاً عن فرص عمل. النقد الأساسي الذي قدمه الرزاز في ورقته لإجماع واشنطن، يتعلق بالشق السياسي وعدم التركيز على شرعية الأنظمة واستقلال السلطات.
اعتماداً على كل ذلك يمكن اختصار منهج الرزاز، أو رؤيته في العناصر التالية:
أولاً: الرزاز مؤيد حقيقي لمشاريع الخصخصة، ولكنه معارض لطريقة تنفيذها في الدول العربية، حيث تم تنفيذها دون الحد الكافي من الشفافية والكشف عن الإيرادات وسبل إنفاقها، كما أنها انتجت قطاعاً خاصاً زبائنياً، بدلاً من منافسة في أسواق مفتوحة.
ثانياً: يقترح الرزاز تحويل الدول العربية من حالة الريع إلى حالة الإنتاج، ويرى أن تكديس الوظائف في القطاع العام هو عرض من أعراض الدولة الريعية، وغياب الإنتاجية. نظرياً، يميل الرزاز إلى التخلص من القطاع العام على طريقة إجماع واشنطن. في لقاء صحافي أجراه الدكتور يوسف منصور مع الدكتور عمر الرزاز ومروان المعشر، يؤيد الرزاز تعليق المعشر على الأمان الوظيفي (أنا ضد ثقافة الأمان الوظيفي، فالموظف حال شعوره بالأمان الوظيفي لا يبدع )!
ثالثاً: يقدّم الرزاز برنامجاً من سبع نقاط، يمثل التحول الديمقراطي الشرط الأول فيها، والأكثر أولوية على المستوى الزمني. والصيغة النهائية التي يسعى الرجل إليها، دولة معتمدة على القطاع الخاص تحركه المنافسة في الأسواق، وبذلك يصبح الفرد مصدر الثروة، وليس متلقياً للريع. يرى الرزاز في تجربة الإمارات العربية المتحدة وبالتحديد دبي نموذجاً يحتذى به في الانتقال من الريعية إلى الإنتاج.
رابعاً: في ما يتعلق بالعلاقة مع المحيط، يرى الرزاز صعوبة تجاوز دولة عربية بمفردها أزماتها تماماً، وهي بذلك بحاجة لباقي الدول العربية، ولكن ليس على طريقة الدعاوى الرومانسية للوحدة، فقد ثبت – برأيه - الفشل الذريع لكل الدعاوى الرومانسية للوحدة التي أطلقتها أنظمة غير ديمقراطية، وأي مشروع قومي جديد يجب أن يتأسس عبر الديمقراطية القِطرية والتبادل التجاري والانفتاح الاقتصادي على العالم، وتجاوز المفهوم القديم «الاكتفاء الذاتي».

من بقايا الدولة إلى السوق
قد يبدو وصف الدولة الريعية - حتى مع المعايير المطاطة التي وضعها الرزاز في ورقته – غير دقيق، حيث أن ما ينطبق على السعودية التي تؤجر مواردها للحصول على الريع، لا يشبه حالات كالأردن ومصر وسوريا والعراق وغيرها. في الحالة الأردنية، تحصل الدولة على أغلب إيراداتها من ضرائب العاملين في الداخل وحوالات العاملين في الخارج، ويشكّل هذا مردود عمليات إنتاجية، ويخالف معايير الرزاز في انخفاض اعتماد الدول الريعية على الضرائب.
الريعية التي يقصدها الرزاز في الحالة الأردنية مرتبطة بالمقام الأول بالقطاع العام، وتكديس المزيد من الوظائف فيه (35 -40% من القوى العاملة)، ولكن الملفت للانتباه هنا أن القطاع العام الأردني تحوّل إلى قطاع خدماتي (خدمة الجمهور) بعد انسحاب الدولة من المشاريع الإنتاجية، وعجزها لاحقاً عن مهمات التمويل للقطاع العام بالمجمل، ودفع العاملين فيه تحت خط الفقر.
إذن يمتلك الأردن «ريعاً» متمثلاً بقطاع عام تتكدس فيه وظائف بأجور متدنية تحت خط الفقر، مضافاً إليها ريعاً سياسياً. الرواتب المتدنية في القطاع العام، لم تعد تشكل عاملاً للاستبداد السياسي، وبذلك تسقط ثنائية الرزاز في الأردن؛ حيث أن أعلى سقوف الهتافات خلال الاحتجاجات الأخيرة كانت في المحافظات (أبناء القطاع العام)، وليست في العاصمة. أما الريع السياسي، فقد فقدت الدولة الكثير من مهماتها الوظيفية الخارجية تاريخياً (مكافحة الشيوعية، الكيان الفاصل، إلخ)، وما زالت تحاول الاستفادة من الريع السياسي داخلياً (أبقوا الحال كما هي، لأننا بلد آمن في محيط ملتهب، ونحن من حافظنا لكم على هذا الأمن)، وبذلك يمكن شطب الأردن من قائمة الدول الريعية التي عانت بسبب مواردها الطبيعية، أو التي أصيبت بـ«المرض الهولندي».
في المؤتمر الصحافي الأخير وجّه الرزاز رسالة واضحة مفادها أن القطاع العام يجب أن يتطور، وهذا توجه سليم لو جردناه من الخطة متوسطة وبعيدة المدى في ذهن الرئيس، فخطة دمج المؤسسات ورسائل الطمأنة بالحفاظ على جميع العاملين، هي الخطوات الأولى لتقليص القطاع والاستمرار في عزل الدولة عن أي نشاط إنتاجي، والاكتفاء بجسم بيروقراطي تنفيذي خدمي فقط، وتحت عنوان «تطوير العاملين» سيجري دمج المزيد من المؤسسات لتأدية مهمات متنوعة لتسهيل مهمات قطاع الاعمال، لا أكثر.
حسب الرزاز، فالدولة المنتجة هي دول القطاع الخاص المبني على المبادرات والريادة والمنافسة، ولكنه لا يقدم الحلول اللازمة للحفاظ على القطاع الخاص المحلي، وكيفية حمايته من المنافسة غير العادلة مع الشركات العالمية الأخرى، الأمر الذي ينقلنا من الاحتكار الزبائني حسب تعبير الرزاز، إلى احتكار عالمي بوكيل محلي. وهذه الحماية التي تتعارض مع بنود اتفاقية التجارة الحرة التي وقع عليها الأردن، هي السبيل الوحيد لحماية القطاع الخاص المحلي، تحديداً في مراحله الأولى قبل الوصول إلى مرحلة المنافسة العالمية، كما يتمنى الرئيس.
إذاً كان القطاع الخاص المحلي يعاني بسبب المنافسة غير العادلة، ويحتاج لحماية تصطدم ببنود التجارة الحرة كي يتمكن من الوقوف على قدميه، والمبادرات الاقتصادية تبحث عن تمويل خارج إطار الدولة، والقطاع العام محصور بالخدمات بعيداً عن الإنتاج، والمؤسسات التي تقدم ريعاً اقتصادياً للدولة مملوكة لشركات أجنبية، إذن أين الإنتاج؟ ومن أين يبدأ الرزاز؟
يتحدث الرئيس القادم من حقيبة التربية والتعليم عن التدريب والتعليم المتسق مع متطلبات السوق. السوق القائم المرتهن للشركات العالمية يتطلب مهمات تنفيذية وتقنية محددة وإدارية لا تمكن أصحابها من ابتكار ما يلزم للمنافسة، إنها تكفي لمنافسة الفرد في الحصول على وظيفة في السوق القائم، ولكنها لا تكفي لإنتاج ما يلزم لدخول السوق كشركات محلية منافسة، لذلك تعود الأولوية هنا إلى الصراع التاريخي بين أكاديميي «الحرس القديم» والاكاديميين الجدد، هل نعلم أبناءنا كيفية إنتاج جهاز حاسوب أم نعلمهم التطبيقات الحديثة المنتجة عالمياً والمستخدمة بغزارة في الأسواق العالمية، سوقنا وسوق غيرنا؟
في السياسة، يخشى الأردنيون من دعايات التحول الديمقراطي بعد أحداث هبة نيسان، حيث أن المطالب الاقتصادية الأساسية بيعت بشعارات الانفراج الديمقراطي والميثاق الوطني وإعلان التعددية الحزبية في البلاد. إن كل تنازل سياسي قدمته الدولة الأردنية في الداخل، أصبح محل شبهة اقتصادية عند الأردنيين، حيث يتزامن «الإصلاح السياسي» مع الاستمرار في الخراب الاقتصادي. بعد التعرض للأزمات الاقتصادية يجري تكثيف الحديث عن الحوار مع الأحزاب، وتنميتها سياسياً، والمنصات الالكترونية لإشراك المجتمع في الحوار والقرارات، وتطوير أنظمة استقبال الشكاوى من المواطنين، وعادة ما يكون ذلك امتصاص للأزمة الاقتصادية التي تصر الحكومات على الاستمرار فيها.
في المؤتمر الصحافي الذي عقده الرزاز، ليس هنالك أكثر من رسائل طمأنة مطلوبة بعد موجة الاحتجاجات؛ تخفيض الجمارك على سيارات الهايبرد، والبحث في الرواتب التقاعدية للوزراء، والحفاظ على العاملين في القطاع العام حتى بعد الدمج، ومراجعة العبء الضريبي على المواطن مع التأكيد على أهمية أن يتحمل الجميع الظرف الصعب الذي تمر به البلاد، وتسهيل المعاملات البيروقراطية المعقدة لمرضى السرطان، وتخفيض 130 مليون دينار من النفقات الحكومية، والكشف عن معادلات تسعير النفط. وفي ذلك إشارات لمزيد من الشفافية لإقناع المواطنين، الأمر الذي لا يعني التراجع عن النهج الاقتصادي، وإنما تحسين شروط العيش معه.
لا يمكن حل مشكلة بالذهنية نفسها التي أنتجتها أصلاً، الدوامة التي تغرق بها الحكومة الجديدة هي ذاتها التي علقت بها الحكومات السابقة، وهنا لا تعني النوايا شيئاً؛ مزيد من الاستغناء عن دور الدولة في الإنتاج هو السبب الرئيس الذي يحوّل موظفي القطاع العام إلى «مستفيدين من الريع»، والقطاع الخاص المحلي لا يمكن أن ينمو دون تدخل حقيقي من الدولة في التشريعات الحامية له، وتوفير الدعم المالي للمشاريع الناشئة، وتبعاً لذلك يعجز تخفيض النفقات عن أن يكون بديلاً من المزيد من الإيرادات الضريبية. تنمية المحافظات عبر المشاريع الاستثمارية لم تجلب إلا الويل للسكان المحليين، كما جرى في تجارب الهند والمكسيك، عندما حولت الشركات الزراعية الكبرى الفلاحين إلى موظفين انتحاريين تحت سطوة المواد السامة، لقد انتحروا حقاً، ليس ذلك تعبيراً مجازياً...
التغني بنموذج دبي إنما هو استخدام الريع لاستقطاب الاستثمار، وهذا لا يعني دخول الإماراتيين السوق، بقدر تحويل بلادهم إلى سوق، فالاكتفاء الذاتي والإنتاج الداخلي الذي لا يروق للرزاز هو المتطلب الأول لدخول الأسواق أو القدرة على دخولها كما جرى في حالة أوروبا أو إيران وسوريا في الشرق (من ناحية القدرة على دخول الأسواق بما تنتج داخلياً).
سياسياً، لم تكن رسائل الشكر للخليج ووعود مشروع ناقل البحرين إلا استمراراً للنهج نفسه؛ الاعتماد على المنح الخليجية، والاستمرار في قبول الضغط السياسي الناجم عنها، والاستمرار في العلاقة مع الكيان الصهيوني.
المزيد من إقصاء الدولة اقتصادياً، والمزيد من محاصرة القطاع العام، ورسائل الود للخليج، وعدم تسمية سفير أردني في إيران، وتبني نظريات الديمقراطيات العربية القطرية، كل ذلك يتوافق مع بنود صفقة القرن، في إطار تحويل مؤسسات الدولة في الأردن إلى هيئات تتوافق سياسياً واقتصادياً مع دور الأردن القادم في المدن الخليجية - الإسرائيلية.
حكومة الرزاز سوف تستكمل نهج سابقاتها، ولكن الأردن بعدها لن يكون كما قبلها.
* كاتب أردني