قبيل الانتخابات النيابية الأخيرة بدت العلاقة بين التيار الوطني الحر وحزب الله وكأنها تجري على تعثّر متدرج. الانتخابات كانت تمريناً من جهة التيار البرتقالي على تخطّي تجربة المؤسِّس الأول العماد ميشال عون، بالتفلّت من الالتزامات القديمة والمستجدة، والابتعاد عن حالة التعوّد الذهني للتحالفات السياسية بإخراجها من كينونتها وحظوظها الأخلاقية المتعالية واعتبارها موضوعاً متغيّراً وواقعاً يخضع لعملية تبخرٍ دائم. فلا تحالف مثاليّاً على الإطلاق، وتحقيق ذات الجماعة التي يلاحقها القلق وعدم اليقين في الإمكانات والعلاقات والمصير، يجعلها مضطرة إلى اختبار كل جديد يُستعان به على القوة والتمدد وتجاوز الرتابة. التيار في نسخته مع الوزير جبران باسيل لا يحبّذ «الألفة أو السكن» السياسي الطويل. لغته وتعابيره وسرعة تنقلاته تكشف عن سبيل سياسي مغاير غير مأخوذٍ بالموروث ولا حاملٍ صفة القداسة. سبيل يحبّذ الإقامة في الأماكن التي تشرّعها الطبيعة المتبدلة للتطورات والتفاعلات بين قوى المجتمع. الانتخابات الأخيرة شكلّت إغواءً يفترض «ضربات استباقية» في مرمى الخصوم. انتخابات ظهر خلالها التيار بلا قيود في تحالفاته وغير مكتفٍ بحصصه، خصوصاً بعد أن أتاحت له فرصة القانون الجديد أن يُشكّل قوة أكبر من قوة منافسيه. لكن المشكلة في التيار ليست في مطالبته تحقيقه التوازن والمكانة داخل النظام اللبناني، بل في إنتاج وإعادة إنتاج التحالفات وفق ديناميات الرأسمالية المهجوسة بعمليات التراكم والربح بلا قيود. وعلى هذا الأساس كان سهلاً على التيار أن يطيح تفاهماً مع حزب الله في دائرتي جبيل - كسروان وبعلبك - الهرمل ليس إلا طمعاً بمزيد من المقاعد النيابية، في صورة تحدٍّ وإزعاج لحليفٍ كان سبباً رئيسياً في إيصال العماد عون إلى سدة الرئاسة، بل في حصول الانتخابات برمتها. إذ لا مجال للشك، وبعيداً عن التحيزات والآراء الشخصية، أنّ الأمن الذي تحقق بتضحيات عناصر الحزب بعد طرد الإرهابيين التكفيريين من جرود لبنان الشرقية من بديهيات إنجاز العملية الانتخابية ونتائجها التي أدّت إلى تضخم كتلة التيار نفسه. صحيح أنّ للتيار روايته في عدم التوصل إلى تفاهمات في هاتين الدائرتين تحديداً، ولكن المفارقة أنّ التيار وبقية القوى السياسية الأخرى الحليفة للحزب، لم تنظر إلى حزب الله إلا في وضعية المنافس المحلي، لا في صلب الحقائق الأخلاقية الكبرى ومنظومة العلاقات والمعادلات الإقليمية التي تتطلب من الشركاء المحليين تفاهمات أو حتى تنازلات عرفاناً بالجميل الذي قدمه الحزب وحده، دماً سخيّاً، بلا منّة ولا استعلاء. في أوساط الحزب وعند كوادره مَنْ يشعر بالمرارة لكون التيار لم يبادل إحسان الحزب بإحسان مقابل، بل واجهه ببراغماتية صارمة وقسوة باردة، ولو برر التيار وعزا ذلك إلى أسباب ذات معنى وهدف بالنسبة إليه. فلا يمكن أن يكون مقعد في جبيل أو بعلبك قد ضيّق وثيقة التفاهم إلى هذا الحد أو أنكر كل التضحيات التي قدّمها الحزب للحفاظ على لبنان من تهديد الإرهاب، أو قلّص الفهم بما يتربص الحزب من حملات وعقوبات تستوجب حماية صادقة من حلفائه.
من تسيطر عليه قيم السوق يتلذذ بطرح الأشياء وتهشيم التفاهمات


إيمانويل والرشتاين، وهو أحد علماء علم الاجتماع الأميركي يقول: «إننا نعيش في عصر الرأسمالية وما يحرك العالم اليوم هو البحث عن الفائدة». والبحث عنها إنتاجاً واستهلاكاً لم يقتصر على الأشياء المادية، بل تسرّب إلى العلاقات الوجدانية والاجتماعية بأنساقها المتعددة. وفي السياسة، الفائدة تعني الصفقات الرابحة، وأحزاب وشخصيات بلا صفات ثابتة، وروابط تتحول إلى سلع، وانتهاء تاريخ صلاحية العلاقة، واكتساب مهارات الإنهاء السريع للتحالف والشراكة، وكسر القواعد واختبار المتاح، والميل الشديد إلى كسر الروتين، والإشباع اللحظي، والوصفات السريعة المأمونة... ونتيجة ذلك أنّ الفائدة لن تُبقي للعاطفة والأخلاق إلا مساحة محدودة لا تتمتع بالاستقرار والديمومة والتلقائية. فأي تحالف، ولو غُلِّف بمبادئ وشعارات وطنية، هو قابل للاستهلاك ويتبدد بمجرد انتهاء المهمة. فمَن تسيطر عليه قيم السوق وأخلاق «الحداثة السائلة» في السياسة يتلذذ بطرح الأشياء وتهشيم التفاهمات ويتحول عنده الالتزام المديد إلى فخ ينبغي الحذر منه! وعليه، فإنّ خطورة ما أفرزته الانتخابات أنها تعكس بناءً على السيولة التي هيمنت على الوعي والثقافة اللبنانية، سهولة التضحية والزهد بالعلاقات العميقة واستبدالها بما تعده الصلات العابرة من مزايا اللحظة وما تنتجه من إبهار واستمتاع ونشوة. لذلك باتت جاذبية الهروب من الالتزامات أسلوباً ضاغطاً لضمان الاتصال بالجديد والاستعاضة بالمعروض، وهو كثير، ما يعني أنّ فكّ الارتباطات بين القوى على هذا النحو من السرعة قد سبب فقدان القيم مكانتها الاجتماعية وتحولها إلى عقود تجارية بلا شروط جزائية حتى! بناءً عليه، يكون وعود الالتزمات لا معنى لها على المدى البعيد وقابلة للنقض، تماماً كما فعلت الولايات المتحدة الأميركية بانسحابها من الاتفاق النووي مع إيران. فهي بذلك تقدم نموذجاً على تخطي ما ليس مرضياً عنه وطلب الفرص القادمة الحاملة لمكاسب متوقعة، وتجاوز العهود بلا شعور بذنب وتبعات ومسؤوليات. والقوى اللبنانية في تحالفاتها خلال الانتخابات الفائتة مسّها طائف من النماذج الغربية وسرت فيها أخلاق الحداثة بحيث بات كل شيء خاضعاً للتغيير والتفكيك والاستغناء والاستهلاك والنفاد، وما عاد هناك يقين بصحة العلاقات واستقرارها وعمرها المتوقع. هذه الهشاشة التي أصابت تحالفات ما قبل الانتخابات ستستمر، وسيكون على كل حزب وتيار إنهاء العلاقة متى ما سئم أو تعب منها ولم يكن راضياً عن سياقها. هنا، تتحول التحالفات إلى حدث تجاري محض فاقد للتجربة الإنسانية والتصورات الأخلاقية، ولن يكون لها أن تستقر على أرضية التاريخ والعاطفة. سيغادر صناعها هذه النمطية وما يحيط بها وسيكون التوجه إلى ما هو قادم.
لكن حزب الله سيقف طويلاً عند الأسباب التي تصير معها التحالفات سائلة إلى هذا الحد، وحول بطلانها السريع. وقد يكون هو أو غيره قد شعر خلال هذه الانتخابات بأنّ التحالفات القائمة تحتاج بنية أخلاقية تحتية أقوى وأصلب جذوراً. تحتاج إلى شجاعة وثقة وحب أكثر من مهارات التواصل ورغبات الالتئام والمصالح التي تخضع لأحكام الإشباع الفوري للحاجات. المفارقات التي شهدتها الانتخابات الأخيرة ينطبق عليها ما قاله يوماً عالم الاجتماع البولندي زيغموند باومان حين وصف التغيّر القاسي الذي يصيب العلاقات الاجتماعية: «الحب بطبيعته يسعى إلى إدامة الرغبة، أما الرغبة بطبيعتها فتهرب من قيود الحب».
وعليه سننتظر بعد تشكيل الحكومة وأمام الاستحقاقات القادمة كيف سيكون شكل التحالفات ما دام التفكير الطاغي على معظم القوى السياسية يقوم على قاعدة «مرقني اليوم وغرقني بكرا»!
* أستاذ جامعي