يُشكّل العقل السياسي المناقض لمفهوم بناء الدولة الحداثية أحد مستويات أزمة المجتمعات العربية. فقد فشلت أنظمتها في تجاوز الكيانات القطرية إلا لتكريس بنية السلطة، وفشلت أيضاً في بناء دولة المواطنة فحوّلت الكيانات السياسية إلى أنظمة تسلطية طائفية جهوية عائلية، لكنها نجحت في توظيف الشعارات الوحدوية والعروبية والإسلامية للحفاظ على السلطة.
فالشعوب العربية عانت أزمة مركبة، لم تنحصر في انكفاء الفكر القومي على الذات القطرية، وتعرّضه والسياسات القومية لهزائم وانتكاسات متكررة، في مرحلة كانت تفترض إقامة تكتلات سياسية واقتصادية لمواجهة التكتلات العالمية المعولمة، والتخفيف من حدة انعكاساتها على الاقتصادات والمجتمعات العربية. بل تجاوزتها إلى أزمة طالت الفكر الديموقراطي، والآليات الديموقراطية. فالقهر الذي مارسته الأنظمة العسكرية والشمولية، وصعود الإسلام السياسي، نجحا في توليد أسوأ ما في بنيتنا الاجتماعية. إضافة إلى ذلك، فإن الأنظمة ذاتها اشتغلت على تشكيل منظومة وعي اجتماعي تُعبّر عن ميولها السلطوية، وتساهم في تأبيد سلطتها السياسية السائدة. فكان الوعي الاجتماعي السائد متماهياً ومتقاطعاً مع بنية وعي السلط البورجوازية الحاكمة. وكان يتزامن الاشتغال في هذا المستوى مع إغلاق الأبواب أمام التغيير الديموقراطي. جملة هذه السياسات أدت إلى تشكّل واقع اجتماعي وسياسي راكد وآسن.
وما نشاهده من تناقضات وانتكاسات في المجتمعات العربية، هو في جانب منه نتاج سياسات أنظمة مأزومة، انعكست في مرحلة (ثورات الربيع العربي) على الأدوات والآليات السياسية والفكرية والثقافية بأشكال ومستويات من التخلف والقهر والعنف العقائدي المعقد والمركب. هذه السمات هي ذاتها التي انتفض المواطن العربي لمواجهتها وتغييرها. لكن اختزال السلط المأزومة، وأدعياء (الثورة) لأزمة المجتمعات العربية إلى مستويات شخصانية وعقائدية محمولة على بُعد مذهبي طائفي، واشتغالهم على توظيف تحولات اللحظة الراهنة في إطار خطاب ديموقراطي شكلاني وظاهراتي، محمول على عنف مركب (سياسي، عقائدي، طائفي...). وضع المجتمعات العربية بين سندان الاستبداد ومطرقة السلفية الجهادية. وقد يكون هذا من أخطر ما تتعرض لها مجتمعاتنا.
فغياب الوعي الديموقراطي وقصور القوى السياسية، وهيمنة العقل الإقصائي على بنيتها الثقافية، وكذلك إغلاق أبواب التغيير بالقوة الأمنية والعسكرية، ساهم في الإحباط الديموقراطي وإفشال الديموقراطية التي حُمّلت لأسباب كثيرة على العنف والتخلف. وبدلاً من تهديم الاستبداد بأدوات الفكر الديموقراطي، كان يتم توليد الاستبداد في سياق تهديم بقايا الديموقراطية.
ففي مصر يتم دفن الديموقراطية وتهديم أهداف ثورة يناير بعدما قبض على ناصيتها الإخوان المسلمون، فيما تعمل الحكومة الحالية على استعادة مرحلة مبارك بشخوصها وسياساتها عبر استعادة بناء وتعميق الدولة الأمنية وإصدار تشريعات تكبح الحريات السياسية وتحد من حقوق المواطنة. فالثورة التي أطاحت مرسي يعتبرها أنصار الشرعية مؤامرة ضد الإسلام وإحدى درجات الخيانة والعمالة للعدو، لذا فإنهم لا يتورعون عن قتل معارضيهم وتعذيبهم والتمثيل بجثثهم، بحجة أنهم مجموعة من المنحلين أو الكفار، ما يجعل التنكيل بهم جهاداً مقدساً.
أما في سوريا، فإن الصراع المفتوح على الحرب الأهليّة، يبتلع في سياق تفاقم الكارثة الوطنية أحلام السوريين في التغيير الوطني الديموقراطي. بينما المتوقع من المستقبل لن يكون أفضل، إن لم يكن أكثر كارثية، نتيجة للتمسّك بالعنف المحمول على التدخلات الخارجية كوسيلة وحيدة لحل الأزمة.
وفي ليبيا تغيب الدولة و«الثورة» في سياق استمرار أزمة كلا الطرفين، فيما ينهض على أنقاضهما السلفية الأصولية الجهادية والعنف القبلي. في اليمن لا تبدو اللوحة أفضل، فالصراع في بُعده القبلي والمذهبي المتداخل على بُعده الإقليمي يمكن أن يقودها إلى الهاوية.
كذلك فإن الاستقرار الظاهري في الخليج العربي لا يخفي حجم تأثير التناقضات الداخلية والتعقيدات الدولية والإقليمية، وكذلك تداعيات الصراع في محيطه الإقليمي، التي يمكن أن تحوّل هذا الاستقرار إلى بركان لا يمكن التوقع في حجمه ونتائجه. وفي العراق، فإن دور الحركات السلفية الجهادية يتزايد في ظل تراجع دور الدولة المنقسمة على ذاتها عقائدياً وقومياً وسياسياً...
لقد نجحت الحركات الإسلامية الجهادية والعسكرة، مدعومتين بأسوأ ما يكتنف تاريخنا من تخلف، في إجهاض حلم التغيير الديموقراطي، وتحويله إلى كارثة وطنية. وهذا يرجّح أن يكون مستقبل المجتمعات العربية محمولاً في ظل المعطيات الراهنة، على راديكاليّات عدمية تعمل على زيادة وتعميق تفتيت المجتمعات، في لحظة يتم فيها تحطيم ما تبقى من كيانية دولة أثقل كاهلها الاستبداد. بينما التفكير الاستئصالي والممارسة التآمرية التكفيرية والتخوينية، يشكّلان الحامل الرئيس لهذه الراديكاليات.
كذلك فإن من المرجح أن يكون المستقبل محمولاً على مخاطر تداعيات انهيار أنظمة شمولية مغلقة. ونكوص حاملي لواء «الثورات» العربية في معتقداتهم إلى أعماق التخلف الاجتماعي، فيما يرتبط اندثار العلمانيّة وانحسارها بشكل متواتر، مع نشوء إسلام سياسي جهادي محمول على أسوأ ما في المجتمعات العربية من تخلف. ويتجلى هذا من خلال آليات القمع والتكفير والاستئصال التي تهيمن على آليات اشتغال وتفكير أطراف الصراع الذي ينعكس بداهة في سياق استطالته الزمنية والجغرافية على الوعي الاجتماعي. أما في حال وصول أي من الراديكاليات العدمية إلى السلطة، فإنه سوف يمهّد الطريق لتوليد أكثر النماذج الاستبدادية تخلفاً. وتحديداً في ظل قمع الآليات الديموقراطية والفكر الديموقراطي. فاعتماد العنف آلية وحيدة في الصراع الدائر على السلطة ومن أجلها يساهم في تكريس معادلة اجتماعية صفرية؛ من ملامحها انهدام الأنظمة و«الثورات». وهذا يساهم في انهيار الأفكار والمجتمعات لصالح مكوّنات ثقافية واجتماعية قبل وطنية، فيما بلوغها الأهداف المحددة دونه الكثير من الدمار والدماء.
وكان من الممكن أن يساهم تراجع المد القومي وانحساره إلى القطرية، في تقريب «الأنظمة الوطنية» من واقع أوطانهم وشؤونهم الداخلية وطنياً، لكن هذا لم يتم. وهذا لم يكن مرتبطاً فقط بقيام تكتلات اقتصادية عابرة للجنسية والقومية، وضعت من لم يتكيّف معها من أنظمة الدول القطرية في صراع غير متكافئ مع قوى عالمية عميقة التكوين. لكنه كان في العمق نتيجة بنية سياسية وفكرية مأزومة للسلط السياسية السائدة. فالميل إلى بناء تجربة وطنية لم يحدث إلّا بأشكال محدودة وبطرق ملتوية. وكان من نتائجه مزيد من الاستبداد وقمع الحريات السياسية ومصادرة حقوق المواطنة وتعميق الإفقار نتيجة تحرير الاقتصاد وإطلاق ونهب للموارد الوطنية وتهديم عوامل استقرار المعيشة للغالبية الشعبية والانغلاق على الذات وانتشار حواضن الفكر السلفي الذي مهّد الطريق إلى الفكر الجهادي. فكانت الشعارات الملمّعة والمقولبة تتناقض في مضامينها مع ما كان يجري في الواقع.
فاللحظة الراهنة كارثية بكل المستويات والمعايير، وآفاق التغيير الديموقراطي مسدودة نتيجة تراجع دور القوى الديموقراطية والعلمانية. في وقت تنفتح فيه المجتمعات العربية على مجاهيل الاستبداد والأصوليات الجهادية التي تتكئ على إرثها المغرق في الماضوية لتدعيم وتبرير عنفها الجهادي المقدس، وتعبث بمكونات الحاضر وفق مشيئتها وأهدافها المناقضة للعقل والعقلانية. والأكثر خطورة أن الأصوليات الراديكالية تعمل على تحديد ملامح مستقبل يقوم على اجتثاث وقمع التنوع الثقافي والاجتماعي.
هذه المخاوف نطرحها حرصاً على سوريا، والعالم العربي، وعلى القيم التاريخية والحضارية والإنسانية، وخوفاً على شعب عانى الأهوال، وقلقاً على المستقبل الإنساني في المجتمعات العربية. فالمضي في نهج التدمير لن يترك مكاناً للمصالحة ولا فرصة للترميم ولا أملاً بالنهوض. وما هو متاح اليوم للخروج من النفق المظلم، من الممكن أن يتلاشى أمام ازدياد شدة العنف والتعصب الأعمى الذي سيحول البلاد إلى بركان عنف مستطير وأعمى. فالمنتصر في هذا الصراع سيكون مهزوماً لأن انتصاره سيكتب بدماء شعب مقهور، وسوف يتحمل تبعات الدمار الهائل والدماء المهدورة التي ستبقى نيرانها الحارقة مشتعلة لفترة طويلة، ومعها تزداد الأحقاد والنقمة وفقدان الثقة وتحلل أسس الوحدة الوطنية بين أبناء الشعب الواحد.
فـ«الثورات»، التي حملت مشروع إسقاط أنظمة الاستبداد، دخلت في صراع مفتوح مع أنظمة تصر على التمسك بالسلطة مهما كانت الأثمان، ما قاد إلى تفتيت الأوطان والمجتمعات وزيادة البؤس والقهر وتقييد الحريات واتساع دائرة العنف. إن «الثورات» التي حملت راية الاستقلال الوطني وتمسكت بالعروبة والإسلام والقضية الفلسطينية وشعارات الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية وحقوق المواطنة. ليس فقط لم تحقق أهدافها المعلنة والمضمرة، بل ساهمت في سياق ترابط جملة من العوامل والأسباب الداخلية والإقليمية والدولية، في خسارة الاستقلال الوطني، والوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي. بينما الفكر القومي تحوّل إلى خطاب يتناقض في مضامينه مع واقع عربي أنهكته التناقضات والهزائم. فيما القضية الفلسطينية تضيع في متاهات المفاوضات والتعنت الإسرائيلي. أما المجتمعات العربية فإنها لا تملك من قرارها شيئاً، والإسلام يتراجع أمام نيران الحركات السلفية والأصولية الجهادية وكذلك الخطاب العروبي. والأكثر إيلاماً، أن الحرية والكرامة تحولتا إلى سلعة في سوق التجارة والنخاسة، بينما العدالة الاجتماعية وحقوق المواطنية تتدهور إلى مزيد من الإفقار وفقدان الحقوق، لتضيع آمال شعوب تدفع من دمائها في صراع لا ناقة لها به ولا جمل.
* باحث وكاتب سوري