لم يكن هذا تعليقاً لمواطن اعتاد أن يبدأ يومه مع السيدة فيروز كما اعتاد أبوه من قبله أن يفعل، بل كان للمتحدث باسم جيش العدو الإسرائيلي «أفيخاي أدرعي»، مودعاً الصيف على صفحته على «فايسبوك» وحسابه على «تويتر» مع فيديو لأغنية السيدة فيروز «حبيتك بالصيف» («السفير»، العدد 12617، 31/ 10/ 2012). لم يثر هذا التعليق حفيظة فواز طرابلسي ولا حازم صاغية ولا بول شاوول ولا إياد عيسى. ولم يبق ربما غير كريم مروة والياس عطاالله وميشيل كيلو وياسين الحاج صالح لم يكتبوا حتى الآن عن «الجريمة» التي ارتكبتها السيدة فيروز بحبها للسيد حسن نصرالله، كما أعلن زياد الرحباني في لقائه مع موقع «العهد» الإلكتروني المقرّب من حزب الله.
إعلان دمشق ـــ 14 آذار والمعلم واحد!

لم يبدأ الهجوم على زياد الرحباني مع تصريحه الأخير ولا حتى مع إعلان موقفه مما يجري في سوريا، بل يعود ذلك إلى زمن طويل ومع كل منتج قدمه زياد للجمهور. ولكن في عام 2005 بدأ يظهر بوضوح ما تكلمنا عنه منذ عام 1991 على الأقل، بأن انزياحاً خطيراً وتغييراً جدياً في المواقع قد بدأ يحدث في اليسار عموماً واليسار اللبناني على وجه الخصوص.
بمراجعة بسيطة لبرنامج عمل إعلان دمشق وأهداف «ثورة الأرز»، يبرز المشترك بينهما في استدعاء التدخل الخارجي، والبرنامج الاقتصادي الليبرالي، وحل الأزمات عبر التحاصص الطائفي، ومقولات الديمقراطية وحقوق الإنسان المفرغة من مضمونها، ثم وبمراجعة لأسماء من شارك في هذين التكتلين السياسيين أو من التحق بهما لاحقاً في سوريا ولبنان أو من يعمل في فلكهما في الوسط السياسي والاعلامي والفني ومنظمات المجتمع المدني، ممن كانوا محسوبين يوماً على اليسار أو حتى ممن يُعرف عنهم في بعض الإعلام مثل قناة «الحرة» بأنهم من أهم منظّري اليسار، بهذه المراجعة فقط نستطيع اليوم فهم خريطة الهجوم الذي بدأ والذي لن يتوقف، ليس على زياد الرحباني فقط بل على كل الخط الذي يمثله زياد وأمثاله.


الثنائيات الوهمية

كان سلوك قناة المنار ــ برفضها عملاً قدمته السيدة فيروز للقناة أيام حرب تموز ــ إحدى الحجج التي قدمها المهاجمون في سياق انتقادهم للسيدة فيروز. ولكن ماذا عن قناة «MTV» يا سادة! أو «LBC» أو «المستقبل»، هل تواظب هذه القنوات على عرض أعمال السيدة فيروز والرحابنة ورموز الفن الراقي اللبناني والعربي؟! أم أن التطبيع مع إسرائيل والتحريض الطائفي والترويج للفن الهابط وتسليع المرأة اللبنانية هي الرد على قصر نظر قناة المنار والاستعصاء الذي لم تستطع الخروج منه بعد؟!
أما عن موقف زياد من الأزمة السورية والنظام السوري، فيصرّ هؤلاء على تضليل الجمهور بثنائيات وهمية قاتلة من نوع «معارضة ــ نظام»، «سنّي ــ شيعي» «عربي ــ فارسي»، «عربي ــ فينيقي»... إلخ.
والأسئلة التي تطرح نفسها هنا كثيرة: أين كانوا أيام «الشغل ماشي، والبلد ماشي»، ووسط بيروت رئيس الحكومة رفيق الحريري؟ كيف كانت علاقتهم «بالزعيم» معمر القذافي؟ ماذا كان موقفهم من صدام حسين ثم من غزو العراق؟ أين هم اليوم من حكام قطر والسعودية ووسائل إعلامهم ومراكز أبحاثهم؟ وفي ما يتعلق بسوريا، كيف كانت علاقاتهم مع النظام السوري وماذا كان موقفهم من «الدخول إلى لبنان» وماذا كان موقف زياد الرحباني وقتها؟ هل يؤيدون اليوم رياض حجاب ــ النظام، أم أبو محمد الجولاني ــ المعارضة؟ ماذا عن مقالاتهم التي ملأت صحف النظام السوري لسنين طويلة، وتملأ صحف النظام الطائفي اللبناني الفاسد؟
وصل الأمر بأحدهم أن يصف زياد «بالتشيّع»، أي أصبح «شيعياً» أي «عكس سنّي»، وإيراني أي «عكس عربي»... كأننا نسمع هذا المنطق يومياً في إعلام آل سعود!


ثلاثية الفاشية الجديدة

لن ندخل في هذه المناسبة في نقاش من نوع تقويم المنتج الرحباني أو تقويم السيدة فيروز أو زياد الرحباني بالمعنى الفني، رغم أن بعض المهاجمين تحولوا إلى مختصين في الموسيقى بين ليلة وضحاها. فهذا نقاش له طابعه العلمي وسيستمر إلى زمن طويل، نظراً إلى الأهمية الاستثنائية لصوت فيروز والمنتج الرحباني.
ما يجب أن يُناقش هنا هو موقع السيدة فيروز والرحابنة وزياد في الذاكرة الجمعية لشعوب منطقتنا، باعتبارهم (الرحابنة) من أهم رموزنا في القرن العشرين، ليس فقط بالمقياس الفني المجرد، بل الأهم بالمعنى الوطني والاجتماعي والنفسي. سنبقى سنين طويلة ندرس تأثيرهم على تفاصيل سلوكنا اليومي وأحاديثنا وطرائفنا ونكاتنا وأدبنا وسيرنا الشعبية وموسيقانا. هل نلحظ هنا يا سادة عملية منظمة لتحطيم رموز الذاكرة الجمعية الشعبية؟ تبدو أوجه الشبه واضحة مع عمليات مماثلة تُظهر الأبحاث الجديدة اليوم تفاصيل الكثير منها وفي أكثر من مكان في العالم. ليس أولها تشويه صورة رموز الاستقلال الوطني وإظهارهم في كتب معاهد الاستشراق على أنهم ثلّة من قطاع الطرق. وشيطنة رموز حركات التحرر الوطني في العالم من كاسترو إلى السيد حسن نصرالله. وأبلسة الأبطال الشعبيين وكسر صورتهم وانتزاعها من الوعي الشعبي من ستالين إلى استشهاديي المقاومة الفلسطينية، وتشويه النموذج من مثال البروباغاندا المعادية لنموذج الاتحاد السوفييتي، التي استمرت لعقود.
تبدو هذه العملية في الشكل أنها تتعلق برموز ونماذج الماضي ويقدمها المهاجمون تحت عناوين: النقد العلمي، وإعمال العقل، وإلغاء «عبادة الفرد» و«تحطيم الأيقونات» إلخ... ولكن في حقيقة الأمر تستهدف في جوهرها المستقبل، كضربة استباقية تعمل على منع احتمالات إنتاج نماذج إيجابية تشبه نماذج الماضي ورموزه.
ضمن هذه الإحداثيات يجب أن نفهم اليوم الحملة المنظمة ضد السيد حسن نصرالله باعتباره واحداً من أهم رموز المقاومة المعاصرة، وضد الرحابنة والسيدة فيروز وزياد بما يمثلونه من قيم العدالة والاستقلال والتغيير والجمال، حملة منظمة ضد كل احتمال مشابه، حملة لقتل الأمل والحلم.
ومن يصلح أكثر لهذه المهمة من يساري تائب حاقد ليكمل ثالوث الفاشية الجديدة (رأس المال المالي ــ التيارات التكفيرية المتطرفة ــ الإعلام المأجور والأبواق).

من يسار اسمي إلى يسار حقيقي

تعلن هذه المعركة كما معارك أخرى كثيرة تحريك مياه ركدت أكثر من المقبول، وتفتح باب الفرز الحقيقي بين مثقفي الفاشية الجديدة ورأس المال المشبوه والأنظمة المتهالكة، وبين المثقفين العضويين الملتزمين بقضايا شعوبهم وطموحاتها في التغيير الحقيقي. وتتولى معركة الفرز الضروري بين يسار اسمي مأجور ويسار ثوري حقيقي.
يجب أن تكون اليوم معركة الدفاع عن إرث الرحابنة وما تمثله السيدة فيروز وزياد الرحباني، مهمة اليساريين الحقيقيين في الدرجة الأولى. هذه العملية إذا ما أديرت بشكلها الصحيح سوف تفضي إلى اصطفافات جديدة تنتج حزب اليسار الحقيقي ــ حزب زياد الرحباني ورفاقه في كل المنطقة وليس في لبنان فقط، حزب التغيير الجذري العميق الاقتصادي الاجتماعي السياسي الديمقراطي حزب المقاومة.
* موسيقي سوري