منذ البداية، لم يكن ثمّة رؤية مشتركة لدى المعسكر الغربي حول مجمل القضايا التي تفجَّر الخلاف بشأنها أخيراً. والتباين موجود حتى داخل الاصطفافات الإقليمية نفسها (الاتحاد الأوروبي تحديداً)، ولولا المظلّة التي تصهر هذه التناقضات تحت راية حلف الأطلسي لما كان ثمّة غرب بالمفهوم المتعارَف عليه جيوسياسياً. القيادة الأطلسية تحاول رأب هذه التصدُّعات خشية استفادة روسيا منها، وفي المقابل لا توفّر الإدارة الحالية في الولايات المتحدة مناسَبة لتصعيب مهمّة الحلف، إما عبر الدعوة إلى زيادة الإنفاق العسكري الأوروبي على مهمّاته، أو من خلال اشتراط أن تكون المساهمة الأميركية فيه متناسبة مع حجم الإنفاق عليه. في الحالتين، ثمّة انسحاب أميركي واضح من فكرة القيادة المشتركة، وهذا الانسحاب تسبَّبَ بفراغ استراتيجي تحاول قيادة الحلف جاهدةً ملئَه، لكن محاولاتها تصطدم بالأولويات التي تضعها إدارة ترامب لنفسها، والتي ليس من بينها تصعيد المجابهة مع الروس بالشكل الذي كانت عليه الحال سابقاً. أوروبا من جهتها، وفي ظلّ افتقاد قيادة أميركية واضحة وحازمة، تجد أنّ من مصلحتها التركيز بدلاً من المظلّة الأطلسية على الإطار الإقليمي المباشر الذي يمثّله الاتحاد الأوروبي.
أثَرُ التحوُّلات الأوروبية
العقوبات المفروضة على روسيا على خلفية الموقف الغربي الموحَّد من أزمة أوكرانيا لم تعد ـــ بفضل عوامل عديدة ـــ هي المحدِّد الرئيسي للسياسة الأوروبية تجاه موسكو. الموقف من القضية الأوكرانية نفسه تغيّر، فقد تراجع الاهتمام بها لمصلحة قضايا تمسّ صلب الاهتمام الأوروبي، وتؤثِّر خلافاً لأوكرانيا على الصراع السياسي داخل بلدان الاتحاد. في الفترة التي بدأ يتراجع فيها الاهتمام بالمسألة الأوكرانية، كانت سياسات التقشُّف التي تقودها ألمانيا في أوجها، وهي قد أدّت بعد سحق المعارضة لها إلى مفعول عكسي داخل ألمانيا نفسها، حيث ازداد التقارب مع روسيا على خلفية مطالَبة أوساط الأعمال هناك بالتراجع عن سياسة العقوبات. لاحقاً، وبسبب القضاء على أحزاب مثل «سيريزا» وسواه، تصاعَدَ الاستقطاب حول سياسات الهوية، وانتقلت المعارَضة للسياسات المركزية الأوروبية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين. حصول ذلك بالتزامن مع انفجار قضية اللجوء أدّى إلى تغييرٍ كامل في الخريطة السياسية داخل بلدان الاتحاد لمصلحة أحزاب من خارج «الاستابلشمنت» التقليدي، وهي في معظمها تحمل وجهاتَ نظرٍ أقلَّ حدّةً تجاه روسيا، إن لم نقل إنها «تؤيِّدها» ضمنياً. «التغيير السياسي» على خلفية تحوُّلات اقتصادية واجتماعية هنا أوصل إلى المشهد السياسي الأوروبي أحزاباً تحظى بتمثيل اجتماعي واسع، وتملك تصوُّراً مختلفاً عن شكل العلاقة الممكنة بين الغرب وخصومه التقليديين. الائتلاف الحكومي الذي أفضت إليه الانتخابات الأخيرة في إيطاليا وكاد يتسبّب بأزمة سياسية داخل هذا البلد يعبِّر عن هذا الاتجاه بوضوح، ويدعو على لسان قطبيه الرئيسين (حزبا خمس نجوم ورابطة الشمال) إلى مَخْرَج أوروبي مُتّفَق عليه من قضية العقوبات ضدّ روسيا. الاتجاه العامّ في أوروبا عموماً وبسبب التحوّلات الحاصلة فيه يقود إلى قطيعة مع السياسة الغربية التقليدية ليس تجاه موسكو فحسب، بل تجاه معظم القضايا التي جرى تغليب البعد الجيوسياسي فيها على ما عداه. لن يفضي ذلك إلى تغيير كبير في موقع الاتحاد الأوروبي داخل الحلف الأطلسي، لكنه سيضعه في أفُق متغيِّر، وسيسمح للقطاعات الشعبية والأحزاب الجديدة التي صعدت أخيراً بطرح تصوُّراتها عن هذا الموقع، حتى لو لم تكن تلك التصوُّرات تحمل بدائل فعلية للسياسة الخارجية الأوروبية.

ثِقَلُ الموقف الألماني
إزاء هذه التحوُّلات، تبدو ألمانيا وفرنسيا المؤهَّلتين الوحيدتين (بعد خروج بريطانيا الوشيك من الاتحاد) لمعاودة تشكيل الهوية الأوروبية سياسياً، بحيث لا تقود سياسة مجابَهة مع روسيا لمصلحة أحد، وتحافظ في الوقت ذاته على علاقة تحالف وشراكة «يمكن الوثوق بها» مع الولايات المتحدة. صياغة هذه المعادلة الدقيقة اقتَضَت من الدولتين عدم التراجع عن الموقف التقليدي من أزمة أوكرانيا، ولكن مع الاحتفاظ بحقِّهما السيادي في مراجعة سياسة العقوبات حين يظهَر أنها تتناقض مع المصلحة الاقتصادية لكلا البلدين ولأوروبا عموماً. الإبقاء على مسافة مع روسيا بعيداً عن القطيعة يعني ترك حيِّزٍ لتغليب المصلحة الاقتصادية على ما عداها، والاحتفاظ بهامش مناورة يسمح للأوروبيين بالتفاوض مع الولايات المتحدة حين تضع هذه الأخيرة فيتو على مشاريع واعدة اقتصادياً مع موسكو (مشروع السيل الشمالي تحديداً). الموقف الداخلي مهمّ وأساسي هنا، فاحتفاظ ألمانيا بحقِّها السيادي في إبرام اتفاقات لجرّ الغاز إليها من روسيا يحظى بدعم شعبي كبير، وينال ثقة معظم الأحزاب السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وهو ما كانت تفتقر إليه سياسة العقوبات ضدّ روسيا. المصلحة هنا اقتضت حصول إجماعٍ سياسيٍّ وشعبيٍّ كبير على دعم موقف القيادة الألمانية، وهذه رسالة إلى الولايات المتحدة التي لا تكتفي بوضع «فيتو» على مشاريع الغاز المشتركة مع روسيا، بل تدعو أيضاً إلى وضع حدٍّ للأرباح التي تجنيها ألمانيا من عملية التراكم، عبر تقييد صادراتها إلى أميركا وتعديل الميزان التجاري معها لمصلحة الأخيرة. هذا التعارُض الواضح في المصالح يُضعِف من الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، ويضعهما أحياناً على طرفي نقيض في المسائل المتعلّقة بالعولمة واتفاقات التجارة الحرّة. تبدو ألمانيا هنا في حرصها على قواعد العولمة المعمول بها أقرب إلى الصين منها إلى الولايات المتحدة. هذا لا يؤثِّر فقط على الشراكة الاقتصادية أو على العلاقة السياسية بين الدولتين، بل على تحالفهما الأساسي والاستراتيجي ضمن حلف الأطلسي، وهو ما يدعم موقف الأحزاب والقوى التي لا ترى أيَّ أفضلية في الشراكة مع الولايات المتحدة، وتدعو بدلاً من ذلك إلى الوقوف على مسافة واحدة بينها وبين روسيا.

خاتمة
أثَرُ هذه التحوُّلات سيكون كبيراً على المدى البعيد، فحصولها يتزامن مع صعود قوىً لا تعتبر المواجهة الغربية مع روسيا أمراً محتوماً، وتفضِّل الشراكة المتساوية والندّية معها على سياسة الحصار والعقوبات. وبسبب حماقات إدارة ترامب، بدأت حتّى القوى الحليفة للولايات المتحدة هناك بتليين مواقفها تجاه موسكو، وهذا سيقود بالضرورة إلى مأزقٍ على صعيد التحالف العسكري بينها في إطار حلف الأطلسي. سيبقى التحالف قائماً في الأمد المنظور، ولكن من دون وجود إطار سياسي واضح يحدِّد له الأهداف، ويربط استراتيجيته العسكرية بمصالح الدول التي تُنفِق عليه. في النهاية، حلف الأطلسي لا يقود مهمّةً استراتيجيةً وجيوسياسيةً فحسب، بل يحمي التوسّع العسكري للتحالف الغربي برمّته، وهذا التحالف يتوسّع بسبب عملية التراكم الرأسمالي. وحين تتأثّر هذه العملية بسبب تعارض مصالح قطبيها الأساسيين (الولايات المتحدة وألمانيا)، نكون إزاءٍ «انفراطٍ للتحالف» وليس فقط لهيكله العسكري.
* كاتب سوري