يقول المؤرخ الأميركي ستيفن كوتكن إن من الأخطاء الشائعة في تدريس علم التاريخ في الجامعات تقسيم العالم إلى مناطق منفصلة، أي إلى دراسات أوروبية، وشرق أوسطية، وأميركية وهلم جراً. ويفسر كوتكن ذلك بكون دراسة العالم كوحدة متداخلة كما يجب أمراً متعباً ويتطلب الكثير من الوقت والجهد ما يجعله منهجاً غير عملي. ولكنني سأحاول استخدام هذا الإطار في سلسلة من المقالات أنوي التعرض فيها لتجربتنا العثمانية؛ هي قضية إشكالية، فغالباً ما يُنظر إليها على أنها واحدة من أسوأ مراحل تاريخنا، وهي كذلك فعلاً، لكن هناك الكثير مما يمكن قوله وتعلّمه من هذه المرحلة الغنية بالأحداث. لقد ارتأيت هنا أن انطلق من إعادة تقديم تاريخ السلطنة العثمانية من خلال محيطها، فاخترت روسيا، وذلك لعدة أسباب، أولها أنني وجدت النقاشات التي خاضتها كتل الإنتلجنسيا الروسية مفيدة لأغراضنا هنا، وهو نقاشٌ دار حول حقبة «بغيضة» في تاريخها هي حقبة الهيمنة المغولية (استمرت 250 عاماً). لعل هذه النقاشات تلهمنا لطرح أسئلة جديدة أكثر عمقاً في ما يخص ما يسمى مرحلة «الاحتلال العثماني» لبلادنا.النقطة الثانية في البحث تتلخص في التعرّف على تاريخ ولادة روسيا وفق سردية ما أقترح تسميته «البناء الفارسي»، التي أعتقد أنها ستساعدنا في فهم التاريخ العثماني أفضل. البناء الفارسي، وهو النموذج الذي تقوم فيه القوة الصاعدة بوراثة القوة الآفلة، وتبني معظم عناصر ثقافتها ودمج نخبها في صفوفها، فتقدم نفسها كاستمرار لها. أقدم تجربة مدونة بشكل يسمح لنا بدراسته بشكل وافٍ نسبياً هي تجربة الدولة الإخمينية الفارسية (550 ق. م ــ 330 ق. م) ووراثتها الإمبراطوريات الرافدينية (الآشورية والكلدانية) في الألفية الأولى ق. م.
عودةٌ إلى روسيا، فمنذ القرن الـ19 على الأقل خاضت نخبتها الثقافية نقاشاً غنياً حول هوية البلاد، ومن ضمن فصول هذا النقاش، خرج الروس بأجوبة قد لا تكون شافية تماماً ولكنها مثيرة. هنا طرح سؤال مهم: هل أعاقت الحقبة المغولية تطور روسيا أم حفّزت نهضتها؟ وكيف يمكن طرح هذا السؤال مما يعتبر في الذاكرة العربية غريباً، فالمغول كانوا أولئك الغزاة المدمرين الذين لا ينبت العشب في الأرض التي تطأها سنابك خيلهم.
هناك نقطة يجدر التنبه إليها، هي أن تاريخ روسيا القيصرية بذاته يهمّنا، لأنها كانت الخصم الأشرس للسلطنة العثمانية التي كانت تضمّنا، ولعلها المتسبب الأكبر في سقوطها. حتى أنه كان يُنظر إليها من قبل الكثير من أجدادنا سواء في الولايات الأناضولية والعربية من أراضي السلطنة أو حتى إيران، كعدو دموي لا يرحم تسبَّبَ مباشرة أو ضمناً بتهجير وإبادة ملايين المسلمين في البلقان والقوقاز والقرم.

الجحفل الذهبي والحملة الروسية
وجد المغول (أو التتار) بعد عبورهم جبال الأورال، مجموعة من الإمارات والدوقيات والدول الصغيرة والمتوسطة الحجم، دان معظمها بالأرثوذكسية متوزعة على الأرض الروسية. وللتوضيح إن أغلب روسيا المعنية هنا ليست البلاد الشاسعة التي نعرفها، إنما نتحدث بشكل خاص عن الجزء الأوروبي منها أي غرب روسيا الحالية. أما بقية الأجزاء الآسيوية، كسيبيريا مثلاً، فلم تكن جزءاً من روسيا بل ضُمّت إلى الإمبراطورية الروسية بعد قرون من الأحداث التي نحن بصددها. حكم معظم المدن الروسية سلالات ذات أصول متباينة، فبعضها روس والبعض الآخر كان من الإسكندنافيين والخزر وعضد هذه الأسر الحاكمة أسرٌ تجارية مدينية كأوليغارشيات مهيمنة على شكل مجالس مدينية (كاونسلز) وهو نظام منتشر في كثير من أوروبا ذلك العصر، وهنا يحلو للمؤرّخين الروس تسمية هذه المرحلة بديمقراطيات المجالس.
يتفق المؤرخون الروس على أن الغزو المغولي الذي بدأ جدياً عام 1237م من قبل باتو خان حفيد جنكيز خان، الذي شرع بنشر الرعب والخراب في بلادهم، مؤسّساً على أنقاض النظام القديم دولة القبجاق أو الجحفل الذهبي والذي تترجمه بعض الأدبيات العربية بالقبيلة الذهبية (1240م ــ 1502م). أول ضحايا الغزو المغولي الدموي كان مدينة ريازان التي حوصرت ثم اقتحمت وذبح كل أهلها وأحرقت بشكل كامل، وقد بقي خرابها وتدميرها عالقاً في الذاكرة التاريخية الروسية. وبعد ذلك واصل باتو خان حملته فأحرق كييف عاصمة البلاد الأولى ومركزها الثقافي والروحي الأول، بعدها توغل، فدمر مدن فلاديمير وسوزدال وتفير وروستوف وموسكو، بينما استسلمت نوفوغراد دون قتال، وهكذا حتى فرض سيطرته على بقية روسيا.
يركز أتباع المدرسة التقليدية في التاريخ الروسي على العنف والدمار الذي ألحقه المغول بالمجتمع والحضارة في روسيا


رغم قساوة ووحشية المغول يسجل لهم هنا أنهم أول من نجح في غزو روسيا بحملة شتوية (1237م ــ 1238م) وهو إنجاز عسكري كبير. كما نجحت الحملة في تدمير قلب روسيا باحتلال مقر كبير أمرائهم في عاصمته مدينة فلاديمير وهو ما سيعجز عن تحقيقه نابليون والألمان. هيمن بعدها المغول على كل البلاد من عاصمتهم الجديدة ساراي بجنوب روسيا، وفرضوا رقابة مشددة على الأمراء، وطلبوا خضوعاً شاملاً من السكان، وفرضوا على الشباب الروس الخدمة في صفوف القوات المغولية، ودفع الضرائب بانتظام، وفرّغوا المدن أو معظمها من الحرفيين والصناع والعمال المهرة ونقلوهم لساراي وفق الأسطورة الوطنية الروسية لهذه الأحداث.

دوقية موسكو
لم تستمر الهيمنة المغولية على البلاد بشكلها المباشر طويلاً، إذ سرعان ما قرر المغول الاستعانة بإحدى الدوقيات الروسية الطرفية لتنفيذ سياستهم الإدارية المذكورة. لم تكن تلك الدوقية سوى موسكو، التي فضلها المغول ودعموا حق أمرائها بانتزاع لقب كبير الأمراء الروس في عصر إيفان الأول (1325م ــ 1332م)، وسمحوا له بتوسيع أراضيه، ودعموا قواته ضد المدن الأخرى التي تتحدى سلطتهم. أغرق إيفان وخلفاؤه المدن الأخرى بالقروض، وما إن عجزوا عن سدادها، حتى ضمها بالقوة إليه، فسُميت هذه السياسة في المصادر التاريخية سياسة تجميع الأراضي الروسية. هنا أيضاً كانت موسكو تقدّم «الحماية» للفلاحين الهاربين من غارات العشائر البدوية المنفلتة، مقابل تحولهم إلى أقنان. في الحقيقة كانت موسكو بمنزلة شرطي النظام الإداري المغولي في روسيا الذي تحول إلى ما يشبه «باكسا منغوليا» الممتد من البحر الأسود حتى البلطيق. كلفت موسكو قمع الانتفاضات إن حصلت بالنيابة عن «ساراي» وبجمع الضرائب وحماية طرق التجارة ومن هنا ورث الروس النظام الضريبي المزدوج.
نجحت موسكو في مراكمة المزيد من النفوذ والأموال بعد إقناع الكنيسة الأرثوذكسية الروسية بالانتقال إليها بعد خراب كييف وفلاديمير. من جانبها، حرصت ساراي على تكريم الكنيسة في موسكو، فأعفوها من الضرائب وسمحوا لها بجمع الثروات والتوسع في تملّك الأراضي فصارت حليفاً لهم بوجه الفلاحين الذين تحولوا إلى أقنان. منذ بداية تأسيس الجحفل الذهبي حتى عام 1380م لم يكن الروس تحت نير المغول وحدهم، بل تحت نير مثلث ساراي ــ موسكو ــ الكنيسة. لكن برغم تآمر موسكو ضد أبناء جلدتها، فإنها منحتهم الهوية البيزنطية سياسياً كبداية لإطلاق مشروعها الخاص، ما إن اعتنق خانات ساراي الإسلام.
نجح الأمير ديميتري (1359م ــ 1389م) في هزيمة ساراي في معركة كوليكوفو التي أضعفت أسياده السابقين، لكنه لم يقض عليهم. وسيتأخر استقلال روسيا بزعامة موسكو الكامل مئة عام أخرى. استمر الكيان المغولي على الأرض الروسية حتى زحف إيفان الرهيب على خانات التتر وأخذ كازان عام 1552م واستراخان بعاصمتها ساراي 1556م. وسيتم لاحقاً القضاء على آخر الإمارات التترية وهي خانة القرم عام 1783م، بعد مذبحة رهيبة.
الجدل التاريخي حول الحقبة المغولية
يقسم أنيل جيجك النقاش حول هذه الحقبة المظلمة بين صفوف الإنتلجنسيا الروسية إلى ثلاثة مذاهب: تقليدية وسوفييتية وأوراسية. بدأ هذا الانقسام فعلياً مع ظهور عمل المؤرخ الروسي المؤثر نيكولاي كارامزين (تاريخ الدولة الروسية) عام 1818، حين وصف الغزو المغولي بالنعمة التي حلت على بلاده، لأنه لعب دوراً جوهرياً بتوحيد روسيا المقسمة لإمارات صغيرة (Cicek: 2016). يمكن القول إن رأي كارامزين الجريء مثّل أول نقد للرؤية البطرسية أي الرسمية حينها لفكرة روسيا الأوروبية التي أطلقها بطرس الأكبر ضمن مشروعه العظيم لتحديث روسيا (1682م ــ 1725م).
الرؤية البطرسية التقليدية من جانبها لم تكن مهتمة كثيراً لهذه الحقبة، فمثلاً أنت لن تجد في سفر سيرغي سولوفييف الضخم (عن تاريخ روسيا) والمكون من 28 مجلداً سوى ثلاث صفحات للتأثير الثقافي المغولي في روسيا (Figes: 2002, p367)، في حين يقول الشاعر الروسي الخالد بوشكين إنه لم يجلب المغول لروسيا «علم الجبر ولا أرسطو» (Cicek: 2016).
هؤلاء البدو لم يجلبوا إلى روسيا سوى تعزيز الحكم الأوتوقراطي الذي عزز سلطة موسكو على حساب بقية المدن ذات المجالس المحلية الأكثر ديموقراطية وتمثيلاً للسكان والنخب المحلية في أرجاء البلاد كافة. الغزو المغولي حرم روسيا وفق هذه السردية أن تستفيد من فرصة النهضة الأوروبية وإحياء التراث الإغريقي القديم. حتى أنه صار تقليداً روسياً وغربياً يعزون فيه ظهور حكام أقوياء دمويين كإيفان الرهيب، بطرس الأكبر، ستالين، بوتين إلى تأثير الإرث الآسيوي الذي عزّزه المغول. واشتهرت بين هؤلاء مقولة إن كان القياصرة جينكيز خان بتلغراف، فستالين هو جينكيز خان بهاتف! كما يطيب لهؤلاء القول إن الكنيسة صمدت أمام بربرية المغول وحافظت على مسيحية الشعب، رغم التسلط التتري الغاشم. ويرون أن مشيئة الرب وحسن تدبيره حمى روسيا الأوروبية من برها الآسيوي بجبال الأورال، أي إن التدبير الإلهي شاء أن يعزل البرابرة غير المسيحيين خلف الجبال لتبقى روسيا بيضاء مسيحية.
المذهب أو الرؤية الثانية في التعامل مع التجربة المغولية هي الرؤية السوفياتية التي رأت أن تدمير المدن وتفريغها من حرفييها وعمالها والقضاء على برجوازيتها التجارية حرمت روسيا التراكم الرأسمالي الذي سيحدث في غرب أوروبا ويثمر ثورة صناعية، وأبقت البلاد ضعيفة مقسمة وما كان الصعود الموسكوفي سوى بالضد من الرغبة المغولية. يبدو هنا حسب أنيل جيجك أن السوفييت كالتقليديين نسبوا دوراً بطولياً للروس في التصدي للهجمة المغولية على الحضارة الأوروبية بمنعها التتار من المضي غرباً. في النتيجة، ستكون مساهمة الروس في النهضة الأوروبية، عبر دور عسكري بطولي، وليس علمياً أو فكرياً، وذلك بحماية النهضة الأوروبية والتراكم الاقتصادي في أوروبا من الدمار، تماماً كما فعل الإغريق الأحرار أمام الجيش الفارسي المكوّن من عبيد بحمايتهم الديمقراطية من السحق.
أمام هاتين الرؤيتين برزت رؤية ثالثة هي في الأساس لمجموعة رجعية من اللاجئين الروس في المهجر، كانوا ضمن قرابة مليوني روسي من الأقلية التي قُدّر لها أن تحظى بتعليم جيد، نزحوا غرباً، هرباً من ويلات الحرب الأهلية التي أعقبت الثورة البلشفية. يقول ستيفن كوتكين أصدرت مجموعة صغيرة من هؤلاء كتاباً صغيراً في صوفيا عام 1921 بعنوان «النزوح شرقاً» يروج لفكرة أن روسيا ليست إمبراطورية بل حضارة قائمة بحد ذاتها. ستتلقف الأكاديمية الغربية لاحقاً هذه الفكرة وستدفع باتجاه النظر إلى شعوب أواسط آسيا الرعوية والشبه المستقرة على أنها حضارة مستقلة قائمة بذاتها بعكس ما تقوله المصادر التاريخية الصينية والفارسية والروسية المجاورة (Kotkin: 2017, a lecture).
لكن فكرة الهوية الأوراسية تختلف عن الدراسات الأوراسية أو دراسات أواسط آسيا في الغرب. فالأوراسية فكرة سياسية محافظة ترفض القيم الليبرالية وتؤمن بدور روسيا الحضاري، ذات الجذور الآسيوية لا الأوروبية، وبالقوة الأرثوذكسية العالمية لروسيا كقائدة للشعوب السلافية. في النتيجة، على الروس أن يرجعوا لهويتهم الأوراسية التي حرفها بطرس الأكبر بمشروعه التحديثي. ونظرت هذه المجموعة للغزو المغولي على أنه أنقذ روسيا من مصير أوروبا التي تفشّت فيها المذاهب المسيحية الهرطوقية في نظرهم كالكاثوليكية والبروتستانتية، بينما بقيت روسيا مسيحية نقية فلاحية بعيدة عن ثقافة برجوازيي المدن الألمان واليهود الذين هيمنوا على كل المدن الأوروبية في العصور الوسطى المتأخرة وعصر النهضة. كما أجهض الحكم المغولي التطور الديمقراطي السيئ، لمصلحة حكم القياصرة الأوتوقراطي لأنه النموذج الوحيد الصالح لبقاء روسيا قوية وموحدة.
وفق هذه الرؤية حوَّل المغول الروس إلى أقنان يدفعون الضرائب بانتظام ويطيعون الأوامر، ما سمح ببروز روسيا كقوة مركزية فعالة. بعكس بقية السلاف الشرق الأوروبيين، اكتسب الروس من إرثهم الآسيوي عامة صفات الشجاعة الخرافية والصمود الأسطوري والقتال البطولي والكرم والكبرياء والإيمان الأرثوذكسي، أما إخوانهم من سلاف شرق أوروبا، فعاشوا وفق هذه السردية كأذلاء، تابعين، تحت رحمة الإقطاع البولندي والألماني والعقائد المسيحية «المنحرفة».

السردية البديلة للحقبة المظلمة
يركز أتباع المدرسة التقليدية في التاريخ الروسي على مسألة العنف والدمار الذي ألحقه المغول بالمجتمع والحضارة في روسيا. لهذا نجد في الميثيولوجيا القومية وصفاً مفصلاً لفظائع السنوات الأولى للغزو المغولي. لكنّ مختصاً بالشأن الروسي كأورلاندو فيغز يهزأ من روايات العنف ضد الفلاحين الروس، لأنه يرى أن العنف المغولي على مدى 250 عاماً لم يحصل إلا في البداية فقط بشكله الممنهج، وضد بضع مدن ومناطق محددة. ويقول فيغز إنه بعكس الأسطورة القومية التقليدية لم يحتج المغول إلى اختبار قوتهم مع الروس الذين أبدوا عامة تعاوناً كبيراً. حتى أن التجارة والصناعة والحرف استمرت بتطورها بلا انقطاع على عكس ما تقوله السردية السوفييتية. هذا فضلاً عن حقيقة أن الجزء الأعظم من مداخيل الخزانة المغولية كان يأتي من تجارة الحرير المربحة لا ضرائب الفلاحين. كما لم تحصل حركة نزوح ملفتة من الجنوب الروسي الملاصق لمناطق استيطان المغول في روسيا نحو الشمال والغرب. لكن ما حدث حقيقة هو هجرة الكثير من أبناء المدن المدمرة أول غزو باتو خان نحو الشمال وموسكو تحديداً التي نمت قوتها بفضلهم (Figes: 2002, p366-367).
أمام كل هذه الأساطير التفسيرية التي تطرحها السرديات الآنفة، نجد هناك من يستسهل فعلاً ظهور كيان هائل المساحة كروسيا، ويتعامل معه كمعطى طبيعي، لأرض يسكنها قوم يتحدثون هذه اللغة وكفى، أو أن مدناً نهرية وسهلية متباعدة تتاجر بالفراء والرقيق والأخشاب على ضفاف الفولغا ستعرف كيف توحد كل هذه الأرض! ومع اختلافنا مع العديد من مبادئها الرجعية ومقولاتها الفارغة، فإن تفسير المدرسة الأوراسية هو الأكثر منطقية، أي إن «الأب المؤسس» لهذا الكيان الهائل هو جينكيز خان. لم يكن لأمة أن تفلح في توحيد كل هذه المساحات الشاسعة من هنغاريا إلى كوريا، لو لم تكن أمة بدوية مقاتلة، ذات مشروع تجاري وحضاري طموح وذلك ما كانه المغول. في الحقيقة إن كان للمغول من هبة إضافية ليقدموها إلى العالم كالفروسية، وسمرقند، وتاج محل، وعلوم الفلك والرياضيات، وإحياء التراث واللغة الفارسية، فهي بلا شك روسيا.
بمعنى آخر: لقد علَّم المغول الروس المتعاونين معهم في دوقية موسكو كيف تُدار أراض شاسعة بنظام مركزي لتؤسس بعدها لكيان إمبراطوري، ببريد فعال، يعضده سلاح فرسان سريع وخفيف وقوي، على طول البر الأوراسي. وهو نموذج من الكيانات السياسية حُرمت منه أمم أخرى صغيرة كبولندا وهنغاريا ولاتفيا، بل حظي بعضها بنخب عسكرية إقطاعية ألمانية استعبدتها وبدلت عقيدتها. لم تكن دولة القبجاق في ساراي دولة بدوية بالمعنى البدائي، فنحن نتحدث عن أحفاد جينكيز خان أي الجيل الثاني ــ حيث تسلم باتو خان مبكراً ــ وهؤلاء وظفوا آلاف الإداريين الفرس والصينيين والعرب والترك والأرمن لإدارة إمبراطوريتهم أينما حلوا؛ بمعنى أن المغول كانوا متفوقين بكثير من الجوانب الحضارية والسياسية والعسكرية والإدارية على الروس. ويمكن تتبع أثر المغول في بناء الدولة الروسية وجيشها، ومرّ معنا كيف كانت موسكو المستفيد الأول من مجيء المغول فتحولت من دوقية لإمارة إلى مملكة في أحشاء النظام المغولي الذي أخذ يشيخ تدريجياً حتى ورثته موسكو.

التركة المغولية
يمكن ملاحظة تأثير المغول اللغوي في الروسية اليوم في المفردات الإدارية والعسكرية مثل: حصان، بازار، تمغا، دنغا (مال)، تارخان (البريد)، كازنا (خزنة)، أيام (المالية)... إلخ، كنتيجة لهذه العملية. أما على مستوى اللغة الشعبية، فالأمثلة كثيرة ولكن أشهرها كلمة «دافاي» التي تعني أموراً كثيرة منها «هيا بنا»، فهي من أصل تركستاني، بل إن الروس ورثوا لقب زار (tzar) الذي يترجم لدينا بقيصر قد ورثه ملوك موسكو من آخر خانات ساراي. حتى أن كلاً من جينكيز خان، وباتو خان حملا لقب زار فكان الأول يلقب بجينكيز زار أحياناً. يقول فيغز إن عدداً ضخماً من أرستقراطية موسكو كانوا من أصول مغولية، ومن أحفاد جينكيزخان ونبلاء عشيرته، إذ إنهم التحقوا ببلاط القياصرة في موسكو بعد تدهور أوضاع ساراي، وظهر منهم وزراء وقادة وسفراء وضباط (Figes: 2002, p369). كما أن الريف وخاصة منطقة موسكو تعرضت لهجرات آسيوية كثيفة واختلطت دماء الفلاحين بالغزاة، ومن هنا ظهر رأي المدرسة الأوراسية في أن تأثير الثقافة البيزنطية والأوروبية عموماً في الفلاحين وهم أغلبية الشعب كان سطحياً. والجدير بالذكر أن لينين نفسه من أرومة تركستانية يعتقد أنها وردت لروسيا مع التوسع المغولي وتحول أجداده من الشامانية إلى المسيحية لاحقاً (Figes: 2002, p375).

لنا بدورنا أن نتساءل هل كان ممكناً لأربعة قرون من النير العثماني أن لا تكون سوى قصص قمع وظلم وفساد وإكراه


وإذا انتقلنا بسرعة إلى الموسيقى الروسية وإلى الحكايات الشعبية والرقصات والأزياء وحتى المسيحية الشعبية، كل ذلك متأثر بشكل كبير بالعمق الآسيوي لروسيا. حتى أن أبا الموسيقى الروسية الكلاسيكية الملحن بالاكيريف كان أيضاً من أرومة تترية وظل يفتخر بذلك. يبدو أن الانفتاح الثقافي الروسي على الشرق متأصّل وليس استشراقياً على الطريقة الغربية، فمثلاً في مسرحية الأمير إيغور السمفونية الراقصة في القرن التاسع عشر وهي من أهم الأعمال الموسيقية الروسية تحضر ألحان ذات أصول جزائرية وتونسية وجزيرية (من شبه الجزيرة العربية) وأوزبكستانية وتركمانية بشكل ملفت (Figes: 2002, p384).
عموماً، يسقط اليوم من السردية الرسمية الدور المغولي في حماية روسيا من التوسع الغربي، وهو ما يرد في السردية الأوراسية. تقول هذه السردية إنه بعد أن خدمت أجيال من الشباب الروسي في الجيوش المغولية، تعلم الروس من المغول فنون الحرب البدوية الخاطفة، وحيل الالتفاف والإطباق على الخصم كما تخاض في السهوب (يبدو أن القوزاق وهم بدو الروس سيحلون محل التشكيلات المغولية مستقبلاً)، أي إنهم أعادوا هيكلة جيوشهم على طريقة المغول لا غرمائهم الأوروبيين، وهو ما حمى هوية البلاد الأرثوذكسية في نظر المدرسة الأوراسية من التوسع الصليبي الغربي الذي كان قد وصل إلى تخومهم (Cicek: 2016).
تمكنت القوات الروسية الجديدة المطعمة بالخيالة التترية السريعة من ردع أعداء أشداء كالبولنديين، واللاتفيين، والليتوانيين، وعززوا انتصار إمارة نوفورغراد منافسة موسكو القديمة على الغربيين، كما التحالف المغولي الموسكوفي بالتصدي كذلك لتنظيم الفرسان التيوتون الصليبي الذي اشتهر بإبادة الفلاحين الأرثوذكس، وتقديم أرضهم للمستوطنين الكاثوليك الألمان كما فعلت الإمارات الصليبية في بلاد الشام. لكن في المقابل يردّ أصحاب المدرسة التقليدية التي تؤمن بالتجربة الأوروبية بأن روسيا حقيقة خسرت بذلك أوروبيتها وكان من الأفضل لو وقعت بيد الصليبيين بدل التتار! كما تجادل هذه المدرسة بأن التتار فشلوا في حماية كييف، وانهزموا أكثر من مرة من الليتوانيين، وهناك مبالغة بدورهم وتأثيرهم في بنية الجيش.

خاتمة
من الواضح أن روسيا ما قبل الغزو المغولي ليست كما بعده، وأن مزيجاً من التعايش واقتناص الفرص والتحالف والتواطؤ سمح للنخبة الروسية بشق طريقها الوعر. السجال التاريخي الروسي أعلاه لم يكن وافياً، لكنني آمل أن أكون قد أنرت على حقبة مظلمة من تاريخ العالم، ستساعدنا على إعادة قراءة الحقبة العثمانية لنفهمها أكثر، كما فعلت الإنتلجنسيا الروسية. فإن كان الروس وجدوا هذا الكمّ الهائل من المنافع الاستراتيجية والثقافية من الحقبة المغولية، لنا بدورنا أن نتساءل هل كان ممكناً لأربعة قرون من النير العثماني أن لا تكون سوى قصص قمع وظلم وفساد وإكراه؟ ألا يمكن أن نفترض أن هناك شروطاً إيجابية ما مكّنتهم من الاستمرار كل هذا الوقت؟ دعوتي هي أن نعيد قراءة كل تاريخنا أكثر من مرة.
وللموضوع تتمة...
* باحث عراقي